الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 388 ] القول في تأويل قوله تعالى ( فأتوهن من حيث أمركم الله )

قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في تأويل قوله : " فأتوهن من حيث أمركم الله " .

فقال بعضهم : معنى ذلك : فأتوا نساءكم إذا تطهرن من الوجه الذي نهيتكم عن إتيانهن منه في حال حيضهن ، وذلك : الفرج الذي أمر الله بترك جماعهن فيه في حال الحيض .

ذكر من قال ذلك :

4277 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال : حدثنا ابن علية عن محمد بن إسحاق قال : حدثني أبان بن صالح عن مجاهد قال : قال ابن عباس في قوله : " فأتوهن من حيث أمركم الله " ، قال : من حيث أمركم أن تعتزلوهن .

4278 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو صالح قال : حدثنا معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله : " فأتوهن من حيث أمركم الله " ، يقول : في الفرج ، لا تعدوه إلى غيره ، فمن فعل شيئا من ذلك فقد اعتدى .

4279 - حدثني يعقوب قال : حدثنا ابن علية قال : حدثنا خالد الحذاء عن عكرمة في قوله : " فأتوهن من حيث أمركم الله " ، قال : من حيث أمركم أن تعتزلوا .

4280 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : حدثنا أبو صخر عن أبي معاوية البجلي عن سعيد بن جبير أنه قال : بينا أنا ومجاهد جالسان عند ابن عباس : أتاه رجل فوقف على رأسه فقال : يا أبا العباس - أو : يا أبا الفضل - أن لا تشفيني عن آية المحيض؟ قال : بلى! فقرأ : " ويسألونك عن المحيض " [ ص: 389 ] حتى بلغ آخر الآية ، فقال ابن عباس : من حيث جاء الدم ، من ثم أمرت أن تأتي .

4281 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا ابن أبي زائدة عن عثمان عن مجاهد قال : دبر المرأة مثله من الرجل ، ثم قرأ : " ويسألونك عن المحيض " إلى " فأتوهن من حيث أمركم الله " ، قال : من حيث أمركم أن تعتزلوهن .

4282 - حدثنا ابن بشار قال : حدثنا مؤمل قال : حدثنا سفيان عن ابن أبي نجيح عن مجاهد : " فأتوهن من حيث أمركم الله " ، قال : أمروا أن يأتوهن من حيث نهوا عنه .

4283 - حدثنا ابن أبي الشوارب قال : حدثنا عبد الواحد قال : حدثنا خصيف قال حدثني مجاهد : " فأتوهن من حيث أمركم الله " ، في الفرج ، ولا تعدوه .

4284 - حدثنا محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى عن ابن أبي نجيح عن مجاهد : " فأتوهن من حيث أمركم الله " ، يقول : إذا تطهرن فأتوهن من حيث نهي عنه في المحيض .

4285 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم عن سفيان - أو : عثمان بن الأسود - : " فأتوهن من حيث أمركم الله " باعتزالهن منه .

4286 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد عن قتادة قوله : " فأتوهن من حيث أمركم الله " ، أي : من الوجه الذي يأتي منه المحيض ، طاهرا غير حائض ، ولا تعدوا ذلك إلى غيره . [ ص: 390 ]

4287 - حدثنا محمد بن بشار قال : حدثنا عبد الأعلى قال : حدثنا سعيد عن قتادة في قوله : " فأتوهن من حيث أمركم الله " ، قال : طواهر من غير جماع ومن غير حيض ، من الوجه الذي يأتي [ منه ] المحيض ، ولا يتعداه إلى غيره قال سعيد : ولا أعلمه إلا عن ابن عباس .

4288 - حدثت عن عمار قال : حدثنا ابن أبي جعفر عن أبيه عن الربيع في قوله : " فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله " ، من حيث نهيتم عنه في المحيض وعن أبيه ، عن ليث عن مجاهد في قوله : " فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله " ، من حيث نهيتم عنه ، واتقوا الأدبار .

4289 - حدثنا محمد بن المثنى قال : حدثنا ابن إدريس قال : سمعت أبي ، عن يزيد بن الوليد عن إبراهيم في قوله : " فأتوهن من حيث أمركم الله " ، قال : في الفرج .

وقال آخرون : معناها : فأتوهن من الوجه الذي أمركم الله فيه أن تأتوهن منه . وذلك الوجه ، هو الطهر دون الحيض . فكان معنى قائل ذلك في الآية : فأتوهن من قبل طهرهن لا من قبل حيضهن .

ذكر من قال ذلك :

4290 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال [ ص: 391 ] حدثني أبي ، عن أبيه عن ابن عباس : " فأتوهن من حيث أمركم الله " ، يعني أن يأتيها طاهرا غير حائض .

4291 - حدثنا محمد بن بشار قال : حدثنا أبو أحمد قال : حدثنا سفيان عن منصور عن أبي رزين في قوله : " فأتوهن من حيث أمركم الله " ، قال : من قبل الطهر .

4292 - حدثنا محمد بن بشار قال : حدثنا محمد بن يحيى قال : حدثنا سفيان عن الأعمش عن أبي رزين بمثله .

4293 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا حكام عن عمرو عن منصور عن أبي رزين : " فأتوهن من حيث أمركم الله " ، يقول : ائتوهن من عند الطهر .

4294 - حدثني محمد بن عبيد المحاربي قال : حدثنا علي بن هاشم عن الزبرقان عن أبي رزين : " فأتوهن من حيث أمركم الله " ، قال : من قبل الطهر ، ولا تأتوهن من قبل الحيضة .

4295 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا يحيى بن واضح قال : حدثنا عبيد الله العتكي عن عكرمة قوله : " فأتوهن من حيث أمركم الله " ، يقول : إذا اغتسلن فأتوهن من حيث أمركم الله . يقول : طواهر غير حيض .

4296 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر عن قتادة في قوله : " فأتوهن من حيث أمركم الله " ، قال : يقول : طواهر غير حيض .

4297 - حدثني موسى بن هارون قال حدثنا عمرو بن حماد قال : حدثنا [ ص: 392 ] أسباط عن السدي قوله : " من حيث أمركم الله " ، من الطهر .

4298 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبي ، عن سلمة بن نبيط عن الضحاك : " فأتوهن " ، طهرا غير حيض .

4299 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال : سمعت أبا معاذ قال : حدثنا عبيد بن سليمان عن الضحاك قوله : " فأتوهن من حيث أمركم الله " ، قال : ائتوهن طاهرات غير حيض .

4300 - حدثنا عمرو بن علي قال : حدثنا وكيع قال : حدثنا سلمة بن نبيط عن الضحاك : " فأتوهن من حيث أمركم الله " ، قال : طهرا غير حيض في القبل .

وقال آخرون : بلى معنى ذلك : فأتوا النساء من قبل النكاح ، لا من قبل الفجور .

ذكر من قال ذلك :

4301 - حدثنا عمرو بن علي قال : حدثنا وكيع قال : حدثنا إسماعيل الأزرق عن أبي عمر الأسدي عن ابن الحنفية : " فأتوهن من حيث أمركم الله " ، قال : من قبل الحلال ، من قبل التزويج .

قال أبو جعفر : وأولى الأقوال بالصواب في تأويل ذلك عندي قول من قال : معنى ذلك : فأتوهن من قبل طهرهن . وذلك أن كل أمر بمعنى ، فنهي عن خلافه وضده . وكذلك النهي عن الشيء أمر بضده وخلافه . فلو كان معنى قوله : " فأتوهن من حيث أمركم الله " ، فأتوهن من قبل مخرج الدم الذي نهيتكم أن تأتوهن من قبله في حال حيضهن - لوجب أن يكون قوله : " ولا تقربوهن حتى يطهرن " [ ص: 393 ] تأويله : ولا تقربوهن في مخرج الدم ، دون ما عدا ذلك من أماكن جسدها ، فيكون مطلقا في حال حيضها إتيانهن في أدبارهن .

وفي إجماع الجميع : على أن الله تعالى ذكره لم يطلق في حال الحيض من إتيانهن في أدبارهن شيئا حرمه في حال الطهر ، ولا حرم من ذلك في حال الطهر شيئا أحله في حال الحيض ما يعلم به فساد هذا القول .

وبعد ، فلو كان معنى ذلك على ما تأوله قائلو هذه المقالة ، لوجب أن يكون الكلام : فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله حتى يكون معنى الكلام حينئذ على التأويل الذي تأوله ، ويكون ذلك أمرا بإتيانهن في فروجهن . لأن الكلام المعروف إذا أريد ذلك ، أن يقال : " أتى فلان زوجته من قبل فرجها " - ولا يقال : أتاها من فرجها - إلا أن يكون أتاها من قبل فرجها في مكان غير الفرج .

فإن قال لنا قائل : فإن ذلك وإن كان كذلك ، فليس معنى الكلام : فأتوهن في فروجهن - وإنما معناه : فأتوهن من قبل قبلهن في فروجهن - ، كما يقال : " أتيت هذا الأمر من مأتاه " .

قيل له : إن كان ذلك كذلك ، فلا شك أن مأتى الأمر ووجهه غيره ، وأن ذلك مطلبه . فإن كان ذلك على ما زعمتم ، فقد يجب أن يكون معنى قوله : " فأتوهن من حيث أمركم الله " ، غير الذي زعمتم أنه معناه بقولكم : ائتوهن من قبل مخرج الدم ، ومن حيث أمرتم باعتزالهن - ولكن الواجب أن يكون تأويله على ذلك : فأتوهن من قبل وجوههن في أقبالهن ، كما كان قول القائل : " ائت الأمر من مأتاه " ، إنما معناه : اطلبه من مطلبه ، ومطلب الأمر غير الأمر المطلوب . [ ص: 394 ] فكذلك يجب أن يكون مأتى الفرج - الذي أمر الله في قولهم بإتيانه - غير الفرج .

وإذا كان كذلك ، وكان معنى الكلام عندهم : فأتوهن من قبل وجوههن في فروجهن - وجب أن يكون على قولهم محرما إتيانهن في فروجهن من قبل أدبارهن . وذلك إن قالوه ، خرج من قاله من قيل أهل الإسلام ، وخالف نص كتاب الله تعالى ذكره ، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم . وذلك أن الله يقول : ( نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم ) وأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في إتيانهن في فروجهن من قبل أدبارهن .

فقد تبين إذا ، إذ كان الأمر على ما وصفنا ، فساد تأويل من قال ذلك : فأتوهن في فروجهن حيث نهيتكم عن إتيانهن في حال حيضهن ، وصحة القول الذي قلناه ، وهو أن معناه : فأتوهن في فروجهن من الوجه الذي أذن الله لكم بإتيانهن ، وذلك حال طهرهن وتطهرهن ، دون حال حيضهن .

التالي السابق


الخدمات العلمية