الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                        صفحة جزء
                        فصل

                        ثم استدل المستنصر بالقياس ، فقال : وإن صح أن السلف لم [ ص: 476 ] يعملوا به ؛ فقد عمل السلف بما لم يعمل به من قبلهم مما هو خير .

                        ثم قال بعد : قد قال عمر بن عبد العزيز ( رضي الله عنه ) : تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور ، فكذلك تحدث لهم مرغبات في الخير بقدر ما أحدثوا من الفتور .

                        وهذا الاستدلال غير جار على الأصول :

                        أما أولا : فإنه في مقابلة النص ، وهو ما أشار إليه مالك في مسألة العتبية ، فذلك من باب فساد الاعتبار .

                        وأما ثانيا : فإنه قياس على نص لم يثبت بعد من طريق مرضي ، وهذا ليس كذلك .

                        وأما ثالثا : فإن كلام عمر بن عبد العزيز فرع اجتهادي جاء عن رجل مجتهد يمكن أن يخطئ فيه كما يمكن أن يصيب ، وإنما حقيقة الأصل أن يأتي عن النبي صلى الله عليه وسلم أو عن أهل الإجماع ، وهذا ليس عن واحد منهما .

                        وأما رابعا : فإنه قياس بغير معنى جامع ، أو بمعنى جامع غير طردي ، ولكن الكلام فيه سيأتي إن شاء الله في الفرق بين المصالح المرسلة والبدع .

                        وقوله : " إن السلف عملوا بما لم يعمل به من قبلهم " ؛ حاش لله أن يكونوا ممن يدخل تحت هذه الترجمة .

                        وقوله : " مما هو خير " ؛ أما بالنسبة إلى السلف فما عملوا خير ، وأما فرعه المقيس [ عليه ] ؛ فكونه خيرا دعوى ؛ لأن كون الشيء خيرا أو شرا لا [ ص: 477 ] يثبت إلا بالشرع ، وأما العقل ؛ فبمعزل عن ذلك ، فليثبت أولا لأن الدعاء على تلك الهيئة خير شرعا .

                        وأما قياسه على قوله : " تحدث للناس أقضية " ؛ فمما تقدم فيه أمر آخر ، وهو التصريح بأن إحداث العبادات جائز قياسا على قول عمر ، وإنما كلام عمر ـ بعد تسليم القياس عليه ـ في معنى عادي يختلف فيه مناط الحكم الثابت فيما تقدم ؛ كتضمين الصناع ، أو الظنة في توجيه الأيمان ؛ دون مجرد الدعاوى .

                        فيقول : إن الأولين توجهت عليهم بعض الأحكام ؛ لصحة الأمانة والديانة والفضيلة ، فلما حدثت أضدادها ؛ اختلف المناط ، فوجب اختلاف الحكم ، وهو حكم رادع أهل الباطل عن باطلهم .

                        فأثر هذا المعنى ظاهر مناسب ؛ بخلاف ما نحن فيه ؛ فإنه على الضد من ذلك ، ألا ترى أن الناس إذا وقع فيهم الفتور عن الفرائض فضلا عن النوافل ـ وهي ما هي من القلة والسهولة ـ ؛ فما ظنك بهم إذا زيد عليهم أشياء أخر يرغبون فيها ويرخصون على استعمالها ، فلا شك أن الوظائف تتكاثر ، حتى يؤدي إلى أعظم من الكسل الأول ، وإلى ترك الجميع ، فإن حدث للعامل بالبدعة هو في بدعته أو لمن شايعه فيها ؛ فلا بد من كسله مما هو أولى .

                        فنحن نعلم أن ساهر ليلة النصف من شعبان لتلك الصلاة المحدثة لا يأتيه الصبح إلا وهو نائم أو في غاية الكسل ، فيخل بصلاة الصبح ، [ ص: 478 ] وكذلك سائر المحدثات ، فصارت هذه الزيادة عائدة على ما هو أولى منها بالإبطال أو الإخلال ، وقد مر أنما من بدعة تحدث إلا ويموت من السنة ما هو خير منها .

                        وأيضا ؛ فإن هذا القياس مخالف لأصل شرعي ـ وهو طلب النبي صلى الله عليه وسلم السهولة والرفق والتيسير وعدم التشديد ـ ، وزيادة وظيفة لم تشرع فتظهر ويعمل بها دائما في مواطن السنن ؛ فهو تشديد بلا شك .

                        وإن سلمنا ما قال ؛ فقد وجد كل مبتدع من العامة السبيل إلى إحداث البدع ، وأخذ هذا الكلام بيده حجة وبرهانا على صحة ما يحدثه كائنا ما كان ، وهو مرمى بعيد .

                        ثم استدل على جواز الدعاء إثر الصلاة في الجملة ، ونقل في ذلك عن مالك وغيره أنواعا من الكلام ، وليس [ هذا ] محل النزاع ، بل جعل الأدلة شاملة لتلك الكيفية المذكورة .

                        وعقب ذلك بقوله : " وقد تظاهرت الأحاديث والآثار وعمل الناس وكلام العلماء على هذا المعنى ؛ كما قد ظهر " ، قال : " ومن المعلوم أنه عليه السلام كان الإمام في الصلوات ، وأنه لم يكن ليخص نفسه بتلك الدعوات ، إذ قد جاء من سنته : لا يحل لرجل أن يؤم قوما إلا بإذنهم ، ولا يخص نفسه بدعوة دونهم ، فإن فعل فقد خانهم .

                        فتأملوا يا أولي الألباب ! فإن عامة النصوص فيما سمع من أدعيته [ ص: 479 ] في أدبار الصلوات إنما كان دعاء لنفسه ، وهذا الكلام يقول فيه : إنه لم يكن ليخص نفسه بالدعاء دون الجماعة ، وهذا تناقض ، الله نسأل التوفيق .

                        وإنما حمل الناس الحديث على دعاء الإمام في نفس الصلاة من السجود وغيره ، لا فيما حمله عليه هذا المتأول ، ولما لم يصح العمل بذلك الحديث عند مالك ؛ أجاز للإمام أن يخص نفسه بالدعاء دون المأمومين ، ذكره في " النوادر " .

                        ولما اعترضه كلام العلماء وكلام السلف مما تقدم ذكره ؛ أخذ يتأول ويوجه كلامهم على طريقته المرتبكة ، ووقع له في [ ذلك ] كلام على غير تأمل لا يسلم ظاهره من التناقض والتدافع لوضوح أمره ، وكذلك في تأويل الأحاديث التي نقلها ، لكن تركت هنا استيفاء الكلام عليها لطوله ، وقد ذكرته في غير هذا الموضع ، والحمد لله على ذلك .

                        التالي السابق


                        الخدمات العلمية