الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          [ ص: 303 ] ( خلاصة الآيتين وقتال البغاة وطاعة الأئمة ) قد علم من التفصيل السابق أن هاتين الآيتين خاصتان بعقاب المحاربين المفسدين في الأرض ; أي الذين يعملون في بلاد الإسلام أعمالا مخلة بالأمن على الأنفس والأموال والأعراض ، معتصمين في ذلك بقوتهم ، غير مذعنين للشريعة باختيارهم . فيجب على الأئمة الحكام أن يطاردوهم ويتبعوهم ، فإذا قدروا عليهم عاقبوهم بتلك العقوبات ، بعد تقدير كل مفسدة بقدرها ، ومراعاة المصلحة العامة ، وسد ذريعة الفساد ، ومن تاب قبل القدرة عليه لا يعاقب بما في هذه الآية ، وإنما حكمه حكم سائر الناس .

                          وقد قلنا إن بعض العلماء قال : إن الآية نزلت في الخوارج ، وأوردوا في هذا المقام ما ورد من الأحاديث المنبئة بصفات الذين خرجوا على أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه في عهد خلافته ، ولا يصح ذلك القول بحال من الأحوال ، وقد قاتل أمير المؤمنين الخوارج برأي من معه من علماء الصحابة ، ولم يعاملهم بعقوبات آية المحاربين المفسدين ; إذ لم يكن غرضهم الإفساد في الأرض ، ولا تخريب العمران وإزالة الأمن ، وإنما هم قوم خرجوا على الإمام العادل بعد البيعة متأولين ، زاعمين أنه زل عن صراط الحق ، وتجاوز تحكيم الشرع إلى الرأي .

                          وقد اختلف علماء المسلمين في مسألة الخروج على أئمة الجور وحكم من يخرج ; لاختلاف ظواهر النصوص التي وردت في الطاعة والجماعة والصبر وتغيير المنكر ومقاومة الظلم والبغي ، ولم أر قولا لأحد جمع به بين كل ما ورد من الآيات والأحاديث في هذا الباب ، ووضع كلا منها في الموضع الذي يقتضيه سبب وروده ، مراعيا اختلاف الحالات في ذلك ، مبينا مفهومات الألفاظ بحسب ما كانت تستعمل به في زمن التنزيل دون ما بعده . مثال هذا لفظ " الجماعة " إنما كان يراد به جماعة المسلمين التي تقيم أمر الإسلام بإقامة كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، ولكن صارت كل دولة أو إمارة من دول المسلمين تحمل كلمة الجماعة على نفسها ، وإن هدمت السنة وأقامت البدعة وعطلت الحدود وأباحت الفجور ، ومثال اختلاف الأحوال تعدد الدول ؛ فأيها تجب طاعته والوفاء ببيعته ؟ وإذا قاتل أحدها الآخر ؛ فأيها يعد الباغي الذي يجب على سائر المسلمين قتاله حتى يفيء إلى أمر الله ؟ كل قوم يطبقون النصوص على أهوائهم مهما كانت ظاهرة .

                          ومن المسائل المجمع عليها قولا واعتقادا أنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ، " وإنما الطاعة في المعروف " ، وأن الخروج على الحاكم المسلم إذا ارتد عن الإسلام واجب ، وأن إباحة المجمع على تحريمه ; كالزنا والسكر واستباحة إبطال الحدود ، وشرع ما لم يأذن به الله ، كفر [ ص: 304 ] وردة ، وأنه إذا وجد في الدنيا حكومة عادلة تقيم الشرع وحكومة جائرة تعطله ، وجب على كل مسلم نصر الأولى ما استطاع ، وأنه إذا بغت طائفة من المسلمين على أخرى ، وجردت عليها السيف ، وتعذر الصلح بينهما ، فالواجب على المسلمين قتال الباغية المعتدية حتى تفيء إلى أمر الله ، وما ورد في الصبر على أئمة الجور - إلا إذا كفروا - معارض بنصوص أخرى ، والمراد به اتقاء الفتنة وتفريق الكلمة المجتمعة ، وأقواها حديث : " وألا تنازع الأمر أهله ، إلا أن تروا كفرا بواحا " . قال النووي : المراد بالكفر هنا المعصية ، ومثله كثير ، وظاهر الحديث أن منازعة الإمام الحق في إمامته لنزعها منه لا يجب إلا إذا كفر كفرا ظاهرا ، وكذا عماله وولاته ، وأما الظلم والمعاصي فيجب إرجاعه عنها مع بقاء إمامته وطاعته في المعروف دون المنكر ، وإلا خلع ونصب غيره . ومن هذا الباب خروج الإمام الحسين سبط الرسول صلى الله عليه وآله وسلم على إمام الجور والبغي الذي ولي أمر المسلمين بالقوة والمكر ، يزيد بن معاوية خذله الله وخذل من انتصر له من الكرامية والنواصب الذين لا يزالون يستحبون عبادة الملوك الظالمين على مجاهدتهم لإقامة العدل والدين . وقد صار رأي الأمم الغالب في هذا العصر وجوب الخروج على الملوك المستبدين المفسدين ، وقد خرجت الأمة العثمانية على سلطانها عبد الحميد خان ، فسلبت السلطة منه وخلعته بفتوى من شيخ الإسلام ، وتحرير هذه المسائل لا يمكن إلا بمصنف خاص ، والسلام على من اتبع الهدى ورجح الحق على الهوى .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية