الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                      صفحة جزء
                                                                                      [ إسلام عمرو بن العاص وخالد بن الوليد ] وفيها أسلم عمرو بن العاص ، وخالد بن الوليد .

                                                                                      قال الواقدي : أخبرنا عبد الحميد بن جعفر ، عن أبيه ، قال : قال عمرو بن العاص : كنت للإسلام مجانبا معاندا ، حضرت بدرا مع المشركين فنجوت ، ثم حضرت أحدا والخندق فنجوت ، فقلت في [ ص: 112 ] نفسي ، كم أوضع ، والله ليظهرن محمد على قريش : فلحقت بمالي بالوهط . فلما كان صلح الحديبية ، جعلت أقول : يدخل محمد قابلا مكة بأصحابه ، ما مكة بمنزل ولا الطائف ، وما شيء خير من الخروج . فقدمت مكة فجمعت رجالا من قريش كانوا يرون رأيي ويسمعون مني ، فقلت : تعلمون - والله - إني لأرى أمر محمد يعلو علوا منكرا ، وإني قد رأيت رأيا . قالوا : وما هو ؟ قلت : نلحق بالنجاشي فنكون معه ، فإن يظهر محمد كنا عند النجاشي ، أحب إلينا من أن نكون تحت يد محمد . وإن تظهر قريش فنحن من قد عرفوا . قالوا : هذا الرأي . قلت : فاجمعوا ما تهدونه له ، وكان أحب ما يهدى إليه من أرضنا الأدم .

                                                                                      فجمعنا له أدما كثيرا ، ثم خرجنا حتى أتيناه ، فإنا لعنده ، إذ جاء عمرو بن أمية الضمري بكتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي ليزوجه بأم حبيبة بنت أبي سفيان عليه ثم خرج من عنده ، فقلت لأصحابي : لو دخلت على النجاشي ، فسألته هذا فأعطانيه لقتلته لأسر بذلك قريشا . فدخلت عليه فسجدت له فقال : مرحبا بصديقي ، أهديت لي من بلادك شيئا ؟ قلت : نعم ؛ أيها الملك أهديت لك أدما ، وقربته إليه ، فأعجبه ، ففرق منه أشياء بين بطارقته ، ثم قلت : إني رأيت رجلا خرج من عندك وهو رسول عدو لنا قد وترنا وقتل أشرافنا ، فأعطنيه فأقتله ، فغضب ورفع يده فضرب بها أنفي ضربة ظننت أنه كسره ، فابتدر منخراي فجعلت أتلقى الدم بثيابي ، فأصابني من ذلك الذل ما لو انشقت لي الأرض دخلت فيها فرقا منه . ثم قلت : أيها الملك : لو ظننت أنك تكره ما قلت ما سألتكه . قال : فاستحيا ، وقال : يا عمرو ، تسألني أن أعطيك رسول من يأتيه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى وعيسى عليهما [ ص: 113 ] السلام لتقتله ؟ قال عمرو : وغير الله قلبي عما كنت عليه ، وقلت في نفسي : عرف هذا الحق العرب والعجم وتخالف أنت ؟ قلت : أتشهد أيها الملك بهذا ؟ قال : نعم ؛ أشهد به عند الله يا عمرو ، فأطعني واتبعه ، فوالله إنه لعلى الحق ، وليظهرن على من خالفه ، كما ظهر موسى على فرعون . قلت : أفتبايعني على الإسلام ؟ قال : نعم ، فبسط يده فبايعني على الإسلام ، ثم دعا بطست ، فغسل عني الدم ، وكساني ثيابا ، وكانت ثيابي قد امتلأت بالدم فألقيتها .

                                                                                      وخرجت على أصحابي - فلما رأوا كسوة النجاشي سروا بذلك ، وقالوا : هل أدركت من صاحبك ما أردت ؟ فقلت : كرهت أن أكلمه في أول مرة ، وقلت أعود إليه - ففارقتهم ، وكأني أعمد لحاجة - فعمدت إلى موضع السفن فأجد سفينة قد شحنت تدفع . فركبت معهم ، ودفعوها حتى انتهوا إلى الشعيبة ، وخرجت من الشعيبة ومعي نفقة ، فابتعت بعيرا ، وخرجت أريد المدينة ، حتى خرجت على مر الظهران . ثم مضيت حتى إذا كنت بالهدة ، فإذا رجلان قد سبقاني بغير كثير ، يريدان منزلا ، وأحدهما داخل في خيمة ، والآخر قائم يمسك الراحلتين . فنظرت فإذا خالد بن الوليد . فقلت : أبا سليمان ؟ قال : نعم . قلت : أين تريد ؟ قال : محمدا ، دخل الناس في الإسلام فلم يبق أحد به طعم ، والله لو أقمت لأخذ برقابنا كما يؤخذ برقبة الضبع في مغارتها . قلت : وأنا والله قد أردت محمدا وأردت الإسلام . فخرج عثمان بن طلحة ، فرحب بي ، فنزلنا جميعا ثم ترافقنا إلى المدينة ، فما أنسى قول رجل لقينا بدير أبي عنبة يصيح : يا رباح ، يا رباح . فتفاءلنا بقوله ، وسرنا ثم نظر إلينا ، فأسمعه يقول : قد أعطت مكة المقادة بعد هذين . فظننت أنه [ ص: 114 ] يعنيني ويعني خالد بن الوليد . وولى مدبرا إلى المسجد سريعا فظننت أنه بشر النبي صلى الله عليه وسلم بقدومنا ، فكان كما ظننت . وأنخنا بالحرة فلبسنا من صالح ثيابنا ، ونودي بالعصر ، فانطلقنا حتى اطلعنا عليه ، وإن لوجهه تهللا ، والمسلمون حوله قد سروا بإسلامنا . وتقدم خالد فبايع ، ثم تقدم عثمان بن طلحة فبايع ، ثم تقدمت فوالله ما هو إلا أن جلست بين يديه ، فما استطعت أن أرفع طرفي إليه حياء منه ، فبايعته على أن يغفر لي ما تقدم من ذنبي ، ولم يحضرني ما تأخر . فقال : " إن الإسلام يجب ما كان قبله ، والهجرة تجب ما كان قبلها " فوالله ما عدل بي رسول الله صلى الله عليه وسلم وبخالد أحدا في أمر حزبه منذ أسلمنا ، ولقد كنا عند أبي بكر بتلك المنزلة ، ولقد كنت عند عمر بتلك الحال ، وكان عمر على خالد كالعاتب .

                                                                                      قال عبد الحميد بن جعفر : فذكرت هذا الحديث ليزيد بن أبي حبيب ، فقال : أخبرني راشد مولى حبيب بن أوس الثقفي ، عن حبيب ، عن عمرو ; نحو ذلك . فقلت ليزيد : ألم يوقت لك متى قدم عمرو وخالد ؟ قال : لا ، إلا أنه قال : قبل الفتح . قلت : فإن أبي أخبرني أن عمرا وخالدا وعثمان قدموا المدينة لهلال صفر سنة ثمان .

                                                                                      وقال يونس بن بكير ، عن ابن إسحاق : حدثني يزيد بن أبي حبيب ، عن راشد مولى حبيب ، عن حبيب بن أبي أوس ، قال : حدثني عمرو بن العاص ، قال : لما انصرفنا من الخندق ، جمعت رجالا من قريش ، فقلت : والله إني لأرى أمر محمد يعلو علوا منكرا ، والله ما يقوم له شيء ، وقد رأيت رأيا ما أدري كيف رأيكم فيه ؟ قالوا : وما هو ؟ قلت : أن نلحق بالنجاشي . فذكر الحديث ، لكن فيه : فضرب بيده أنف [ ص: 115 ] نفسه حتى ظننت أنه قد كسره . والباقي بمعناه مختصرا .

                                                                                      وقال الواقدي : حدثني يحيى بن المغيرة بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام ، قال : سمعت أبي يحدث عن خالد بن الوليد ، قال : لما أراد الله بي ما أراد من الخير قذف في قلبي الإسلام ، وحضرني رشدي ، وقلت : قد شهدت هذه المواطن كلها على محمد فليس موطن أشهده إلا أنصرف وأنا أرى في نفسي أني موضع في غير شيء ، وأن محمدا سيظهر . فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحديبية ، خرجت في خيل المشركين ، فلقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه بعسفان ، فأقمت بإزائه وتعرضت له ، فصلى بأصحابه الظهر أمامنا ، فهممنا أن نغير عليه ، ثم لم يعزم لنا ، وكانت فيه خيرة ، فاطلع على ما في أنفسنا من الهموم ، فصلى بأصحابه صلاة العصر صلاة الخوف . فوقع ذلك منا موقعا ، وقلت : الرجل ممنوع . فافترقنا ، وعدل عن سنن خيلنا ، وأخذت ذات اليمين .

                                                                                      فلما صالح قريشا قلت : أي شيء بقي ؟ أين المذهب ؟ إلى النجاشي ؟ فقد اتبع محمدا ، وأصحابه عنده آمنون . فأخرج إلى هرقل ؟ فأخرج من ديني إلى النصرانية أو اليهودية فأقيم مع عجم تابعا مع عيب ذلك ؟ أو أقيم في داري فيمن بقي ؟ فأنا على ذلك ، إذ دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم في عمرة القضية ، فتغيبت .

                                                                                      وكان أخي الوليد بن الوليد قد دخل مع النبي صلى الله عليه وسلم في عمرة القضية ، فطلبني فلم يجدني ، فكتب إلي كتابا فإذا فيه : أما بعد ; فإني لم أر أعجب من ذهاب رأيك عن الإسلام . وعقلك عقلك ، ومثل الإسلام يجهله أحد ؟ قد سألني رسول الله صلى الله عليه وسلم عنك فقال : أين خالد ؟ فقلت : [ ص: 116 ] يأتي الله به . فقال : ما مثله جهل الإسلام ، ولو كان جعل نكايته وجده مع المسلمين على المشركين كان خيرا له ولقدمناه على غيره ، فاستدرك يا أخي ما قد فاتك . فلما جاءني كتابه ، نشطت للخروج ، وزادني رغبة في الإسلام ، وأرى في النوم كأني في بلاد ضيقة جدبة ، فخرجت إلى بلاد خضراء واسعة ، قلت : إن هذه لرؤيا .

                                                                                      فلما قدمنا المدينة ، قلت : لأذكرنها لأبي بكر ، فذكرتها ، فقال : هو مخرجك الذى هداك الله للإسلام ، والضيق هو الشرك . قال : فلما أجمعت الخروج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قلت : من أصاحب إلى محمد ؟ فلقيت صفوان بن أمية ، فقلت : يا أبا وهب ، أما ترى ما نحن فيه ، إنما كنا كأضراس ، وقد ظهر محمد على العرب والعجم ، فلو قدمنا على محمد فاتبعناه فإن شرفه لنا شرف . فأبى أشد الإباء ، وقال : لو لم يبق غيري ما اتبعته أبدا . فافترقنا وقلت : هذا رجل قتل أخوه وأبوه ببدر . فلقيت عكرمة بن أبي جهل فقلت له مثل ما قلت لصفوان ، فقال لي مثل ما قال صفوان : قلت : فاكتم ذكر ما قلت لك . وخرجت إلى منزلي ، فأمرت براحلتي أن تخرج إلى أن ألقى عثمان بن طلحة . فقلت : إن هذا لي صديق ، فذكرت له ، فقال : نعم ؛ إني عمدت اليوم ، وأنا أريد أن أغدو ، وهذه راحلتي بفخ مناخة . قال : فاتعدت أنا وهو بيأجج ، وأدلجنا سحرا ، فلم يطلع الفجر حتى ألتقينا بيأجج ، فغدونا حتى انتهينا إلى الهدة ، فنجد عمرو بن العاص بها ، فقال : مرحبا بالقوم . فقلنا : وبك . فذكر الحديث . وقال : كان قدومنا في صفر سنة ثمان ، فوالله ما كان رسول الله من يوم أسلمت يعدل بي أحدا من أصحابه فيما حزبه . [ ص: 117 ]

                                                                                      التالي السابق


                                                                                      الخدمات العلمية