الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
[ ص: 301 ] النوع الحادي عشر

معرفة على كم لغة نزل

ثبت في " الصحيحين " من حديث ابن عباس ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : أقرأني جبريل على حرف فراجعته ، ثم لم أزل أستزيده فيزيدني ، حتى انتهى إلى سبعة أحرف . زاد مسلم : [ ص: 302 ] قال ابن شهاب : بلغني أن تلك السبعة إنما هي في الأمر الذي يكون واحدا لا يختلف في حلال ولا حرام .

وأخرجا أيضا من حديث عمر بن الخطاب قال : سمعت هشام بن حكيم بن حزام يقرأ سورة " الفرقان " على غير ما أقرؤها ، وفي رواية : على حروف كثيرة لم يقرئنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : يا رسول الله ، إني سمعت هذا يقرأ سورة " الفرقان " على غير ما أقرأتنيها . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أرسله ، اقرأ ، فقرأ القراءة التي سمعته يقرأ ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هكذا أنزلت ، ثم قال لي : اقرأ ، فقرأت ، فقال : هكذا أنزلت ; إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف ، فاقرءوا ما تيسر منه .

وأخرج مسلم نحوه عن أبي بن كعب ، وفيه : فقال النبي صلى الله عليه وسلم : فإني أرسل إلي : أن اقرأ القرآن على حرف ، فرددت إليه : أن هون على أمتي ، فرد إلي الثانية : اقرأه على حرفين ، فرددت إليه : أن هون على أمتي ، فرد إلي الثالثة : اقرأه على سبعة [ ص: 303 ] أحرف ، ولك بكل ردة رددتكها مسألة تسألنيها ، فقلت : اللهم اغفر لأمتي ، وأخرت الثالثة ليوم يرغب إلي الخلق كلهم حتى إبراهيم - عليه السلام - .

وأخرج قاسم بن أصبغ في " مصنفه " من حديث المقبري ، عن أبي هريرة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف ; فاقرءوا ولا حرج ، ولكن لا تختموا ذكر رحمة بعذاب ، ولا ذكر عذاب برحمة .

وأما ما رواه الحاكم في " المستدرك " عن سمرة يرفعه : أنزل القرآن على ثلاثة أحرف فقال أبو عبيد : تواترت الأخبار بالسبعة إلا هذا الحديث .

قال أبو شامة : يحتمل أن يكون معناه : إن بعضه أنزل على ثلاثة أحرف ; كـ " جذوة " ( القصص : 29 ) و " الرهب " ( القصص : 32 ) و " الصدفين " ( الكهف : 96 ) ، [ ص: 304 ] فيقرأ كل واحد على ثلاثة أوجه في هذه القراءة المشهورة . أو أراد : أنزل ابتداء على ثلاثة ، ثم زيد إلى سبعة ، ومضى جميع ذلك أنه نزل منه ما يقرأ على حرفين ، وعلى ثلاثة وأكثر إلى سبعة أحرف ; توسعة على العباد باعتبار اختلاف اللغات والألفاظ المترادفة ، وما يقارب معناها .

وقال ابن العربي : لم يأت في معنى هذا السبع نص ولا أثر ، واختلف الناس في تعيينها .

وقال الحافظ أبو حاتم بن حبان البستي : اختلف الناس فيها على خمسة وثلاثين قولا ، وقال : وقفت منها على كثير ; فذهب بعضهم إلى أن المراد التوسعة على القارئ ، ولم يقصد به الحصر ، والأكثر على أنه محصور في سبعة ، ثم اختلفوا : هل هي باقية إلى الآن نقرؤها ؟ أم كان ذلك أولا ؟ ثم استقر الحال بعده على قولين .

وقال القرطبي : إن القائلين بالثاني - وهو أن الأمر كان كذلك ، ثم استقر على ما هو الآن - هم أكثر العلماء ، منهم سفيان بن عيينة وابن وهب والطبري والطحاوي ، ثم اختلفوا : هل استقر في حياته صلى الله عليه وسلم أم بعد وفاته ؟ والأكثرون على الأول ، واختاره القاضي أبو بكر بن الطيب وابن عبد البر وابن العربي وغيرهم ، ورأوا أن ضرورة اختلاف [ ص: 305 ] لغات العرب ، ومشقة نطقهم بغير لغتهم ، اقتضت التوسعة عليهم في أول الأمر ، فأذن لكل منهم أن يقرأ على حرفه ، أي على طريقته في اللغة ; إلى أن انضبط الأمر في آخر العهد ، وتدربت الألسن ، وتمكن الناس من الاقتصار على الطريقة الواحدة ; فعارض جبريل النبي صلى الله عليه وسلم القرآن مرتين في السنة الآخرة ، واستقر على ما هو عليه الآن ، فنسخ الله سبحانه تلك القراءة المأذون فيها بما أوجبه من الاقتصار على هذه القراءة التي تلقاها الناس ، ويشهد لهذا الحديث الآتي من مراعاة التخفيف على العجوز والشيخ الكبير ، ومن التصريح في بعضها بأن ذلك مثل : هلم وتعال .

التالي السابق


الخدمات العلمية