الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                        صفحة جزء
                        فصل

                        قال الله تعالى : ياأيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون .

                        روي في سبب نزول هذه الآية أخبار جملتها تدور على معنى واحد ، وهو تحريم ما أحل الله من الطيبات ؛ تدينا أو شبه التدين ، والله نهى عن ذلك ، وجعله اعتداء ، والله لا يحب المعتدين ، ثم قرر الإباحة تقريرا زائدة على ما تقرر بقوله : وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا ، ثم أمرهم بالتقوى ، وذلك مشعر بأن تحريم ما أحل الله خارج عن درجة التقوى .

                        فخرج إسماعيل القاضي من حديث أبي قلابة ؛ قال : أراد ناس من [ ص: 418 ] أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرفضوا الدنيا وتركوا النساء وترهبوا ، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فغلظ فيهم المقالة ، فقال : إنما هلك من كان قبلكم بالتشديد ، شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم ، فأولئك بقاياهم في الديار والصوامع ، اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا ، وحجوا واعتمروا ، واستقيموا يستقم بكم .

                        قال : نزلت فيهم : ياأيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم
                        .

                        وفي الترمذي عن ابن عباس ؛ قال : إن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا رسول الله ! إني إذا أصبت اللحم انتشرت للنساء ، وأخذتني شهوتي فحرمت علي اللحم ، فأنزل الله الآية .

                        حديث حسن .

                        وفي رواية عن ابن عباس رضي الله عنهما ؛ قال : نزلت هذه الآية في رهط من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، منهم أبو بكر وعمر وعلي وابن مسعود وعثمان بن مظعون والمقداد بن الأسود الكندي وسالم مولى أبي حذيفة ، [ ص: 419 ] اجتمعوا في دار عثمان بن مظعون الجمحي ، فتوافقوا أن يجبوا أنفسهم ؛ بأن يعتزلوا النساء ، ولا يأكلوا لحما ولا دسما ، وأن يلبسوا المسوح ، ولا يأكلوا من الطعام إلا قوتا ، وأن يسيحوا في الأرض كهيئة الرهبان .

                        فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمرهم ، فأتى عثمان بن مظعون في منزله ، فلم يجده فيه ولا إياهم ، فقال لامرأة عثمان أم حكيم ابنة أبي أمية بن حارثة السلمي : " أحق ما بلغني عن زوجك وأصحابه ؟ " .

                        قالت : ما هو يا رسول الله ؟

                        فأخبرها ، فكرهت أن لا تحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكرهت أن تبدي على زوجها ، فقالت : إن كان أخبرك عثمان فقد صدق .

                        فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : قولي لزوجك وأصحابه إذا رجعوا : إن رسول الله يقول لكم : إني آكل وأشرب ، وآكل اللحم والدسم ، وأنام وآتي النساء ، فمن رغب عن سنتي ؛ فليس مني .

                        فلما رجع عثمان وأصحابه أخبرتهم امرأته بما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : لقد بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا فما أعجبه ، فذروا ما كره رسول الله صلى الله عليه وسلم .

                        ونزل فيها : ياأيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم


                        [ ص: 420 ] قال : من الطعام والشراب والجماع ، ولا تعتدوا ، قال : في قطع المذاكير ، إن الله لا يحب المعتدين ؛ قال : الحلال إلى الحرام .

                        وفي الصحيح عن عبد الله ؛ قال : كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس معنا نساء ، فقلنا : ألا نختصي ؟ فنهانا عن ذلك ، فرخص لنا بعد ذلك أن نتزوج المرأة بالثوب ( إلى أجل ) ؛ يعني ـ والله أعلم ـ : نكاح المتعة المنسوخ .

                        ثم قرأ ابن مسعود : ياأيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم


                        وذكر إسماعيل عن يحيى بن يعمر : أن عثمان بن مظعون هم بالسياحة وهو يصوم النهار ويقوم الليل ، وكانت امرأته امرأة عطرة ، فتركت الكحل والخضاب ، فقالت لها امرأة من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم : أشهيد أنت أم مغيب ؟ فقالت : بل شهيد ؛ غير أن عثمان لا يريد النساء ، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم ، فلقيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال له : " أتؤمن بما نؤمن به ؟ " ، قال : نعم ، قال : " فاصنع مثل ما نصنع ، لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم . . . الآية .

                        وخرج سعيد بن منصور عن خضير عن أبي مالك ؛ قال : " نزلت في عثمان بن مظعون وأصحابه ، كانوا حرموا عليهم كثيرا من الطعام والنساء ، وهم بعضهم أن يقطع ذكره ، فأنزل ( الله تعالى ) :ياأيها الذين آمنوا لا تحرموا الآية .

                        [ ص: 421 ] وعن قتادة ؛ قال : " نزلت في ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أرادوا أن يتخلوا عن الدنيا ، وتركوا النساء ، وترهبوا ؛ منهم علي بن أبي طالب وعثمان بن مظعون " .

                        وخرج ابن المبارك أن عثمان بن مظعون أتى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : ائذن لي في الاختصاء .

                        فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ليس منا من خصى ولا اختصى ؛ إن اختصاء أمتي الصيام .

                        قال : يا رسول الله ! ائذن لي في السياحة .

                        قال : إن سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله .

                        قال : يا رسول الله ! ائذن لي في الترهب .

                        قال : إن ترهب أمتي الجلوس في المساجد لانتظار الصلاة
                        .

                        وفي الصحيح : رد رسول الله صلى الله عليه وسلم التبتل على عثمان بن مظعون ، ولو أذن له ؛ لاختصينا .

                        [ ص: 422 ] وهذا كله واضح في أن جميع هذه الأشياء تحريم لما هو حلال في الشرع ، وإهمال لما قصد الشارع إعماله ـ وإن كان يقصد سلوك طريق الآخرة ـ ؛ لأنه نوع من الرهبانية في الإسلام .

                        وإلى منع تحريم الحلال ذهب الصحابة والتابعون ومن بعدهم ؛ إلا أنه إذا كان التحريم غير محلوف عليه ؛ فلا كفارة ، وإن كان محلوفا عليه ؛ ففيه الكفارة ، ويعمل الحالف بما أحل الله له .

                        ومن ذلك ما ذكر إسماعيل القاضي عن معقل بن مقرن : " أنه سأل ابن مسعود ، فقال : إني حلفت أن لا أنام على فراشي سنة ، فتلا عبد الله : ياأيها الذين آمنوا لا تحرموا الآية ، ( ادن فكل ) وكفر عن يمينك ، ونم على فراشك .

                        وفي رواية : " كان معقل يكثر الصوم والصلاة ، فحلف أن لا ينام على فراشه ، فأتى ابن مسعود ( رضي الله عنه ) ، فسأله عن ذلك ؟ فقرأ عليه الآية .

                        وعن المغيرة ؛ قال : " قلت لإبراهيم في هذه الآية : لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ، أهو الرجل يحرم الشيء مما أحل الله له ؟ قال : نعم .

                        وعن مسروق ؛ قال : " أتي عبد الله بضرع ، فقال للقوم : ادنوا ، فأخذوا يطعمون ، فقال رجل : إني حرمت الضرع ، فقال عبد الله : هذا [ ص: 423 ] ( من ) خطوات الشيطان ، ياأيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ، ادن فكل وكفر عن يمينك .

                        وعلى ذلك جرت الفتيا في الإسلام ؛ أن كل من حرم على نفسه شيئا مما أحل الله ؛ له فليس ذلك التحريم بشيء ؛ فليأكل إن كان مأكولا ، وليشرب إن كان مشروبا ، وليلبس إن كان ملبوسا ، وليملك إن كان مملوكا ، وكأنه إجماع منهم منقول عن مالك وأبي حنيفة والشافعي وغيرهم ، واختلفوا في الزوجة ، ومذهب مالك أن التحريم طلاق كالطلاق الثلاث ، وما سوى ذلك فهو باطل ؛ لأن القرآن شهد بكونه اعتداء ، حتى إنه إن حرم على نفسه وطء أمة غيره قاصدا به العتق ؛ فوطؤها حلال ، وكذلك سائر الأشياء من اللباس والمسكن والصمت والاستظلال والاستضحاء . . .

                        وقد تقدم الحديث في الناذر للصوم قائما في الشمس ساكتا ؛ فإنه تحريم للجلوس والاستظلال والكلام ، والنبي صلى الله عليه وسلم أمره بالجلوس والتكلم والاستظلال .

                        قال مالك : " أمره ليتم ما كان له فيه طاعة ، ويترك ما كان عليه فيه معصية " .

                        فتأملوا كيف جعل مالك ترك الحلال معصية ! وهو مقتضى الآية في قوله تعالى : ولا تعتدوا الآية ، ومقتضى قول ابن مسعود رضي الله عنه لصاحب الضرع : " هذا من خطوات الشيطان " .

                        وقد ضعف ابن رشد الحفيد الاستدلال من المالكية بالحديث ، [ ص: 424 ] وتفسير مالك له ، وذكر أن قوله في الحديث : " ويترك ما كان عليه فيه معصية " ليس بالظاهر أن ترك الكلام معصية ، وقد أخبر الله تعالى أنه نذر مريم .

                        قال : " وكذلك يشبه أن يكون القيام للشمس ليس معصية ؛ إلا ما يتعلق من جهة تعب الجسم والنفس ، وقد يستحب للحاج أن لا يستظل ، فإن قيل : فيه معصية ؛ فالقياس على ما نهي عنه من التعب لا بالنص ، والأصل فيه أنه من المباحات " .

                        وما قاله ابن رشد غير ظاهر ، ولم يقل مالك في الحديث ما قال استنباطا منه ، بل الظاهر أنه استدل بالآية المتكلم فيها ، وحمل الحديث عليها ، فترك الكلام ، وإن كان في الشرائع الأولى مشروعا ؛ فهو منسوخ بهذه الشريعة ، فهو عمل في مشروع بغير مشروع ، وكذلك القيام في الشمس زيادة من باب تحريم الحلال ، وإن استحب في موضع ؛ فلا يلزم استحبابه في آخر .

                        التالي السابق


                        الخدمات العلمية