الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            صفحة جزء
            بذل العسجد لسؤال المسجد

            بسم الله الرحمن الرحيم

            الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى . السؤال في المسجد مكروه كراهة تنزيه ، وإعطاء السائل فيه قربة يثاب عليها وليس بمكروه فضلا عن أن يكون حراما ، هذا هو المنقول والذي دلت عليه الأحاديث ، أما النقل فقال النووي في شرح المهذب في باب الغسل : فرع لا بأس بأن يعطي السائل في المسجد شيئا لحديث عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق [ رضي الله عنهما ] قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( هل منكم أحد أطعم اليوم مسكينا ، فقال أبو بكر : دخلت المسجد فإذا أنا بسائل يسأل ، فوجدت كسرة خبز في يد عبد الرحمن فأخذتها فدفعتها إليه ) رواه أبو داود بإسناد جيد - هذا كلام شرح المهذب بحروفه ، والحديث الذي أورده فيه دليل للأمرين معا أن الصدقة عليه ليست مكروهة ، وأن السؤال في المسجد ليس بمحرم لأنه صلى الله عليه وسلم اطلع على ذلك بأخبار الصديق ولم ينكره ، ولو كان حراما لم يقر عليه بل كان يمنع السائل من العود إلى السؤال في المسجد ، وبذلك يعرف أن النهي عن السؤال في المسجد إن ثبت محمول على الكراهة والتنزيه ، وهذا صارف له عن الحرمة ، قلت : ومن أخذ تحريمه من كونه مؤذيا للمصلين برفع الصوت فأكثر ما ينهض ذلك دليلا للكراهة ، وقد نص النووي في شرح المهذب على أنه يكره رفع الصوت بالخصومة في المسجد ولم يحكم عليه بالتحريم ، وكذا رفع [ ص: 104 ] الصوت بالقراءة والذكر إذا آذى المصلين والنيام نصوا على كراهته لا تحريمه ، والحكم بالتحريم يحتاج إلى دليل واضح صحيح الإسناد غير معارض ، ثم إلى نص من أحد أئمة المذهب ، وكل من الأمرين لا سبيل إليه ، ثم رأيت أبا داود والبيهقي استدلا بالحديث المذكور على جواز المسألة في المسجد فإنهما قالا في سننهما باب المسألة في المسجد وأوردا فيه الحديث المذكور ، وأخرجه الحاكم في مستدركه في كتاب الزكاة ، وقال : صحيح على شرط مسلم ، قال المنذري : وقد أخرجه مسلم في صحيحه ، والنسائي في سننه ، منه حديث أبي حازم سليمان الأشجعي عن أبي هريرة رضي الله عنه ، قلت : وأخرجه البخاري في أحكام المساجد للزركشي ، ومن الأحاديث الدالة لما قلناه ما أخرجه الطبراني في الأوسط عن عمار بن ياسر قال : وقف على علي بن أبي طالب سائل وهو راكع في تطوع فنزع خاتمه فأعطاه السائل فنزلت ( إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون ) وأخرج ابن مردويه في تفسيره عن ابن عباس قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسجد والناس يصلون ، وإذا مسكين يسأل فقال : أعطاك أحد شيئا ؟ قال : نعم ذاك القائم ، قال : على أي حال أعطاك ؟ قال : وهو راكع ، قال : وذلك علي فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وتلا الآية ( إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون ) وأخرج ابن جرير في تفسيره من طريق آخر عن ابن عباس قال : كان علي قائما يصلي فمر سائل وهو راكع فأعطاه خاتمه ، فنزلت الآية ، وأخرج أبو الشيخ بن حبان وابن مردويه في تفسيرهما عن علي بن أبي طالب قال : ( نزلت هذه الآية : ( إنما وليكم الله ورسوله ) الآية ، على النبي صلى الله عليه وسلم في بيته ، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس يصلون ، فإذا سائل ، فقال : أعطاك أحد شيئا ؟ قال : لا إلا ذاك الراكع - لعلي - أعطاني خاتمه ) ، وأخرج ابن أبي حاتم في تفسيره ، وابن عساكر في تاريخه ، عن سلمة بن كهيل قال : تصدق علي بخاتمه وهو راكع ، فنزلت ( إنما وليكم الله ورسوله ) الآية .

            فهذه خمس طرق لنزول هذه الآية الكريمة في التصدق على السائل في المسجد يشد بعضها بعضا ، وأخرج الحاكم في المستدرك وصححه والبيهقي في شعب الإيمان ، عن حذيفة بن اليمان قال : ( قام سائل على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فسأل ، فسكت القوم ، ثم إن رجلا أعطاه فأعطاه القوم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : من سن خيرا فاستن به فله أجره ومثل أجور من اتبعه غير منتقص من أجورهم ) .

            [ ص: 105 ] ثم إن النهي عن السؤال في المسجد لم يرد من طريق صحيح ، وما وقع في المدخل لابن الحاج من حديث : ( من سأل في المساجد فاحرموه ) فإنه لا أصل له ، وإنما قلنا بالكراهة أخذا من حديث النهي عن نشد الضالة في المسجد ، وقوله : إن المساجد لم تبن لهذا ، قال النووي في شرح مسلم : في هذا الحديث النهي عن نشد الضالة في المسجد ، ويلحق به ما في معناه في البيع والشراء والإجارة ونحوها وكراهة رفع الصوت في المسجد بالعلم وغيره ، وأجاز أبو حنيفة ومحمد بن مسلمة من أصحاب مالك رفع الصوت فيه بالعلم والخصومة وغير ذلك مما يحتاج الناس إليه لأنه مجمعهم فلا بد لهم منه انتهى .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية