الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      وسنذكر هنا طرفا قليلا من ذلك يعرف به صحة القول بالاجتهاد والقياس فيما لا نص فيه ، وأن إلحاق النظير بنظيره المنصوص عليه غير مخالف للشرع الكريم .

                                                                                                                                                                                                                                      اعلم أولا أن إلحاق المسكوت عنه بالمنطوق به بنفي الفارق بينهما لا يكاد ينكره إلا مكابر ، وهو نوع من القياس الجلي ، ويسميه الشافعي رحمه الله " القياس في معنى الأصل " وأكثر أهل الأصول لا يطلقون عليه اسم القياس ، مع أنه إلحاق مسكوت عنه بمنطوق به لعدم الفرق بينهما ; أعني الفرق المؤثر في الحكم .

                                                                                                                                                                                                                                      ومن أمثلة هذا النوع قوله تعالى : فلا تقل لهما أف [ 17 \ 23 ] ، فإنه لا يشك عاقل في أن النهي عن التأفف المنطوق به يدل على النهي عن الضرب المسكوت عنه .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله تعالى : فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره [ 99 \ 7 ، 8 ] فإنه لا شك أيضا في أن التصريح بالمؤاخذة بمثال الذرة والإثابة عليه المنطوق به يدل على المؤاخذة ، والإثابة بمثقال الجبل المسكوت عنه .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله تعالى : وأشهدوا ذوي عدل الآية [ 65 \ 2 ] ، لا شك في أنه يدل على أن شهادة أربعة عدول مقبولة ، وإن كانت شهادة الأربعة مسكوتا عنها .

                                                                                                                                                                                                                                      ونهيه صلى الله عليه وسلم عن التضحية بالعوراء يدل على النهي عن التضحية بالعمياء ، مع أن ذلك مسكوت عنه .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله تعالى : إن الذين يأكلون أموال اليتامى الآية [ 4 \ 10 ] ، لا شك في أنه [ ص: 148 ] يدل على منع إحراق مال اليتيم وإغراقه ; لأن الجميع إتلاف له بغير حق .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله صلى الله عليه وسلم : " من أعتق شركا له في عبد فكان له مال يبلغ ثمن العبد قوم عليه قيمة عدل ، فأعطي شركاؤه حصصهم وعتق عليه العبد ، وإلا فقد عتق منه ما عتق " يدل على أن من أعتق شركا له في أمة فحكمه كذلك ، لما عرف من استقراء الشرع أن الذكورة والأنوثة بالنسبة إلى العتق وصفان طرديان لا تأثير لهما في أحكام العتق وإن كانا غير طرديين في غير العتق كالشهادة والميراث وغيرهما .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله صلى الله عليه وسلم : " لا يقضين حكم بين اثنين وهو غضبان " ، لا شك في أنه يدل على منع قضاء الحكم في كل حال يحصل بها التشويش المانع من استيفاء النظر ; كالجوع والعطش المفرطين ، والسرور والحزن المفرطين ، والحقن والحقب المفرطين .

                                                                                                                                                                                                                                      ونهيه صلى الله عليه وسلم عن البول في الماء الراكد ، لا شك في أنه يدل على النهي عن البول في قارورة مثلا ، وصب البول من القارورة في الماء الراكد ; إذ لا فرق يؤثر في الحكم بين البول فيه مباشرة وصبه فيه من قارورة ونحوها ، وأمثال هذا كثيرة جدا ، ولا يمكن أن يخالف فيها إلا مكابر . ولا شك أن في ذلك كله استدلالا بمنطوق به على مسكوت عنه . وكذلك نوع الاجتهاد المعروف في اصطلاح أهل الأصول " بتحقيق المناط " لا يمكن أن ينكره إلا مكابر ، ومسائله التي لا يمكن الخلاف فيها من غير مكابر لا يحيط بها الحصر ، وسنذكر أمثلة منها ; فمن ذلك قوله تعالى : يحكم به ذوا عدل منكم [ 5 \ 95 ] فكون الصيد المقتول يماثله النوع المعين من النعم اجتهاد في تحقيق مناط هذا الحكم ، نص عليه جل وعلا في محكم كتابه ، وهو دليل قاطع على بطلان قول من يجعل الاجتهاد في الشرع مستحيلا من أصله ، والإنفاق على الزوجات واجب ، وتحديد القدر اللازم لا بد فيه من نوع من الاجتهاد في تحقيق مناط ذلك الحكم ، وقيم المتلفات واجبة على من أتلف ، وتحديد القدر الواجب لا بد فيه من اجتهاد ، والزكاة لا تصرف إلا في مصرفها ، كالفقير ولا يعلم فقره إلا بأمارات ظنية يجتهد في الدلالة عليها بالقرائن ; لأن حقيقة الباطن لا يعلمها إلا الله ، ولا يحكم إلا بقول العدل ، وعدالته إنما تعلم بأمارات ظنية يجتهد في معرفتها بقرائن الأخذ والإعطاء وطول المعاشرة . وكذلك الاجتهاد من المسافرين في جهة القبلة بالأمارات ، إلى غير ذلك مما لا يحصى .

                                                                                                                                                                                                                                      ومن النصوص الدالة على مشروعية الاجتهاد في مسائل الشرع ما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك ، قال مسلم بن الحجاج رحمه الله في صحيحه : حدثنا يحيى بن [ ص: 149 ] يحيى التميمي ، أخبرنا عبد العزيز بن محمد ، عن يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد ، عن محمد بن إبراهيم ، عن بسر بن سعيد ، عن أبي قيس مولى عمرو بن العاص ، عن عمرو بن العاص : أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران ، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر " .

                                                                                                                                                                                                                                      وحدثني إسحاق بن إبراهيم ، ومحمد بن أبي عمر كلاهما عن عبد العزيز بن محمد بهذا الإسناد مثله ، وزاد في عقب الحديث : قال يزيد : فحدثت هذا الحديث أبا بكر بن محمد بن عمرو بن حزم ، فقال : هكذا حدثني أبو سلمة ، عن أبي هريرة ، وحدثني عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي : أخبرنا مروان - يعني ابن محمد الدمشقي - حدثنا الليث بن سعد ، حدثني يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد الليثي بهذا الحديث ، مثل رواية عبد العزيز بن محمد بالإسنادين جميعا . انتهى .

                                                                                                                                                                                                                                      فهذا نص صحيح من النبي صلى الله عليه وسلم ، صريح في جواز الاجتهاد في الأحكام الشرعية ، وحصول الأجر على ذلك وإن كان المجتهد مخطئا في اجتهاده ، وهذا يقطع دعوى الظاهرية منع الاجتهاد من أصله ، وتضليل فاعله والقائل به قطعا باتا كما ترى .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال النووي في شرح هذا الحديث : قال العلماء : أجمع المسلمون على أن هذا الحديث في حاكم عالم أهل للحكم ; فإن أصاب فله أجران : أجر باجتهاده ، وأجر بإصابته ، وإن أخطأ فله أجر باجتهاده . وفي الحديث محذوف تقديره : إذا أراد الحاكم أن يحكم فاجتهد . قالوا : فأما من ليس بأهل للحكم فلا يحل له الحكم ، فإن حكم فلا أجر له بل هو آثم ، ولا ينعقد حكمه سواء وافق الحق أم لا ; لأن إصابته اتفاقية ليست صادرة عن أصل شرعي ، فهو عاص في جميع أحكامه سواء وافق الصواب أم لا ، وهي مردودة كلها ، ولا يعذر في شيء من ذلك . وقد جاء في الحديث في السنن : " القضاة ثلاثة : قاض في الجنة ، واثنان في النار . قاض عرف الحق فقضى به فهو في الجنة ، وقاض عرف الحق فقضى بخلافه فهو في النار ، وقاض قضى على جهل فهو في النار " انتهى الغرض من كلام النووي .

                                                                                                                                                                                                                                      فإن قيل : الاجتهاد المذكور في الحديث هو الاجتهاد في تحقيق المناط دون غيره من أنواع الاجتهاد .

                                                                                                                                                                                                                                      فالجواب أن هذا صرف لكلامه صلى الله عليه وسلم عن ظاهره من غير دليل يجب الرجوع إليه ، وذلك ممنوع .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 150 ] وقال البخاري في صحيحه : باب أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ . حدثنا عبد الله بن يزيد ، حدثنا حيوة ، حدثني يزيد بن عبد الله بن الهاد ، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث ، عن بسر بن سعيد ، عن أبي قيس - مولى عمرو بن العاص - عن عمرو بن العاص : أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران ، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر " ، قال : فحدثت بهذا الحديث أبا بكر بن عمرو بن حزم ، فقال : هكذا حدثني أبو سلمة بن عبد الرحمن ، عن أبي هريرة . وقال عبد العزيز بن المطلب ، عن عبد الله بن أبي بكر ، عن أبي سلمة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله . اهـ . فهذا الحديث المتفق عليه يدل على بطلان قول من منع الاجتهاد من أصله في الأحكام الشرعية . ومحاولة ابن حزم تضعيف هذا الحديث المتفق عليه ، الذي رأيت أنه في أعلى درجات الصحيح لاتفاق الشيخين عليه - لا تحتاج إلى إبطالها لظهور سقوطها كما ترى ; لأنه حديث متفق عليه مروي بأسانيد صحيحة عن صحابيين جليلين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                                                                                                                                                      ومن الأدلة الدالة على ذلك ما روي عن معاذ بن جبل رضي الله عنه : أن النبي صلى الله عليه وسلم حين بعثه إلى اليمن قال له : " فبم تحكم " ؟ قال : بكتاب الله . قال : " فإن لم تجد " ؟ قال : بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال : " فإن لم تجد " ؟ قال : أجتهد رأيي . قال : فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدره وقال : " الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم لما يرضي رسول الله صلى الله عليه وسلم " .

                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن كثير رحمه الله في مقدمة تفسيره بعد أن ذكر هذا الحديث ما نصه : وهذا الحديث في المسند والسنن بإسناد جيد كما هو مقرر في موضعه .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال ابن قدامة ( في روضة الناظر ) بعد أن ساق هذا الحديث : قالوا هذا الحديث يرويه الحارث بن عمرو عن رجال من أهل حمص ، والحارث والرجال مجهولون ; قاله الترمذي . قلنا : قد رواه عبادة بن نسي ، عن عبد الرحمن بن غنم ، عن معاذ رضي الله عنه . انتهى .

                                                                                                                                                                                                                                      ومراد ابن قدامة ظاهر ; لأن رد الظاهرية لهذا الحديث بجهالة من رواه عن معاذ مردود بأنه رواه عبادة بن نسي عن عبد الرحمن بن غنم عنه ، وهذه الرواية ليست هي مراد ابن كثير بقوله : هذا الحديث في المسند والسنن بإسناد جيد ; لأنها ليست في المسند ولا في [ ص: 151 ] السنن ، ولعل مراده بجودة هذا الإسناد أن الحارث ابن أخي المغيرة بن شعبة وثقه ابن حبان ، وأن أصحاب معاذ يراهم عدولا ليس فيهم مجروح ولا متهم ، وسيأتي استقصاء البحث في طرق هذا الحديث في سورة الأنبياء . ومعلوم أن عبادة بن نسي ثقة فاضل كما قدمنا . وعبد الرحمن بن غنم قيل صحابي ، وذكره العجلي في كبار ثقات التابعين ، قاله في التقريب ، وحديث معاذ هذا تلقته الأمة قديما وحديثا بالقبول ، وسيأتي إن شاء الله " في سورة الأنبياء " ، و " سورة الحشر " ما استدل به أهل العلم على هذا من آيات القرآن العظيم .

                                                                                                                                                                                                                                      ومن الأدلة الدالة على أن إلحاق النظير بنظيره في الشرع جائز : ما أخرجه الشيخان في صحيحيهما عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله ، إن أمي ماتت وعليها صوم نذر ، أفأصوم عنها ؟ قال : " أفرأيت لو كان على أمك دين فقضيته ، أكان يؤدي ذلك عنها " ؟ قالت : نعم . قال : " فصومي عن أمك " وفي رواية لهما عنه قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، إن أمي ماتت وعليها صوم شهر ، أفأقضيه عنها ؟ قال : " لو كان على أمك دين ، أكنت قاضيه عنها " ؟ قال : نعم . قال : " فدين الله أحق أن يقضى " . انتهى .

                                                                                                                                                                                                                                      واختلاف الرواية في هذا الحديث لا يعد اضطرابا ، لأنها وقائع متعددة : سألته امرأة فأفتاها ، وسأله رجل فأفتاه بمثل ما أفتى به المرأة ، كما نبه عليه غير واحد .

                                                                                                                                                                                                                                      وهذا نص صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم ، صريح في مشروعية إلحاق النظير بنظيره المشارك له في علة الحكم ; لأنه صلى الله عليه وسلم بين إلحاق دين الله تعالى بدين الآدمي ، بجامع أن الكل حق مطالب به تسقط المطالبة به بأدائه إلى مستحقه ، وهو واضح في الدلالة على القياس كما ترى .

                                                                                                                                                                                                                                      ومن الأدلة الدالة على ذلك أيضا : ما رواه الشيخان في صحيحيهما أيضا من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : جاء رجل من بني فزارة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إن امرأتي ولدت غلاما أسود ! فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " هل لك إبل " ؟ قال : نعم . قال : " فما ألوانها " ؟ قال : حمر . قال : " فهل يكون فيها من أورق " ؟ قال : إن فيها لورقا . قال : " فأنى أتاها ذلك " ؟ قال : عسى أن يكون نزعه عرق . قال : " وهذا عسى أن يكون نزعه عرق " . اهـ .

                                                                                                                                                                                                                                      فهذا نص صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم صريح في قياس النظير على نظيره ، وقد ترتب على هذا القياس حكم شرعي ، وهو كون سواد الولد مع بياض أبيه وأمه ، ليس موجبا للعان ; [ ص: 152 ] فلم يجعل سواده قرينة على أنها زنت بإنسان أسود ، لإمكان أن يكون في أجداده من هو أسود فنزعه إلى السواد سواد ذلك الجد ; كما أن تلك الإبل الحمر فيها جمال ورق يمكن أن لها أجدادا ورقا نزعت ألوانها إلى الورقة ، وبهذا اقتنع السائل .

                                                                                                                                                                                                                                      ومن الأدلة الدالة على إلحاق النظير بنظيره : ما رواه أبو داود ، والإمام أحمد ، والنسائي ، عن عمر رضي الله عنه قال : هششت يوما فقبلت وأنا صائم . فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت : صنعت اليوم أمرا عظيما ! قبلت وأنا صائم ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أرأيت لو تمضمضت بماء وأنت صائم " ؟ فقلت : لا بأس بذلك . فقال صلى الله عليه وسلم " فمه " . اهـ .

                                                                                                                                                                                                                                      فإن قيل : هذا الحديث قال فيه النسائي : منكر .

                                                                                                                                                                                                                                      قلنا : صححه ابن خزيمة ، وابن حبان ، والحاكم . قاله الشوكاني في نيل الأوطار .

                                                                                                                                                                                                                                      قال مقيده عفا الله عنه : هذا الحديث ثابت وإسناده صحيح . قال : أبو داود في سننه : حدثنا أحمد بن يونس ثنا الليث ( ح ) وثنا عيسى بن حماد ، أخبرنا الليث بن سعد ، عن بكير بن عبد الله ، عن عبد الملك بن سعيد ، عن جابر بن عبد الله ، قال : قال عمر بن الخطاب : هششت فقبلت . . إلى آخر الحديث بلفظه المذكور آنفا . ولا يخفى أن هذا الإسناد صحيح ، فإن طبقته الأولى أحمد بن يونس وعيسى بن حماد ، أما أحمد فهو ابن عبد الله بن يونس الكوفي التميمي اليربوعي ثقة حافظ ، وعيسى بن حماد التجيبي أبو موسى الأنصاري الملقب زغبة ، ثقة . وطبقته الثانية الليث بن سعد بن عبد الرحمن الفهمي أبو الحارث المصري ثقة ثبت ، فقيه إمام مشهور . وطبقته الثالثة بكير بن عبد الله بن الأشج مولى بني مخزوم أبو عبد الله ، أو أبو يوسف المدني ، نزيل مصر ; ثقة . وطبقته الرابعة عبد الملك بن سعيد بن سويد الأنصاري المدني ثقة . وطبقته الخامسة جابر بن عبد الله ، عن عمر بن الخطاب ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ; فهذا إسناد صحيح رجاله ثقات كما ترى . فهو نص صحيح صريح في أنه صلى الله عليه وسلم قاس القبلة على المضمضة ; لأن المضمضة مقدمة الشرب ، والقبلة مقدمة الجماع ، فالجامع بينهما أن كلا منهما مقدمة الفطر ، وهي لا تفطر بالنظر لذاتها .

                                                                                                                                                                                                                                      فهذه الأدلة التي ذكرنا - فيها الدليل الواضح على أن إلحاق النظير بنظيره من الشرع لا مخالف له ; لأنه صلى الله عليه وسلم فعله ، والله يقول : لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة [ 33 \ 21 ] ، وهو صلى الله عليه وسلم لم يفعله إلا لينبه الناس له .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 153 ] فإن قيل : إنما فعله صلى الله عليه وسلم لأن الله أوحى إليه ذلك .

                                                                                                                                                                                                                                      قلنا : فعله حجة في فعل مثل ذلك الذي فعل ، ولو كان فعله بوحي كسائر أقواله وأفعاله وتقريراته ، فكلها تثبت بها الحجة ، وإن كان هو صلى الله عليه وسلم فعل ما فعل من ذلك بوحي من الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية