الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  145 11 - حدثنا عبد الله بن يوسف قال : أخبرنا مالك عن يحيى بن سعيد ، عن محمد بن يحيى بن حبان ، عن عمه واسع بن حبان ، عن عبد الله بن عمر أنه كان يقول : إن ناسا يقولون إذا قعدت على حاجتك فلا تستقبل القبلة ولا بيت المقدس . فقال عبد الله بن عمر : لقد ارتقيت يوما على ظهر بيت لنا فرأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على لبنتين مستقبلا بيت المقدس لحاجته ، وقال لعلك من الذين يصلون على أوراكهم ، فقلت : لا أدري والله . قال مالك ، يعني [ ص: 280 ] الذي يصلي ولا يرتفع عن الأرض يسجد ، وهو لاصق بالأرض .

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقة الحديث للترجمة في قوله : « فرأيت رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - على لبنتين مستقبلا بيت المقدس " .

                                                                                                                                                                                  ( بيان رجاله ) وهم ستة :

                                                                                                                                                                                  الأول : عبد الله بن يوسف التنيسي ، وقد تقدم .

                                                                                                                                                                                  الثاني : الإمام مالك بن أنس ، وقد تكرر ذكره .

                                                                                                                                                                                  الثالث : يحيى بن سعيد الأنصاري المدني ، وقد تقدم .

                                                                                                                                                                                  الرابع : محمد بن يحيى بن حبان ، بفتح الحاء المهملة وتشديد الباء الموحدة الأنصاري النجاري بالنون والجيم المازني ، كان له حلقة في مسجد رسول الله - عليه الصلاة والسلام - ، وكان مفتيا ثقة كثير الحديث ، مات بالمدينة سنة إحدى وعشرين ومائة .

                                                                                                                                                                                  الخامس : عم محمد بن يحيى ، وهو واسع بن حبان بالفتح الأنصاري النجاري المازني الثقة ، قيل : إن له رواية فلذلك ذكر في الصحابة رضي الله عنهم ، وأبوه حبان هو ابن منقذ بن عمرو ، له ولأبيه صحبة .

                                                                                                                                                                                  السادس : عبد الله بن عمر رضي الله عنهما .

                                                                                                                                                                                  ( بيان لطائف إسناده ) منها أن فيه التحديث والإخبار ، ومنها أن هذا الإسناد كله على شرط الشيخين والأربعة إلا عبد الله بن يوسف ; فإنه من رجال البخاري، وأبو داود والترمذي والنسائي ، ومنها أنهم كلهم مدنيون سوى عبد الله ; فإنه مصري تنيسي ، بكسر التاء المثناة من فوق وتشديد النون ، ومنها أن فيه رواية ثلاثة من التابعين بعضهم عن بعض يحيى بن سعيد ومحمد بن يحيى وواسع بن حبان ، ومنها أن فيه رواية صحابي عن صحابي على قول من يعد واسعا من الصحابة رضي الله عنهم .

                                                                                                                                                                                  ( بيان تعدد موضعه ، ومن أخرجه غيره ) أخرجه البخاري أيضا في الطهارة عن يعقوب بن إبراهيم عن يزيد بن هارون ، عن يحيى بن سعيد ، وفيه وفي الخمس أيضا عن إبراهيم بن المنذر عن أنس بن عياض ، عن عبيد الله بن عمر ، عن محمد بن يحيى بن حبان به ، وأخرجه مسلم في الطهارة عن القعنبي عن سليمان بن بلال ، عن يحيى بن سعيد به ، وعن أبي بكر بن أبي شيبة ، عن محمد بن بشر ، عن عبيد الله وأبو داود فيه أيضا عن القعنبي عن مالك به ، والترمذي أيضا فيه عن هناد ، عن عبدة بن سليمان ، عن عبيد الله به ، وقال : حسن صحيح ، وللنسائي أيضا فيه عن قتيبة ، عن مالك به ، وابن ماجه أيضا فيه عن أبي بكر بن خلاد ومحمد بن يحيى كلاهما عن يزيد بن هارون به ، وعن هشام بن عمار عن عبد الحميد بن حبيب ، عن الأوزاعي عن يحيى به ، يزيد بعضهم على بعض .

                                                                                                                                                                                  ( بيان اللغات ) قوله : « بيت المقدس " فيه لغتان مشهورتان فتح الميم وسكون القاف وكسر الدال المخففة وضم الميم وفتح القاف والدال المشددة ، والمشدد معناه المطهر ، والمخفف لا يخلو إما أن يكون مصدرا أو مكانا ، ومعناه بيت المكان الذي جعل فيه الطهارة ، وتطهيره إخلاؤه من الأصنام وإبعاده منها أو من القلوب .

                                                                                                                                                                                  قوله : « ارتقيت " معناه صعدت من رقيت في السلم بالكسر رقيا ورقيا إذا صعدت ، وهذه هي اللغة الفصيحة المشهورة ، وحكى صاحب المطالع لغتين أخريين ، إحداهما : فتح القاف بغير همز ، والأخرى : فتحها مع الهمزة ، قوله : « أوراكهم " جمع ورك ، قال الكرماني : وهو ما بين الفخذين . قلت : ليس كذلك ; بل الوركان ما قاله الأصمعي : الوركان العظمان على طرف عظم الفخذين ، وفي العباب : الورك الورك الورك كفخذ وفخذ وفخذ ، وهي مؤنثة .

                                                                                                                                                                                  ( بيان الإعراب ) قوله : « كان " في محل الرفع ; لأنه خبر أن ، وقوله : « يقول " في محل النصب ; لأنه خبر كان ، وقوله : « إن ناسا " بكسر الهمزة مقول القول ، وقوله : « يقولون " في محل الرفع ; لأنه خبر أن ، قوله : « ولا بيت المقدس " بالنصب عطف على قوله : « القبلة " والإضافة فيه إضافة الموصوف إلى صفته نحو مسجد الجامع ، قوله : « لقد ارتقيت " اللام فيه جواب قسم محذوف ، قوله : « يوما " نصب على الظرف ، وقوله : « على ظهر بيت " يتعلق بقوله "ارتقيت" ، قوله : « فرأيت " عطف على قوله : « ارتقيت " وهو بمعنى أبصرت ، فلا يقتضي إلا مفعولا واحدا .

                                                                                                                                                                                  قوله : « على لبنتين " في محل النصب على الحال من رسول الله عليه السلام ، وكذا قوله : « مستقبلا " حال منه ، ويجوز أن يكونا حالين مترادفتين ومتداخلتين ، قوله : « بيت المقدس " كلام إضافي منصوب بقوله : « مستقبل " واللام في لحاجته للتعليل ، ويجوز أن تكون للتوقيت ، أي : وقت حاجته ، قوله : « يسجد " جملة في محل النصب على الحال ، وكذا قوله : « وهو لاصق بالأرض " جملة وقعت حالا .

                                                                                                                                                                                  [ ص: 281 ] ( بيان المعاني ) قوله : « أنه كان " أي : أن واسعا كان يقول كذا قاله الكرماني ، وقال ابن بطال : أما قول ابن عمر أن ناسا يقولون ، إلى آخره . قلت : هذا يدل على أن الضمير في قوله أنه كان يعود إلى عبد الله بن عمر ، وقال الكرماني أيضا : جعل ابن بطال أن ناسا مفعولا لابن عمر لا لواسع ، والسياق لا يساعده . قلت : الصواب مع ابن بطال على ما لا يخفى ، وقال الخطابي : قد يتوهم السامع من قول ابن عمر أن ناسا يقولون إلى آخره ، فهذا أيضا يؤيد تفسير ابن بطال فافهم ، قوله : « أن ناسا كانوا يقولون " أراد بالناس هؤلاء من كان يقول بعموم النهي في استقبال القبلة واستدبارها عند الحاجة في الصحراء والبنيان وهم أمثال أبي أيوب الأنصاري وأبي هريرة ومعقل الأسدي وغيرهم رضي الله تعالى عنهم .

                                                                                                                                                                                  قوله : « إذا قعدت " ذكر القعود لكونه الغالب ، وإلا فحال القيام كذلك ، قوله : « على حاجتك " كناية عن التبرز ، قوله : « على ظهر بيت لنا " وفي رواية يزيد عن يحيى الآتية "على ظهر بيتنا" ، وفي رواية عبيد الله بن عمر الآتية "على ظهر بيت حفصة" ، يعني أخته ، كما صرح به في رواية مسلم ، قوله : « مستقبلا بيت المقدس " وفي رواية تأتي عن قريب "مستقبل الشام مستدبر الكعبة" ، ووقع في صحيح ابن حبان " مستقبل القبلة مستدبر الشام " ، وكأنه مقلوب . والله أعلم .

                                                                                                                                                                                  فإن قلت : كيف نظر ابن عمر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في تلك الحالة ، ولا يجوز ذلك . قلت : وقعت منه تلك اتفاقا من غير قصد لذلك ، فنقل ما رآه ، وقصده ذلك لا يجوز ، كما لا يتعمد الشهود النظر إلى الزنا ، ثم يجوز أن يقع أبصارهم عليه ويتحملوا الشهادة بعد ذلك ، وقال الكرماني : يحتمل أن يكون ابن عمر قصد ذلك ، ورأى رأسه دون ما عداه من بدنه ، ثم تأمل قعوده ، فعرف كيف هو جالس ليستفيد فعله فنقل ما شاهد ، قوله : « وقال " أي : ابن عمر رضي الله تعالى عنهما ، قوله : « لعلك " الخطاب فيه لواسع ، أي : لعلك من الذين لا يعرفون السنة ، إذ لو كنت عارفا بالسنة لعرفت جواز استقبال بيت المقدس ، ولما التفت إلى قولهم ، وإنما كنى عن الجاهلين بالسنة بالذين يصلون على أوراكهم .

                                                                                                                                                                                  لأن المصلي على الورك لا يكون إلا جاهلا بالسنة ، وإلا لما صلى عليه ، والسنة في السجود التخوية ، أي : لا يلصق الرجل بالأرض ; بل يرفع عنها ، قوله : « فقلت : لا أدري " أي : قال واسع لا أدري أنا منهم أم لا ، ولا أدري السنة في استقبال بيت المقدس ، قوله : « قال مالك " إلى آخره ، تفسير الصلاة على الورك ، وهو اللصوق بالأرض حالة السجود ، قوله : « قال مالك " إلى آخره إن كان من قول البخاري نقله عنه يكون تعليقا ، وإن كان من قول عبد الله يكون داخلا تحت الإسناد المذكور .

                                                                                                                                                                                  ( بيان استنباط الأحكام ) :

                                                                                                                                                                                  الأول : احتج به مالك والشافعي وإسحاق وآخرون فيما ذهبوا إليه من جواز استقبال القبلة واستدبارها عند قضاء الحاجة في البنيان ، وأنه مخصص لعموم النهي ، كما ذكرناه في الباب السابق ، ومنهم من رأى هذا الحديث ناسخا لحديث أبي أيوب المذكور ، واعتقد الإباحة مطلقا ، وقاس الاستقبال على الاستدبار ، وترك حكم تخصيصه بالبنيان ، ورأى أنه وصف ملغى الاعتبار ، ومنهم من رأى العمل بحديث أبي أيوب وما في معناه واعتقد هذا خاصا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ومنهم من جمع بينهما وأعملهما ، ومنهم من توقف في المسألة . قلت : دعوى النسخ غير ظاهرة ; لأنه لا يصار إليه إلا عند تعذر الجمع ، وهو ممكن ، كما قد ذكرناه .

                                                                                                                                                                                  فإن قلت : قد ورد عن عائشة رضي الله عنها حديث بين فيه وجه النسخ مطلقا ، رواه ابن ماجه بسند صحيح عن أبي بكر بن أبي شيبة وعلي بن محمد ، ثنا وكيع ، عن حماد بن سلمة ، عن خالد الحذاء ، عن خالد بن أبي الصلت ، عن عراك بن مالك ، عنها قالت : ذكر عند النبي - صلى الله عليه وسلم - قوم يكرهون أن يستقبلوا القبلة بفروجهم ، فقال : أراهم قد فعلوا ، استقبلوا بمقعدتي القبلة .

                                                                                                                                                                                  قلت : في علل الترمذي : قال محمد : هذا حديث فيه اضطراب ، والصحيح عن عائشة قولها ، وقال ابن حزم : هذا حديث ساقط ; لأن خالد بن أبي الصلت مجهول لا يدرى من هو ، وأخطأ فيه عبد الرزاق فرواه عن خالد الحذاء ، عن كثير بن أبي الصلت . وهذا أبطل وأبطل ; لأن الحذاء لم يدرك كثيرا ، انتهى كلامه .

                                                                                                                                                                                  قوله : ابن أبي الصلت لا يدري من هو غير مسلم ; لأن ابن حبان ذكره في الثقات ولأن بخشلا ذكر أنه كان عينا لعمر بن عبد العزيز رضي الله عنه بواسط ، وذكر من صلاحه ودينه ، وقوله : كثير بن أبي الصلت ليس كذلك ، وإنما المذكور عند البخاري في تاريخه ، وعند ابن أبي حاتم في كتابه الجرح والتعديل كثير بن الصلت ، وكذا ذكره أبو عمر العسكري وابن حبان وابن منده والبارودي وآخرون ، ولعل ذلك يكون من خطأ عبد الرزاق فيه .

                                                                                                                                                                                  وقال الإمام أحمد رحمه الله : أحسن ما روي في الرخصة حديث عراك وإن كان مرسلا ; فإن مخرجه [ ص: 282 ] حسن ، وفي المراسيل عنه : هذا حديث مرسل ، وأنكر أن يكون عراك سمع عائشة ، وقال : من أين سمع عائشة ؟ ما له ولعائشة ؟ إنما يروي عن عروة . هذا خطأ ، فمن روى هذا قبل حماد بن سلمة عن خالد ، فقال غير واحد عن خالد : ليس فيه سمعت ، وغير واحد أيضا عن حماد : وليس فيه سمعت .

                                                                                                                                                                                  قلت : أبو عبد الله لم يجزم بعدم سماعه منها إنما ذكره استبعادا ، وأما روايته عن عروة عنها فلا يدل على عدم سماعه منها لا سيما وقد جمعهما بلد وعصر واحد ، فسماعه منها ممكن جائز ، وقد صرح في الكمال والتهذيب بسماعه منها ، وقد وجدنا متابعا لحماد على قوله عن عراك : سمعت عائشة رضي الله عنها ، وهو علي بن عاصم عند الدارقطني وصحيح ابن حبان ، وهو منهما محمول على الاتصال حتى يقوم دليل واضح بعدم سماعه عنها . والله أعلم .

                                                                                                                                                                                  الثاني من الأحكام : استعمال الكناية بالحاجة عن البول والغائط وجواز الإخبار عن مثل ذلك للاقتداء والعمل .

                                                                                                                                                                                  الثالث في قوله : « أن ناسا يقولون " دليل على أن الصحابة رضي الله عنهم يختلفون في معاني السنن ، وكان كل واحد منهم يستعمل ما سمع على عمومه ، فمن ها هنا وقع بينهم الاختلاف ، وقال الخطابي : قد يتوهم السامع من قول ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن ناسا يقولون .. إلخ أنه يريد إنكار ما روي في النهي من استقبال القبلة عند الحاجة نسخا لما حكاه من رؤيته عليه الصلاة والسلام يقضي حاجته مستدبر القبلة ، وليس الأمر في ذلك على ما يتوهم ; لأن المشهور من مذهبه أنه لا يجوز الاستقبال والاستدبار في الصحراء ويجيزهما في البنيان ، وإنما أنكر قول من يزعم أن الاستقبال في البنيان غير جائز ، ولذلك مثل لما شاهد من قعوده في الأبنية .

                                                                                                                                                                                  قلت : ظاهر عبارة الكلام يدل على إنكار ابن عمر رضي الله تعالى عنه على من يزعم أن استقبال بيت المقدس عند الحاجة غير جائز ، فمن ذلك قال أحمد بن حنبل رضي الله تعالى عنه : حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما ناسخ للنهي عن استقبال بيت المقدس واستدباره ، والدليل على هذا ما روى مروان الأصغر عن ابن عمر أنه أناخ راحلته مستقبل بيت المقدس ، ثم جلس يبول إليها ، فقلت : يا أبا عبد الرحمن ، أليس قد نهي عن هذا ؟ قال : إنما نهي عن هذا في الفضاء ، وأما إذا كان بينك وبين القبلة شيء يسترك فلا بأس .

                                                                                                                                                                                  الرابع : فيه تتبع أحوال النبي - عليه الصلاة والسلام - كلها ونقلها ، وأنها كلها أحكام شرعية .




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية