الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  166 33 - حدثنا حفص بن عمر ، قال: حدثنا شعبة ، قال: أخبرني أشعث بن سليم ، قال: سمعت أبي، عن مسروق ، عن عائشة قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يعجبه التيمن في تنعله وترجله وطهوره، وفي شأنه كله.

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  فيه المطابقة للترجمة لأن فيه إعجابه عليه الصلاة والسلام في شأنه كله، وهو بعمومه يتناول استحباب التيامن في كل شيء في الوضوء والغسل والتغسيل وغير ذلك.

                                                                                                                                                                                  وأما المناسبة بين الحديثين فظاهرة.

                                                                                                                                                                                  ( بيان رجاله ) وهم ستة: الأول حفص بن عمر الحوضي البصري الثبت الحجة قال أحمد : لا يؤخذ عليه حرف. مات سنة خمس وعشرين ومائتين بالبصرة، وليس في البخاري حفص بن عمر غيره وفي السنن مفرقا جماعات، الثاني شعبة بن الحجاج وقد مر ذكره، الثالث أشعث بفتح الهمزة وسكون الشين المعجمة وفتح العين المهملة وفي آخره ثاء مثلثة ابن سليم بالتصغير من ثقات شيوخ الكوفيين، وهو الرابع من الرواة وهو سليم بن الأسود المحاربي بضم الميم الكوفي أبو الشعثاء وشهرته بكنيته أكثر من اسمه، الخامس مسروق بن الأجدع الكوفي أبو عائشة أسلم قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وأدرك الصدر الأول من الصحابة، وكانت عائشة أم المؤمنين قد تبنت مسروقا فسمى ابنته عائشة فكني بأبي عائشة، وقد مر في باب علامات المنافق، السادس أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها.

                                                                                                                                                                                  [ ص: 30 ] ( بيان لطائف إسناده ) منها أن فيه التحديث والإخبار والعنعنة، ومنها أن رواته ما بين بصري وكوفي، ومنها أن فيه رواية الابن عن الأب، ومنها أن فيه كبيرين قرينين من أتباع التابعين وهما أشعث وشعبة، ومنها أن فيه كبيرين قرينين من كبار التابعين وهما سليم ومسروق .

                                                                                                                                                                                  ( بيان تعدد موضعه ومن أخرجه غيره ) أخرجه البخاري أيضا في الصلاة عن سليمان بن حرب، وفي اللباس عن أبي الوليد وحجاج بن المنهال، وفي الأطعمة عن عبدان، عن عبد الله بن المبارك، خمستهم عن شعبة، عن أشعث بن أبي الشعثاء، عن أبيه به، وأخرجه مسلم في الطهارة عن عبيد الله بن معاذ، عن أبيه، عن شعبة به، وعن يحيى بن يحيى، عن أبي الأحوص، عن أشعث به.

                                                                                                                                                                                  وأخرجه أبو داود في اللباس عن حفص بن عمر وسلمة بن إبراهيم كلاهما عن شعبة به، وأخرجه الترمذي في آخر الصلاة عن هناد بن السري، عن أبي الأحوص به وقال: حسن صحيح. وفي الشمائل عن أبي موسى، عن غندر، عن شعبة به، وأخرجه النسائي في الطهارة وفي الزينة عن محمد بن عبد الأعلى، عن خالد بن الحارث، وعن سويد بن نصر، عن ابن المبارك كلاهما عن شعبة به، وأخرجه ابن ماجه في الطهارة عن هناد به، وعن سفيان بن وكيع، عن عمر بن عبيد، عن أشعث به.

                                                                                                                                                                                  ( بيان اللغات ) قوله: يعجبه من الإعجاب يقال: أعجبني هذا الشيء لحسنه، والعجيب الأمر الذي يتعجب منه، وكذلك العجاب بالضم والتخفيف وبالتشديد أكثر منه، وكذلك الأعجوبة وعجبت من كذا وتعجبت منه واستعجبت بمعنى، والمصدر العجب بفتحتين، وأما العجب بضم العين وسكون الجيم فهو اسم من أعجب فلان بنفسه فهو معجب بفتح الجيم برأيه وبنفسه، وأما العجب بفتح العين وسكون الجيم فهو أصل الذنب.

                                                                                                                                                                                  قوله: التيمن هو الأخذ باليمين في الأشياء. قوله: تنعله أي في لبسه النعل وهي التي تلبس في المشي تسمى الآن تاسومة قاله ابن الأثير وهي مؤنثة يقال: نعلت وانتعلت إذا لبست النعل، وأنعلت الخيل بالهمزة، ومنه الحديث: إن غسان تنعل خيلها. وفي روايات البخاري كلها "في تنعله" بفتح التاء المثناة من فوق وفتح النون وتشديد العين، وهكذا ذكره الحميدي والحافظ عبد الحق في كتابيهما الجمع بين الصحيحين ، وفي رواية مسلم "في نعله" على إفراد النعل، وفي بعض الروايات نعليه بالتثنية.

                                                                                                                                                                                  وقال النووي : وهما صحيحان ولم ير في شيء من نسخ بلادنا غير هذين الوجهين قلت: الروايات كلها صحيحة. قوله: وترجله أي في تمشيطه الشعر وهو تسريحه وهو أعم من أن يكون في الرأس وفي اللحية، وقال بعضهم: وهو تسريحه ودهنه. قلت: اللفظ لا يدل على الدهن فهذا التفسير من عنده، ولم يفسره أهل اللغة كذلك. وفي المغرب للمطرزي رجل شعره أي أرسله بالمرجل وهو المشط وترجل فعل ذلك بنفسه، ويقال: شعر رجل ورجل ورجل بين السبوطة والجعودة. وقد رجل رجلا ورجله هو. ورجل رجل الشعر ورجل، وجمعهما أرجال ورجال ذكره ابن سيده في المحكم ، فانظر هل ترى شيئا في هذه المواد يدل على الدهن، والمرجل بكسر الميم المشط، وكذلك المسرح بالكسر ذكره في الغريبين .

                                                                                                                                                                                  قوله: وطهوره قال الكرماني : هو بضم الطاء ولا يجوز فتحها هنا قلت: لا نسلم هذا على الإطلاق; لأن الخليل والأصمعي وأبا حاتم السجستاني والأزهري وآخرين ذهبوا إلى أن الطهور بالفتح في الفعل الذي هو المصدر والماء الذي يتطهر به، وقال صاحب المطالع : وحكي الضم فيهما والفرق المذكور نقله ابن الأنباري، عن جماعة من أهل اللغة، فإذا كان كذلك فقول الكرماني : ولا يجوز فتحها غير صحيح على الإطلاق.

                                                                                                                                                                                  قوله: في شانه الشان هو الحال والخطب، وأصله الشأن بالهمزة الساكنة في وسطه، ولكنها سهلت بقلبها ألفا لكثرة استعماله، والشأن أيضا واحد الشئون، وهي مواصل قبائل الرأس وملتقاها، ومنها تجيء الدموع.

                                                                                                                                                                                  ( بيان الإعراب ) قوله: يعجبه فعل ومفعول والتيمن فاعله، والجملة في محل النصب على أنها خبر كان.

                                                                                                                                                                                  قوله: في تنعله في محل النصب على الحال من الضمير المنصوب الذي في يعجبه، والتقدير كان يعجبه التيمن حال كونه لابسا النعل، ويجوز أن يكون من التيمن أي: يعجبه التيمن حال كون التيمن في تنعله.

                                                                                                                                                                                  قوله: وترجله عطف على تنعله، وطهوره عطف على ترجله.

                                                                                                                                                                                  قوله: في شانه بدل من الثلاثة المذكورة قبله بدل الاشتمال، والشرط في بدل الاشتمال أن يكون المبدل منه مشتملا على الثاني أي: متقاضيا له بوجه ما، وهاهنا كذلك على ما لا يخفى، وإذا لم يكن المبدل منه مشتملا على الثاني يكون بدل الغلط، وإنما قيل لهذا بدل الاشتمال من حيث اشتمال المتبوع على التابع لا كاشتمال الظرف [ ص: 31 ] على المظروف بل من حيث كونه دالا عليه إجمالا ومتقاضيا له بوجه ما، والعجب من الكرماني حيث نفى كونه بدل الاشتمال لكون الشرط أن يكون بينهما ملابسة بغير الجزئية والكلية، وهاهنا الشرط منتف ، ثم يقول: ما قولك فيه ، ثم يجيب بأنه بدل الاشتمال، وهاهنا الملابسة موجودة، ومع هذا قوله: لكون الشرط إلى آخره ليس على الإطلاق; لأنه يدخل فيه بعض الغلط نحو جاءني زيد غلامه أو حماره، ولقيت زيدا أخاه ولا شك في كونهما بدل الغلط، ومن العجيب أيضا أنه قال: ولا يجوز أن يكون بدل الغلط; لأنه لا يقع في فصيح الكلام ، ثم قال: أو هو بدل الغلط. وقد يقع في الكلام الفصيح قليلا ولا منافاة بين الغلط والبلاغة.

                                                                                                                                                                                  قلت: لا يقع بدل الغلط الصرف ولا بدل النسيان في كلام الفصحاء، وإنما يقع بدل البداء في كلام الشعراء للمبالغة والتفنن، وبدل البداء أن يذكر المبدل منه عن قصد وتعمد ثم يتدارك بالثاني ، وبدل الصرف وهو يدل على غلط صريح فيما إذا أردت أن تقول: جاءني حمار فيسبقك لسانك إلى رجل ، ثم تداركت الغلط فقلت: حمار. وبدل النسيان أن تتعمد ذكر ما هو غلط، ولا يسبقك لسانك إلى ذكره لكن تنسى المقصود ، ثم بعد ذلك تتداركه بذكر المقصود، فمن هذا عرفت أن أنواع بدل الغلط ثلاثة.

                                                                                                                                                                                  فإن قلت : في رواية أبي الوقت وفي شانه بإثبات الواو قلت: على هذا يكون عطف العام على الخاص وهو ظاهر، فإن قلت : هل يجوز أن تقدر الواو في الرواية الخالية عن الواو؟ قلت: جوزه بعض النحاة إذا قامت قرينة عليه. وقال بعضهم ناقلا عن الكرماني من غير تصريح به : قوله في شانه كله بدون الواو متعلق بيعجبه لا بالتيمن أي يعجبه في شأنه كله التيمن في تنعله إلى آخره أي: لا يترك ذلك سفرا ولا حضرا ولا في فراغه ولا شغله ونحو ذلك. قلت: كلام الناقل والمنقول منه ساقط لأنه يلزم منه أن يكون إعجابه التيمن في هذه الثلاثة مخصوصة في حالاته كلها وليس كذلك، بل كان يعجبه التيمن في كل الأشياء في جميع الحالات ألا ترى أنه أكد الشأن بمؤكد والشأن بمعنى الحال، والمعنى في جميع حالاته ، ثم قال هذا الناقل: وقال الطيبي في قوله: في شانه بدل من قوله: في تنعله بإعادة العامل، وكأنه ذكر التنعل لتعلقه بالرجل، والترجل لتعلقه بالرأس، والطهور لكونه مفتاح أبواب العبادة، فكأنه نبه على جميع الأعضاء فيكون كبدل الكل من الكل.

                                                                                                                                                                                  قلت: هذا لم يتأمل كلام الطيبي; لأن كلامه ليس على رواية البخاري، وإنما هو على رواية مسلم وهي "كان رسول الله عليه الصلاة والسلام يحب التيمن في شأنه كله في تنعله وترجله" لأن صاحب المشكاة نقل عبارة مسلم . وقال الطيبي في شرحه بهذه العبارة : أقول

                                                                                                                                                                                  قوله: في طهوره وترجله وتنعله بدل من قوله: في شأنه بإعادة العامل، ولعله إنما بدأ فيها بذكر الطهور لأنه فتح لأبواب الطاعات كلها، وثنى بذكر الترجل وهو يتعلق بالرأس، وثلث بالتنعل وهو مختص بالرجل; ليشمل جميع الأعضاء فيكون كبدل الكل من الكل، والعجب من هذا الناقل أنه لما نقل كلام الطيبي على رواية مسلم ، ثم قال: ووقع في رواية مسلم بتقديم قوله: في شأنه كله على قوله في تنعله إلى آخره ، قال: فيكون بدل البعض من الكل فكأنه ظن أن كلام الطيبي من الرواية التي فيها ذكر الشأن متأخرا كما هي رواية البخاري هنا ، ثم قال: ووقع في رواية مسلم بتقديم قوله: في شأنه وهذا كما ترى فيه خبط ظاهر.

                                                                                                                                                                                  ( بيان المعاني ) قوله: التيمن لفظ مشترك بين الابتداء باليمين وبين تعاطي الشيء باليمين، وبين التبرك وبين قصد اليمن، ولكن القرينة دلت على أن المراد المعنى الأول. قوله: في تنعله إلى آخره زاد أبو داود فيه عن مسلم بن إبراهيم، عن شعبة "وسواكه" وفي رواية لأبي داود : كان يحب التيامن ما استطاع في شأنه. وفي رواية للبخاري أيضا عن شعبة : ما استطاع فنبه على المحافظة على ذلك ما لم يمنع مانع. وفي رواية ابن حبان : كان يحب التيامن في كل شيء حتى في الترجل والانتعال. وفي رواية ابن منده: كان يحب التيامن في الوضوء والانتعال.

                                                                                                                                                                                  قوله: كله تأكيد لقوله: في شأنه فإن قلت : ما وجه التأكيد وقد استحب التياسر في بعض الأفعال كدخول الخلاء ونحوه قلت: هذا عام مخصوص بالأدلة الخارجية قال الكرماني : وما من عام إلا وقد خص إلا والله بكل شيء عليم قلت: إن أراد به أنه يقبل التخصيص أو يحتمله فمسلم، وإن أراد بالإطلاق ففيه نظر.

                                                                                                                                                                                  وقال الشيخ محيي الدين: هذه قاعدة مستمرة في الشرع وهي أن ما كان من باب التكريم والتشريف; كلبس الثوب والسراويل والخف، ودخول المسجد والسواك والاكتحال، وتقليم الأظفار وقص الشارب، وترجيل الشعر ونتف [ ص: 32 ] الإبط وحلق الرأس والسلام من الصلاة، وغسل أعضاء الطهارة والخروج إلى الخلاء والأكل والشرب والمصافحة، واستلام الحجر الأسود وغير ذلك مما هو في معناه يستحب التيامن فيه، وأما ما كان بضده كدخول الخلاء والخروج من المسجد والامتخاط والاستنجاء وخلع الثوب والسراويل والخف، وما أشبه ذلك فيستحب التياسر فيه، ويقال: حقيقة الشأن ما كان فعلا مقصودا، وما يستحب فيه التياسر ليس من الأفعال المقصودة، بل هي إما تروك وإما غير مقصودة.

                                                                                                                                                                                  ( بيان استنباط الأحكام ) الأول فيه الدلالة على شرف اليمين، وقد مر في معنى الحديث السابق، الثاني فيه استحباب البداءة بشق الرأس الأيمن في الترجل والغسل والحلق، فإن قلت : هو من باب الإزالة فكان ينبغي أن يبدأ بالأيسر قلت: لا بل هو من باب التزيين والتجميل، الثالث فيه استحباب البداية في التنعل والتخفف كذلك، الرابع فيه استحباب البداءة باليمين في الوضوء، وقال ابن المنذر : أجمعوا على أن لا إعادة على من بدأ بيساره في وضوئه قبل يمينه، وروينا عن علي وابن مسعود رضي الله تعالى عنهما أنهما قالا: "لا تبالي بأي شيء بدأت" زاد الدارقطني أبا هريرة، ونقل المرتضى الشيعي عن الشافعي في القديم وجوب تقديم اليمنى على اليسرى، ونسب المرتضى في ذلك إلى الغلط، فكأنه ظن أن ذلك لازم من وجوب الترتيب عند الشافعي .

                                                                                                                                                                                  وقال النووي : أجمع العلماء على أن تقديم اليمنى في الوضوء سنة، من خالفها فاته الفضل وتم وضوءه. والمراد من قوله: العلماء أهل السنة; لأن مذهب الشيعة الوجوب، وقد صحف العمراني في البيان ، والبندنيجي في التجريد الشيعة بالشين المعجمة بالسبعة من العدد ، في نسبتهما القول بالوجوب إلى الفقهاء السبعة، وفي كلام الرافعي أيضا ما يوهم أن أحمد بن حنبل قال بوجوبه وليس كذلك; لأن صاحب المغني قال: لا نعلم في عدم الوجوب خلافا، فإن قلت : روى أبو داود والترمذي بإسناد جيد، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنه عليه الصلاة والسلام قال: إذا توضأتم فابدءوا بميامنكم . وفي أكثر طرقه: بأيامنكم جمع أيمن "إذا لبستم وإذا توضأتم".

                                                                                                                                                                                  قلت: الأمر فيه للاستحباب، وقال النووي : واعلم أن الابتداء باليسار وإن كان مجزئا فهو مكروه نص عليه الشافعي رضي الله عنه في الأم ، وقال أيضا: ثم اعلم أن من الأعضاء في الوضوء ما لا يستحب فيه التيامن وهو الأذنان والكفان والخدان، بل يطهران دفعة واحدة، فإن تعذر ذلك كما في حق الأقطع ونحوه قدم اليمين.

                                                                                                                                                                                  ومما روي في هذا الباب عن ابن عمر قال: خير المسجد المقام ، ثم ميامن المسجد. وقال سعيد بن المسيب : يصلي في الشق الأيمن من المسجد، وكان إبراهيم يعجبه أن يقوم عن يمين الإمام، وكان أنس يصلي في الشق الأيمن وكذا عن الحسن وابن سيرين .




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية