الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                        صفحة جزء
                        وأما الاستحسان ، فلأن لأهل البدع أيضا تعلقا به ، فإن الاستحسان لا يكون إلا بمستحسن ، وهو إما العقل أو الشرع .

                        أما الشرع فاستحسانه واستقباحه قد فرغ منهما ، لأن الأدلة اقتضت ذلك فلا فائدة لتسميته استحسانا ، ولا لوضع ترجمة له زائدة على الكتاب والسنة والإجماع ، وما ينشأ عنها من القياس والاستدلال .

                        فلم يبق إلا العقل هو المستحسن ، فإن كان بدليل فلا فائدة لهذه التسمية ؛ لرجوعه إلى الأدلة لا إلى غيرها .

                        وإن كان بغير دليل فذلك هو البدعة التي تستحسن .

                        ويشهد لذلك قول من قال في الاستحسان : أنه ما يستحسنه المجتهد بعقله ، ويميل إليه برأيه .

                        قالوا : وهو عند هؤلاء من جنس ما يستحسن في العوائد ، وتميل إليه الطباع فيجوز الحكم بمقتضاه إذا لم يوجد في الشرع ما ينافي هذا الكلام ما بين أن ثم من التعبدات ما لا يكون عليه دليل ، وهو الذي يسمى بالبدعة ، فلا بد أن ينقسم إلى حسن وقبيح ، إذ ليس كل استحسان حقا .

                        [ ص: 636 ] وأيضا ، فقد يجري على التأويل الثاني للأصوليين في الاستحسان . وهو أن المراد به دليل ينقدح في نفس المجتهد لا تساعده العبارة عنه ولا يقدر على إظهاره .

                        وهذا التأويل ؛ فالاستحسان يساعده لبعده لأنه يبعد في مجاري العادات أن يبتدع أحد بدعة من غير شبهة دليل ينقدح له . بل عامة البدع لا بد لصاحبها من متعلق دليل شرعي . لكن قد يمكنه إظهاره وقد لا يمكنه ـ وهو الأغلب ـ فهذا مما يحتجون به .

                        وربما ينقدح لهذا المعنى وجه بالأدلة التي استدل بها أهل التأويل الأولون ، وقد أتوا بثلاثة أدلة :

                        أحدها : قول الله سبحانه : واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم وقوله تعالى : الله نزل أحسن الحديث وقوله تعالى : فبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه هو ما تستحسنه عقولهم .

                        والثاني : قوله عليه الصلاة والسلام : ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن وإنما يعني بذلك ما رأوه بعقولهم ، وإلا لو كان حسنه بالدليل الشرعي لم يكن من حسن ما يرون ، إذ لا مجال للعقول في التشريع على [ ص: 637 ] ما زعمتم ، فلم يكن للحديث فائدة ، فدل على أن المراد ما رأوه برأيهم .

                        والثالث : أن الأمة قد استحسنت دخول الحمام من غير تقدير أجرة ولا تقدير مدة اللبث ولا تقدير الماء المستعمل ، ولا سبب لذلك إلا أن المشاحة في مثله قبيحة في العادة ، فاستحسن الناس تركه ، مع أنا نقطع أن الإجارة المجهولة ، أو مدة الاستئجار أو مقدار المشترى إذا جهل فإنه ممنوع ، وقد استحسنت إجارته مع مخالفة الدليل ، فأولى أن يجوز إذا لم يخالف دليلا .

                        فأنت ترى أن هذا الموضع مزلة قدم أيضا لمن أراد أن يبتدع ، فله أن يقول : إن استحسنت كذا وكذا فغيري من العلماء قد استحسن . وإذا كان كذلك فلا بد من فضل اعتناء بهذا الفصل ، حتى لا يغتر به جاهل أو زاعم أنه عالم ، وبالله التوفيق ،

                        فنقول : إن الاستحسان يراه معتبرا في الأحكام مالك وأبو حنيفة ، بخلاف الشافعي فإنه منكر له جدا حتى قال : من استحسن فقد شرع .

                        والذي يستقرأ من مذهبهما أنه يرجع إلى العمل بأقوى الدليلين . هكذا قال ابن العربي

                        قال ـ فالعموم إذا استمر ، والقياس إذا اطرد ، فإن مالكا وأبا حنيفة يريان تخصيص العموم بأي دليل كان من ظاهر أو معنى ـ قال ـ ويستحسن مالك أن يخص بالمصلحة ، ويستحسن أبو حنيفة أن يخص بقول الواحد من الصحابة الوارد بخلاف القياس ـ [ ص: 638 ] قال ـ ويريان معا تخصيص القياس ونقص العلة ، ولا يرى الشافعي لعلة الشرع ـ إذا ثبت ـ تخصيصا .

                        هذا ما قال ابن العربي . ويشعر بذلك تفسير الكرخي للاستحسان أنه العدول عن الحكم في المسألة بحكم نظائرها إلى خلافه لوجه أقوى .

                        وقال بعض الحنفية : أنه القياس الذي يجب العمل به ، لأن العلة كانت علة بأثرها : سموا الضعيف الأثر قياسا والقوي الأثر استحسانا ، أي قياسا مستحسنا ، وكأنه نوع من العمل بأقوى القياسين ، وهو يظهر من استقراء مسائلهم في الاستحسان بحسب النوازل الفقهية .

                        بل قد جاء عن مالك أن الاستحسان تسعة أعشار العلم . رواه أصبغ عن ابن القاسم عن مالك ،

                        قال أصبغ في الاستحسان : قد يكون أغلب من القياس .

                        وجاء عن مالك : إن المفرق في القياس يكاد يفارق السنة .

                        وهذا الكلام لا يمكن أن يكون بالمعنى الذي تقدم قبل ، وأنه ما يستحسنه المجتهد بعقله ، أو أنه دليل ينقدح في نفس المجتهد ؛ تعسر عبارته عنه ، فإن مثل هذا لا يكون تسعة أعشار العلم ، ولا أغلب من القياس الذي هو أحد الأدلة .

                        وقال ابن العربي في موضع آخر : الاستحسان إيثار ترك مقتضى الدليل على طريق الاستثناء والترخص ، لمعارضة ما يعارض به في بعض مقتضياته . وقسمه أقساما عد منها أربعة أقسام ، وهي ترك الدليل للعرف ، وتركه للمصلحة ، وتركه لليسير ، وتركه لرفع المشقة ، وإيثار التوسعة .

                        [ ص: 639 ] وحده غير ابن العربي من أهل المذهب بأنه عند مالك : استعمال مصلحة جزئية في مقابلة قياس كلي ـ قال ـ فهو تقديم الاستدلال المرسل على القياس .

                        وعرفه ابن رشد فقال : الاستحسان الذي يكثر استعماله حتى يكون أعم من القياس ـ هو أن يكون طردا لقياس يؤدي إلى غلو في الحكم ومبالغة فيه ، فيعدل عنه في بعض المواضع لمعنى يؤثر في الحكم يختص به ذلك الموضع .

                        وهذه تعريفات ، قريب بعضها من بعض .

                        وإذا كان هذا معناه عن مالك وأبي حنيفة فليس بخارج عن الأدلة البتة ، لأن الأدلة يقيد بعضها ويخصص بعضها بعضا ، كما في الأدلة السنية مع القرآنية . ولا يرد الشافعي مثل هذا أصلا . فلا حجة في تسميته استحسانا لمبتدع على حال .

                        ولا بد من الإتيان بأمثلة تبين المقصود بحول الله ، ونقتصر على عشرة أمثلة :

                        أحدها : أن يعدل بالمسألة عن نظائرها بدليل الكتاب . كقوله تعالى : خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها فظاهر اللفظ العموم في جميع ما يتمول به ، وهو مخصوص في الشرع بالأموال الزكوية خاصة ، فلو قال قائل : ما لي صدقة . فظاهر لفظه يعم كل مال ، ولكنا نحمله على مال الزكاة ، لكونه ثبت الحمل عليه في الكتاب . [ ص: 640 ] قال العلماء : وكأن هذا يرجع إلى تخصيص العموم بعادة فهم خطاب القرآن .

                        وهذا المثال أورده الكرخي تمثيلا لما قاله في الاستحسان .

                        والثاني : أن يقول الحنفي : سؤر سباع الطير نجس ، قياسا على سباع البهائم . وهذا ظاهر الأثر ، ولكنه ظاهر استحسانا ، لأن السبع ليس بنجس العين ، ولكن لضرورة تحريم لحمه ، فثبتت نجاسته بمجاورة رطوبات لعابه وإذا كان كذلك فارقه الطير ؛ لأنه يشرب بمنقاره وهو طاهر بنفسه ، فوجب الحكم بطهارة سؤره ، لأن هذا أثر قوي وإن خفي ، فترجع على الأول ، وإن كان أمره جليا ، والأخذ بأقوى القياسين متفق عليه .

                        والثالث : أن أبا حنيفة قال : إذا شهد أربعة على رجل بالزنا ولكن عين كل واحد غير الجهة التي عينها ( الآخر ) ، فالقياس أن لا يحد ، ولكن استحسن حده . ووجه ذلك أنه لا يحد إلا من شهد عليه أربعة ، فإذا عين كل واحد دارا ، فلم يأت على كل مرتبة بأربعة . لامتناع اجتماعهم على رتبة واحدة . فإذا عين كل واحد زاوية فالظاهر تعدد الفعل ، ويمكن التزاحف .

                        فإذا قال : القياس أن لا يحد ، فمعناه أن الظاهر أنه لم يجتمع الأربعة على زنا واحد ، ولكنه يؤول في المصير إلى الأمر الظاهر تفسيق العدول ، فإنه إن لم يكن محدودا صار الشهود فسقة ، ولا سبيل إلى ذلك [ ص: 641 ] ما وجدنا إلى العدول عنه سبيلا فيكون حمل الشهود على مقتضى العدالة عند الإمكان يجر ذلك الإمكان البعيد ، فليس هذا حكما بالقياس ، وإنما هو تمسك باحتمال تلقي الحكم من القرآن ، وهذا يرجع ـ في الحقيقة ـ إلى تحقيق مناطه .

                        والرابع : أن مالك بن أنس من مذهبه أن يترك الدليل للعرف ، فإنه رد الأيمان إلى العرف ، مع أن اللغة تقتضي في ألفاظها غير ما يقتضيه العرف ، كقوله : والله لا دخلت مع فلان بيتا : فهو يحنث بدخول كل موضع يسمى بيتا في اللغة ، والمسجد يسمى بيتا فيحنث على ذلك ، إلا أن عرف الناس أن لا يطلقوا هذا اللفظ عليه ، فخرج بالعرف عن مقتضى اللفظ فلا يحنث .

                        والخامس : ترك الدليل لمصلحة ، كما في تضمين الأجير المشترك وإن لم يكن صانعا ، فإن مذهب مالك في هذه المسألة على قولين ، كتضمين صاحب الحمام الثياب ، وتضمين صاحب السفينة ، وتضمين السماسرة المشتركين ، وكذلك حمال الطعام ـ على رأي مالك ـ فإنه ضامن ، ولاحق عنده بالصناع . والسبب في ذلك بعد السبب في تضمين الصناع .

                        فإن قيل : فهذا من باب المصالح المرسلة لا من باب الاستحسان ، قلنا : نعم ! إلا أنهم صوروا الاستحسان بصورة الاستثناء من القواعد . بخلاف المصالح المرسلة . ومثل ذلك يتصور في مسألة التضمين . فإن الأجراء مؤتمنون بالدليل لا بالبراءة الأصلية . فصار تضمينهم في حيز [ ص: 642 ] المستثنى من ذلك الدليل . فدخلت تحت معنى الاستحسان بذلك النظر .

                        والسادس : أنهم يحكمون بالإجماع على إيجاب الغرم على من قطع ذنب بغلة القاضي . يريدون غرم قيمة الدابة لا قيمة النقص الحاصل فيها . ووجه ذلك ظاهر . فإن بغلة القاضي لا يحتاج إليها إلا للركوب . وقد امتنع ركوبه لها بسبب فحش ذلك العيب . حتى صارت بالنسبة إلى ركوب مثله في حكم العدم . فألزموا الفاعل غرم قيمة الجميع .

                        وهو متجه بحسب الغرض الخاص . وكان الأصل أن لا يغرم إلا قيمة ما نقصها القطع خاصة . لكن استحسنوا ما تقدم .

                        وهذا الإجماع مما ينظر فيه . فإن المسألة ذات قولين في المذهب وغيره ، ولكن الأشهر في المذهب المالكي ما تقدم حسبما نص عليه القاضي عبد الوهاب .

                        والسابع : ترك مقتضى الدليل في اليسير لتفاهته ونزارته لرفع المشقة . وإيثار التوسعة على الخلق . فقد أجازوا التفاضل اليسير في المراطلة الكثيرة . وأجازوا البيع بالصرف إذا كان أحدهما تابعا للآخر . وأجازوا بدل الدرهم الناقص بالوازن لنزارة ما بينهما . والأصل المنع في الجميع ، لما في الحديث من أن الفضة بالفضة والذهب بالذهب مثلا بمثل سواء بسواء ، ولأن من زاد أو ازداد فقد أربى . ووجه ذلك أن التافه في حكم العدم ، ولذلك لا تنصرف إليه الأغراض في الغالب ، وأن المشاحة في اليسير قد تؤدي إلى الحرج والمشقة ، وهما مرفوعان عن المكلف .

                        [ ص: 643 ] والثامن : أن في " العتبية " من سماع أصبغ في الشريكين يطآن الأمة في طهر واحد فتأتي بولد فينكر أحدهما الولد دون الآخر ، أنه يكشف منكر الولد عن وطئه الذي أقر به ؛ فإن كان في صفته ما يمكن معه الإنزال لم يلتفت إلى إنكاره ، وكان كما لو اشتركا فيه ، وإن كان يدعي العزل من الوطء الذي أقر به ، فقال أصبغ : إني أستحسن هاهنا أن ألحقه بالآخر ، والقياس أن يكونا سواء ، فلعله غلب ولا يدري .

                        وقد قال عمرو بن العاص في نحو هذا : إن الوكاء قد ينقلب . قال : والاستحسان هاهنا أن ألحقه بالآخر ، والقياس أن يكونا في العلم ، قد يكون أغلب من القياس . ـ ثم حكى عن مالك ما تقدم .

                        ووجه ذلك ابن رشد بأن الأصل : من وطئ أمته فعزل عنها وأتت بولد لحق به وإن كان له منكرا ، وجب على قياس ذلك إذا كانت بين رجلين فوطئاها جميعا في طهر واحد وعزل أحدهما عنها فأنكر الولد وادعاه الآخر الذي لم يعزل عنها أن يكون الحكم في ذلك بمنزلة ما إذا كانا جميعا يعزلان أو ينزلان .

                        والاستحسان ـ كما قال ـ أن يلحق الولد بالذي ادعاه وأقر أنه كان ينزل ، وتبرأ منه الذي أنكره وادعى أنه كان يعزل ، لأن الولد يكون مع الإنزال غالبا ولا يكون مع العزل إلا نادرا ، فيغلب على الظن أن الولد إنما هو للذي ادعاه وكان ينزل ، لا الذي أنكره وهو يعزل ، والحكم بغلبة الظن أصل في الأحكام ، وله في هذا الحكم تأثير ، فوجب أن يصار إليه استحسانا ـ كما قال أصبغ

                        وهو ظاهر فيما نحن فيه .

                        [ ص: 644 ] والتاسع : ما تقدم أولا من أن الأمة استسحنت دخول الحمام من غير تقدير أجرة ولا تقدير مدة اللبث ولا تقدير الماء المستعمل . والأصل في هذا المنع إلا أنهم أجازوا ، لا كما قال المحتجون على البدع ، بل لأمر آخر هو من هذا القبيل الذي ليس بخارج عن الأدلة .

                        فأما تقدير العوض فالعرف هو الذي قدره فلا حاجة إلى التقدير .

                        وأما مدة اللبث وقدر الماء المستعمل فإن لم يكن ذلك مقدرا بالعرف أيضا فإنه يسقط للضرورة إليه . وذلك لقاعدة فقهية ، وهي أن نفي جميع الغرر في العقود لا يقدر عليه ، وهو يضيق أبواب المعاملات ، وهو تحسيم أبواب المفاوضات ، ونفي الضرر إنما يطلب تكميلا ورفعا لما عسى أن يقع من نزاع ، فهو من الأمور المكملة ، والتكميلات إذا أفضى اعتبارها إلى إبطال المكملات سقطت جملة ، تحصيلا للمهم ـ حسبما تبين في الأصول ـ فوجب أن يسامح في بعض أنواع الغرر التي لا ينفك عنها ، إذ يشق طلب الانفكاك عنها ، فسومح المكلف بيسير الغرر ، لضيق الاحتراز مع تفاهة ما يحصل من الغرر ، ولم يسامح في كثيره إذ ليس في محل الضرورة ، ولعظيم ما يترتب عليه من الخطر ، لكن الفرق بين القليل والكثير غير منصوص عليه في جميع الأمور ، وإنما نهي عن بعض أنواعه مما يعظم فيه الغرر ، فجعلت أصولا يقاس عليها غير القليل أصلا في عدم الاعتبار وفي الجواز ، وصار الكثير في حكم المنع ودار في الأصلين فروع يتجاذب العلماء النظر فيها ، فإذا [ ص: 645 ] قل الغرر وسهل الأمر وقل النزاع ومست الحاجة إلى المسامحة فلا بد من القول بها ، ومن هذا القبيل مسألة التقدير في ماء الحمام ومدة اللبث .

                        قال العلماء : ولقد بالغ مالك في هذا الباب وأمعن فيه ، فيجوز أن يستأجر الأجير بطعامه وإن كان لا ينضبط مقدار أكله ليسار أمره وخفة خطبه وعدم المشاحة ، وفرق بين تطرق يسير الغرر إلى الأجل فأجازه ، وبين تطرقه للثمن فمنعه ، فقال : يجوز للإنسان أن يشتري سلعة إلى الحصاد أو إلى الجذاذ ، وإن كان اليوم بعينه لا ينضبط ، ولو باع سلعة بدرهم أو ما يقاربه لم يجز ، والسبب في التفرقة ، المضايقة في تعيين الأثمان وتقديرها ليست في العرف ، ولا مضايقة في الأجل . إذ قد يسامح البائع في التقاضي الأيام . ولا يسامح في مقدار الثمن على حال .

                        ويعضده ما روى عمرو بن العاص ـ رضي الله عنه ـ أن النبي عليه الصلاة والسلام أمر بشراء الإبل إلى خروج المصدق . وذلك لا يضبط يومه ولا يعين ساعته . ولكنه على التقريب والتسهيل .

                        فتأملوا كيف وجه الاستثناء من الأصول الثابتة بالحرج والمشقة .

                        وأين هذا من زعم الزاعم أنه استحسان العقل بحسب العوائد فقط ؟ فتبين لك بون ما بين المنزلتين .

                        العاشر : أنهم قالوا : إن من جملة أنواع الاستحسان مراعاة خلاف [ ص: 646 ] العلماء . وهو أصل في مذهب مالك ينبني عليه مسائل كثيرة .

                        منها : أن الماء اليسير إذا حلت فيه النجاسة اليسيرة ولم تغير أحد أوصافه أنه لا يتوضأ به بل يتيمم ويتركه . فإن توضأ به وصلى أعاد ما دام في الوقت . ولم يعد بعد الوقت . وإنما قال : " يعيد في الوقت " مراعاة لقول من يقول : إنه طاهر مطهر ، ويروى جواز الوضوء به ابتداء . وكان قياس هذا القول أن يعيد أبدا . إذ لم يتوضأ إلا بماء يصح له تركه والانتقال عنه إلى التيمم .

                        ومنها : قولهم في النكاح الفاسد الذي يجب فسخه : إن لم يتفق على فساده فيفسخ بطلاق . ويكون فيه الميراث . ويلزم فيه الطلاق على حده في النكاح الصحيح . فإن اتفق العلماء على فساده فسخ بغير طلاق . ولا يكون فيه ميراث ولا يلزم فيه طلاق .

                        ومنها : مسألة من نسي تكبيرة الإحرام وكبر للركوع وكان مع الإمام وجب أن يتمادى . لقول من قال : إن ذلك يجزئه . فإذا سلم الإمام أعاد هذا المأموم .

                        وهذا المعنى كثير جدا في المذهب ووجهه أنه راعى دليل المخالف في بعض الأحوال ، لأنه ترجح عنده ، ولم يترجح عنده في بعضها فلم يراعه .

                        ولقد كتبت في مسألة مراعاة الخلاف إلى بلاد المغرب وإلى بلاد أفريقية لإشكال عرض فيها من وجهين : أحدهما مما يخص هذا الموضع على فرض صحتها ، وهو : ما [ ص: 647 ] أصلها من الشريعة ؟ وعلام تبنى من قواعد أصول الفقه ؟ فإن الذي يظهر الآن أن الدليل هو المتبع فحيثما صار صير إليه ، ومتى رجح للمجتهد أحد الدليلين على الآخر ـ ولو بأدنى وجوه الترجيح ـ وجب التعويل عليه وإلغاء ما سواه على ما هو مقرر في الأصول ، فإذا رجوعه ـ أعني المجتهد ـ إلى قول الغير إعمال لدليله المرجوح عنده ، وإهمال للدليل الراجح عنده الواجب عليه اتباعه وذلك على خلاف القواعد .

                        فأجابني بعضهم بأجوبة منها الأقرب والأبعد ، إلا أني راجعت بعضهم بالبحث ، وهو أخي ومفيدي أبو العباس بن القباب رحمة الله عليه ، فكتب إلي بما نصه :

                        وتضمن الكتاب المذكور عودة السؤال في مسألة مراعاة الخلاف ، وقلتم إن رجحان إحدى الأمارتين على الأخرى أن تقديمها على الأخرى اقتضى ذلك عدم المرجوحة مطلقا ، واستشنعتم أن يقول المفتي هذا لا يجوز ابتداء ، وبعد الوقوع يقول بجوازه ، لأنه يصير الممنوع إذا فعل جائزا . وقلتم : أنه إنما يتصور الجمع في هذا النحو في منع التنزيه لا منع التحريم ، إلى غير ذلك مما أوردتم في المسألة .

                        وكلها إيرادات شديدة صادرة عن قريحة قياسية منكرة لطريقة الاستحسان ، وإلى هذه الطريقة ميل فحول من الأئمة والنظار ، حتى قال الإمام أبو عبد الله الشافعي : من استحسن فقد شرع .

                        ولقد ضاقت العبارة عن معنى أصل الاستحسان ـ كما في علمكم ـ حتى قالوا : أصح عبارة فيه أنه معنى ينقدح في نفس المجتهد تعسر العبارة [ ص: 648 ] عنه ، فإذا كان هذا أصله الذي ترجع فروعه إليه ، فكيف ما يبنى عليه ؟ فلا بد أن تكون العبارة عنها أضيق .

                        ولقد كنت أقول بمثل ما قال هؤلاء الأعلام في طرح الاستحسان وما بني عليه ، لولا أنه اعتضد وتقوى لوجدانه كثيرا في فتاوى الخلفاء وأعلام الصحابة وجمهورهم مع عدم النكير ، فتقوي ذلك عندي غاية . وسكنت إليه النفس ، وانشرح إليه الصدر ، ووثق به القلب ، للأمر باتباعهم والاقتداء بهم ، ـ رضي الله عنهم ـ .

                        فمن ذلك المرأة يتزوجها رجلان ولا يعلم الآخر بتقدم نكاح غيره إلا بعد البناء ، فأبانها عليه بذلك عمر ومعاوية والحسن ـ رضي الله عنهم ـ . وكل ما أوردتم في قضية السؤال وارد عليه ، فإنه إذا تحقق أن الذي لم يبن هو الأول ، فدخول الثاني بها دخول بزوج غيره ؛ فكيف يكون غلطه على زوج غيره مبيحا على الدوام ، ومصححا لعقده الذي لم يصادف محلا ، ومبطلا لعقد نكاح مجمع على صحته ، لوقوعه على وفق الكتاب والسنة ظاهرا وباطنا ؟ وإنما المناسب أن الغلط يرفع عن الغالط الإثم والعقوبة . لا إباحة زوج غيره دائما ، ومنع زوجها منها .

                        ومثل ذلك ما قاله العلماء في مسألة امرأة المفقود : أنه إن قدم المفقود قبل نكاحها فهو أحق بها ، وإن كان بعد نكاحها والدخول بها بانت ، وإن كان بعد العقد وقبل البناء فقولان ، فإنه يقال : الحكم لها بالعدة من الأول إن كان قطعا لعصمته فلا حق له فيها ، ولو قدم قبل تزوجها ، أو ليس بقاطع للعصمة ، فكيف تباح لغيره في عصمة المفقود ؟

                        [ ص: 649 ] وما روي عن عمر وعثمان في ذلك أغرب وهو أنهما قالا : إذا قدم المفقود يخير بين امرأته أو صداقها ، فإن اختار صداقها بقيت للثاني ، فأين هذا من القياس ؟ وقد صحح ابن عبد البر هذا النقل عن الخليفتين عمر وعثمان ـ رضي الله عنهما ـ ، ونقل عن علي رضي الله عنه أنه قال بمثل ذلك ، أو أمضى الحكم به ، وإن كان الأشهر عنه خلافه .

                        ومثله في قضايا الصحابة كثير من ذلك :

                        قال ابن المعدل لو أن رجلين حضرهما وقت الصلاة ، فقام أحدهما فأوقع الصلاة بثوب نجس مجانا ، وقعد الآخر حتى خرج الوقت ولا يقاربه ، مع نقل غير واحد من الأشياخ الإجماع على وجوب النجاسة عامدا جمع الناس أنه لا يساوي مؤخرها على وجوب النجاسة حال الصلاة ، وممن نقله اللخمي ، والمازري ، وصححه الباجي ، وعليه مضى عبد الوهاب في تلقينه .

                        وعلى الطريقة التي أوردتم ، أن المنهي عنه ابتداء غير معتبر ـ أحرى بكون أمر هذين الرجلين بعكس ما قال ابن المعدل ، لأن الذي صلى بعد الوقت قضى ما فرط فيه ، والآخر لم يعمل كما أمر ، ولا قضى شيئا . وليس كل منهي عنه ابتداء غير معتبر بعد وقوعه .

                        [ ص: 650 ] وقد صحح الدارقطني حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : لا تزوج المرأة المرأة ولا تزوج المرأة نفسها ، فإن الزانية هي التي تزوج نفسها [ ص: 651 ] وأخرج أيضا من حديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ : أيما امرأة نكحت بغير إذن مواليها فنكاحها باطل ـ ثلاث مرات ـ فإن دخل بها فالمهر لها بما أصاب منها . فحكم أولا ببطلان العقد ، وأكده بالتكرار ثلاثا ، وسماه زنا . وأقل مقتضياته عدم اعتبار هذا العقد جملة . لكنه صلى الله عليه وسلم عقبه بما اقتضى اعتباره بعد الوقوع بقوله : ولها مهرها بما أصاب منها ومهر البغي حرام .

                        وقد قال تعالى : ياأيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله . فعلل النهي عن استحلاله بابتغائهم فضل الله ورضوانه مع كفرهم بالله تعالى ، الذي لا يصح معه عبادة ، ولا يقبل عمل ، وإن كان هذا الحكم الآن منسوخا ، فذلك لا يمنع الاستدلال به في هذا المعنى .

                        ومن ذلك قول الصديق ـ رضي الله عنه ـ : وستجد أقواما زعموا أنهم [ ص: 652 ] حبسوا أنفسهم لله ، فذرهم وما زعموا أنهم حبسوا أنفسهم له . ولهذا لا يسبى الراهب ويترك ماله أو ما قل منه ، على الخلاف في ذلك ، وغيره ممن لا يقاتل يسبى ويملك ، وإنما ذلك لما زعم أنه حبس نفسه له ، وهي عبادة الله تعالى ، وإن كانت عبادته أبطل الباطل ، فكيف يستبعد اعتبار عبادة مسلم على وفق دليل شرعي لا يقطع بخطأ فيه ، وإن كان يظن ذلك ظنا . وتتبع مثل هذا يطول .

                        وقد اختلف فيما تحقق فيه نهي من الشارع : هل يقتضي فساد المنهي عنه ؟ وفيه بين الفقهاء والأصوليين ما لا يخفى عليكم ، فكيف بهذا ؟ .

                        وإذا خرجت المسألة المختلف فيها إلى أصل مختلف فيه ، فقد خرجت عن حيز الإشكال ، ولم يبق إلا الترجيح لبعض تلك المذاهب ، ويرجح كل أحد ما ظهر له بحسب ما وفق له . ولنكتف بهذا القدر في هذه المسألة .

                        انتهى ما كتب لي به وهو بسط أدلة شاهدة لأصل الاستحسان ، فلا يمكن مع هذا التقرير كله أن يتمسك به من أراد أن يستحسن بغير دليل أصلا .

                        التالي السابق


                        الخدمات العلمية