الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
تحذير الشارع من الشرك ووسائله ومظانه

وها نحن نقص عليك أدلة في كتاب الله سبحانه، وفي سنة رسوله، فيها المنع مما هو دون هذا بمراحل، وفي بعضها التصريح بأنه شرك، وهو بالنسبة إلى هذا الذي ذكرناه يسير حقير، ثم بعد ذلك نعود إلى الكلام على مسألة السؤال.

فمن ذلك ما أخرجه أحمد في "مسنده" بإسناد لا بأس به، عن عمران بن حصين: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- رأى رجلا بيده حلقة من صفر فقال: "ما هذه؟" قال: من الواهنة، قال: "انزعها، فإنها لا تزيدك إلا وهنا، ولو مت وهي عليك ما أفلحت".

[ ص: 53 ] وأخرج أيضا عن عقبة بن عامر مرفوعا: "من تعلق تميمة، فلا أتم الله له، ومن تعلق ودعة، فلا ودع الله له" وفي رواية: "من تعلق تميمة فقد أشرك".

ولابن أبي حاتم عن حذيفة: أنه رأى رجلا في يده خيط للحمى، فقطعه، وتلا: وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون [يوسف: 109].

وفي الصحيح عن أبي بشير الأنصاري: أنه كان مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في بعض أسفاره، فأرسل رسولا: "أن لا يبقين في رقبة بعير قلادة من وتر إلا قطعت".

وأخرج أحمد، وأبو داود، عن ابن مسعود، قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- [يقول]: "إن الرقى والتمائم والتولة شرك".

وأخرج أحمد، والترمذي، عن عبد الله بن حكيم مرفوعا: "من تعلق شيئا وكل إليه".

وأخرج أحمد عن رويفع، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يا رويفع! لعل الحياة ستطول بك، فأخبر الناس: أن من عقد لحيته، أو تقلد وترا، أو استنجى برجيع دابة أو عظم، فإن محمدا بريء منه".

فانظر كيف جعل الرقى والتمائم والتولة شركا، وما ذلك إلا لكونها مظنة لأن يصحبها اعتقاد أن لغير الله تأثيرا في الشفاء من الداء، وفي المحبة والبغضاء، فكيف بمن نادى غير الله، وطلب منه ما لا يطلب إلا من الله، واعتقد استقلاله بالتأثير أو اشتراكه مع الله عز وجل؟!!

ومن ذلك ما أخرجه الترمذي وصححه، عن أبي واقد الليثي، قال: خرجنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى حنين، ونحن حدثاء عهد بكفر، وللمشركين سدرة يعكفون عليها، وينوطون بها أسلحتهم يقال لها: ذات أنواط، فمررنا بسدرة، فقلنا: يا رسول الله! اجعل لنا ذات أنواط، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "الله أكبر، قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل: اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون [الأعراف: 138] لتركبن سنن من كان قبلكم".

[ ص: 54 ] فهؤلاء إنما طلبوا أن يجعل لهم شجرة ينوطون بها أسلحتهم كما كانت الجاهلية تفعل ذلك، ولم يكن من قصدهم أن يعبدوا تلك الشجرة، أو يطلبوا منها ما يطلبه القبوريون من أهل القبور، فأخبرهم -صلى الله عليه وسلم- أن ذلك بمنزلة الشرك الصريح، وأنه بمنزلة طلب آلهة غير الله تعالى.

ومن ذلك ما أخرجه مسلم في "صحيحه" عن علي بن أبي طالب -كرم الله وجهه- قال: حدثني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأربع كلمات:

1- لعن الله من ذبح لغير الله.

2- لعن الله من لعن والديه.

3- لعن الله من آوى محدثا.

4- لعن الله من غير منار الأرض.


وأخرج أحمد عن طارق بن شهاب: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "دخل رجل الجنة في ذباب، ودخل النار رجل في ذباب" قالوا: كيف ذلك يا رسول الله؟ قال: "مر رجلان على قوم لهم صنم، لا يجوزه أحد حتى يقرب إليه شيئا، فقالوا لأحدهما: قرب ولو ذبابة، فقرب ذبابة، فخلوا سبيله، فدخل النار، وقالوا للآخر: قرب، فقال: ما كنت أقرب لأحد غير الله -عز وجل- فضربوا عنقه، فدخل الجنة".

فانظر لعنه -صلى الله عليه وسلم- لمن ذبح لغير الله، وإخباره بدخول من قرب لغير الله النار، وليس في ذلك إلا مجرد كون ذلك مظنة للتعظيم، الذي لا ينبغي إلا لله، فما ظنك بما كان شركا بحتا؟

قال بعض أهل العلم: إن إراقة دماء الأنعام عبادة; لأنها إما هدي، أو أضحية، أو نسك، وكذلك ما يذبح للبيع; لأنه مكسب حلال، فهو عبادة.

ويتحصل من ذلك شكل قطعي هو أن إراقة دماء الأنعام عبادة، وكل عبادة [ ص: 55 ] لا تكون إلا لله، فإراقة دماء الأنعام لا تكون إلا لله.

ودليل الكبرى قوله تعالى: اعبدوا الله ما لكم من إله غيره [هود: 50] ، فإياي فاعبدون [العنكبوت: 56] إياك نعبد ، وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه [الإسراء: 23] وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين .

ومن ذلك أنه -صلى الله عليه وسلم- نهى عن الحلف بغير الله، وقال: "من حلف فليحلف بالله، أو ليصمت" وقال: "من حلف بملة غير الإسلام لم يرجع إلى الإسلام سالما" أو كما قال.

وسمع رجلا يحلف باللات والعزى، فأمره أن يقول: لا إله إلا الله.

وأخرج الترمذي وحسنه، والحاكم وصححه، من حديث عمر: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "من حلف بغير الله فقد أشرك".

وهذه الأحاديث في دواوين الإسلام، وفيها: أن الحلف بغير الله يخرج به الحالف عن الإسلام، وذلك لكون الحلف بشيء مظنة تعظيمه، فكيف بما كان شركا محضا يتضمن التسوية بين الحالف والمحلوف، في طلب النفع، أو استدفاع الضر؟!!.

وقد يتضمن تعظيم المحلوف زيادة على تعظيم الحالف، كما يفعله كثير من المخذولين، فإنهم يعتقدون أن لأهل القبور من جلب النفع ورفع الضرر ما ليس لله، تعالى عن ذلك علوا كبيرا.

فإن أنكرت هذا، فانظر أحوال كثير من هؤلاء المخذولين، فإنك تجدهم كما وصف الله سبحانه: وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون .

التالي السابق


الخدمات العلمية