الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  143 9 - حدثنا عبد الله بن محمد قال : حدثنا هاشم بن القاسم قال : حدثنا ورقاء عن عبيد الله بن أبي يزيد ، عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل الخلاء فوضعت له وضوءا ، قال : من وضع هذا ؟ فأخبر ، فقال : اللهم فقهه في الدين .

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقة الحديث للترجمة ظاهرة .

                                                                                                                                                                                  ( بيان رجاله ) وهم خمسة :

                                                                                                                                                                                  الأول : عبد الله بن محمد الجعفي المسندي ، مر في باب أمور الإيمان .

                                                                                                                                                                                  الثاني : هاشم بن القاسم أبو النضر بالنون والضاد المعجمة التميمي الليثي الكناني الخراساني ، نزل بغداد وتلقب بقيصر ، وهو حافظ ثقة ، صاحب سنة ، كان أهل بغداد يفتخرون به ، مات سنة سبع ومائتين عن ثلاث وسبعين سنة ، وليس في الكتب الستة هاشم بن القاسم سواه ، وفي ابن ماجه وحده هاشم بن القاسم الحراني شيخه ، ولا ثالث فيهما سواهما .

                                                                                                                                                                                  الثالث : ورقاء مؤنث الأورق ابن عمر اليشكري الكوفي أبو بشر ، ويقال : أصله من خوارزم ، سكن المدائن ، قال أبو داود الطيالسي : قال لي شعبة : عليك بورقاء فإنك لن ترى عيناك مثله ، روى عن عبيد الله هذا وغيره ، وعنه الفريابي ويحيى بن آدم صدوق صالح ، قيل مات سنة تسع وستين ومائة ، وليس في الكتب الستة ورقاء غيره .

                                                                                                                                                                                  الرابع : عبيد الله بالتصغير ابن أبي يزيد من الزيادة المكي ، مولى آل قارظ بالقاف وبالراء وبالظاء المعجمة ، من حلفاء بني زهرة ، كان ثقة كثير الحديث ، مات سنة ست وعشرين ومائة ، وليس في الكتب الستة عبيد الله بن أبي يزيد غيره ، نعم في النسائي عبيد الله بن يزيد الطائفي روى عن ابن عباس أيضا ، ووقع في رواية الكشميهني عبيد الله بن أبي زائدة ، وهو غلط ، والصحيح : ابن أبي يزيد ، ولا يعرف اسمه .

                                                                                                                                                                                  الخامس : عبد الله بن عباس رضي الله عنهما .

                                                                                                                                                                                  ( بيان لطائف إسناده ) منها أن فيه التحديث والعنعنة ، ومنها أن رواته ما بين بغدادي وكوفي ومكي ، ومنها أنه على شرط الستة خلا شيخ البخاري ; فإنه من رجاله ورجال الترمذي فقط ، ومنها أن هذا الحديث من الأحاديث التي صرح ابن عباس فيها بالسماع من رسول الله - صلى الله تعالى عليه وآله وسلم - .

                                                                                                                                                                                  ( بيان من أخرجه غيره ) أخرجه مسلم في فضائل ابن عباس عن [ ص: 274 ] زهير بن حرب وأبي بكر بن أبي النضر كلاهما عن هاشم بن القاسم عن ورقاء عنه به ، وأخرجه النسائي في المناقب عن أبي بكر بن أبي النضر به .

                                                                                                                                                                                  ( بيان اللغات ) قوله : « وضوءا " بفتح الواو ، وهو الماء الذي يتوضأ به ، وبالضم المصدر ، وقد مر تحقيقه في أول كتاب الوضوء ، قوله : « فقهه في الدين " من الفقه ، وهو في اللغة الفهم ، تقول فقه الرجل بالكسر ، وفلان لا يفقه ولا يفقه ، ثم خص به علم الشريعة ، والعالم به فقيه ، وقد فقه بالضم فقاهة وفقهه الله وتفقه إذا تعاطى ذلك ، وفاقهته إذا باحثته في العلم .

                                                                                                                                                                                  ( بيان الإعراب ) قوله : « دخل الخلاء " جملة من الفعل والفاعل والمفعول في محل الرفع ; لأنها خبر أن ، قوله : « فوضعت له " جملة معطوفة على الجملة السابقة ، قوله : « وضوءا " نصب بقوله فوضعت ، قوله : « من " استفهامية مبتدأ ، وقوله : « وضع هذا " خبره ، قوله : « فأخبر " على صيغة المجهول ، عطف على ما قبله ، وقد علم أن في عطف الاسمية على الفعلية والعكس أقوالا ، والمفهوم من كلام النحاة جواز ذلك ، كما عرف في موضعه ، قوله : « اللهم " أصله يا الله ، فحذف حرف النداء وعوض عنها الميم ، قوله : « فقهه " جملة من الفعل والفاعل ، وهو أنت ، المستكن فيه ، والمفعول وهو الضمير الراجع إلى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، وقوله : « في الدين " يتعلق به .

                                                                                                                                                                                  ( بيان المعاني ) قوله : « قال من وضع هذا " أي : قال النبي - عليه الصلاة والسلام - بعد الخروج من الخلاء : من وضع الوضوء ، قوله : « فأخبر " أي : النبي - عليه الصلاة والسلام - وميمونة بنت الحارث خالة ابن عباس هي المخبرة بذلك ; لأن وضع ابن عباس الوضوء للنبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم كان في بيتها ، قوله : « اللهم فقهه في الدين " مناسبة دعائه عليه الصلاة والسلام لابن عباس بالتفقه في الدين لأجل وضعه الوضوء له ; لكونه تفرس فيه الذكاء والفطنة ، فالمناسبة أن يدعى له بالتفقه في الدين ; ليطلع به على أسرار الفقه في الدين فينتفع وينفع ، وذلك لأنه وضعه عند الخلاء ; لأنه كان أيسر له عليه الصلاة والسلام ; لأنه لو وضعه في مكان بعيد منه كان يحتاج إلى طلب الماء ، وفيه مشقة ما ، ولو دخل به إليه كان تعرضا للاطلاع على حاله ، وهو يقضي حاجته ، فلما رأى ابن عباس هذه الحالة أوفق وأيسر استدل عليه الصلاة والسلام على غاية ذكائه مع صغر سنه فدعا له بما دعا به .

                                                                                                                                                                                  ( بيان استنباط الأحكام ) :

                                                                                                                                                                                  الأول : فيه جواز خدمة العالم بغير أمره ومراعاته حتى حال دخوله الخلاء .

                                                                                                                                                                                  الثاني : فيه استحباب المكافأة بالدعاء .

                                                                                                                                                                                  الثالث : قال الداودي : فيه دلالة على أنه ربما لا يستنجي عندما يأتي الخلاء ليكون ذلك سنة ; لأنه لم يأمر بوضع الماء ، وقد اتبعه عمر رضي الله عنه بالماء ، فقال : لو استنجيت كلما أتيت الخلاء لكان سنة ، وفيه نظر ، وما استشهد به حديث ضعيف .

                                                                                                                                                                                  الرابع : قال الخطابي فيه أن حمل الخادم الماء إلى المغتسل غير مكروه ، وأن الأدب فيه أن يليه الأصاغر من الخدم دون الأكابر .

                                                                                                                                                                                  الخامس : فيه دليل قاطع على إجابة دعاء الرسول عليه الصلاة والسلام ; لأنه صار فقيها أي فقيه .

                                                                                                                                                                                  السادس : قال ابن بطال : معلوم أن وضع الماء عند الخلاء إنما هو للاستنجاء به عند الحدث ، وفيه رد على من ينكر الاستنجاء بالماء ، وقال : إنما ذلك وضوء النساء ، وقال : إنما كان الرجال يتمسحون بالحجارة ، ونقل ابن التين في شرحه عن مالك أنه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم لم يستنج عمره بالماء ، وهو عجيب منه ، وقد عقد البخاري قريبا بابا للاستنجاء بالماء ، وذكر فيه أنه عليه الصلاة والسلام استنجى على ما سيجيء بيانه إن شاء الله تعالى ، وفي صحيح ابن حبان أيضا من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : "ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج من غائط قط إلا مس ماء" ، وفي جامع الترمذي من حديثها أيضا أنها قالت : " مرن أزواجكن أن يغسلوا أثر الغائط والبول ; فإنه عليه الصلاة والسلام كان يفعله " ، ثم قال : هذا حديث حسن صحيح ، وفي صحيح ابن حبان أيضا من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى حاجته ، ثم استنجى من تور" .

                                                                                                                                                                                  وقال ابن بطال : إن مالكا روى في موطئه عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه كان يتوضأ بالماء وضوءا لما تحت الإزار ، قال مالك : يريد الاستنجاء بالماء .

                                                                                                                                                                                  وقال الخطابي : في الحديث استحباب الاستنجاء بالماء ، وإن كانت الحجارة مجزئة ، وكره قوم من السلف الاستنجاء بالماء ، وزعم بعض المتأخرين أن الماء نوع من المطعوم فكرهه لأجل ذلك ، وكان بعض القراء يكره الوضوء في مشارع المياه الجارية ، وكان يستحب أن يؤخذ له الماء في ركوة ونحوها ; لأنه [ ص: 275 ] لم يبلغه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ على نهر أو مشرع في ماء جار ، قال : وهذا عندي من أجل أنه لم يكن بحضرته المياه الجارية والأنهار ، فأما من كان بين ظهراني مياه جارية فأراد أن يشرع فيها ويتوضأ منها كان له ذلك من غير حرج ، وقال النووي : اختلف في المسألة ، فالذي عليه الجمهور أن الأفضل أن يجمع بين الماء والحجر ، فيستعمل الحجر أولا لتخف النجاسة وتقل مباشرتها بيده ، ثم يستعمل الماء ; فإن أراد الاقتصار على أحدهما جاز ، وسواء وجد الآخر أو لم يجده ; فإن اقتصر فالماء أفضل من الحجر ; لأن الماء يطهر المحل طهارة حقيقية ، وأما الحجر فلا يطهر ، وإنما يخفف النجاسة ويبيح الصلاة مع النجاسة المعفو عنها ، وذهب بعضهم إلى أن الحجر أفضل ، وربما أوهم كلام بعضهم أن الماء لا يجزئ ، وقال ابن حبيب المالكي : لا يجزئ الحجر إلا لمن عدم الماء .

                                                                                                                                                                                  السابع : استدل به بعضهم على أن المستحب أن يتوضأ من الأواني دون المشارع والبرك ، وقال القاضي عياض : هذا لا أصل له ، ولم ينقل أن النبي - عليه الصلاة والسلام - وجدها فعدل عنها إلى الأواني . والله تعالى أعلم .




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية