الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                        صفحة جزء
                        وأما أن صاحبها ليس له من توبة :

                        فلما جاء من قوله عليه الصلاة والسلام : إن الله حجر التوبة على كل صاحب بدعة .

                        وعن يحيى بن أبي عمرو الشيباني ، قال : " كان يقال : يأبى الله لصاحب بدعة بتوبة ، وما انتقل صاحب بدعة; إلا إلى أشر منها " .

                        ونحوه عن طريق علي بن أبي طالب رضي الله عنه; قال : " ما كان رجل [ ص: 163 ] على رأي من البدعة فتركه ، إلا إلى ما هو شر منه " .

                        خرج هذه الآثار ابن وضاح .

                        وخرج ابن وهب عن عمر بن عبد العزيز : أنه كان يقول : " اثنان لا نعاتبهما : صاحب طمع ، وصاحب هوى ، فإنهما لا ينزعان " .

                        وعن ابن شوذب; قال : " سمعت عبد الله بن القاسم وهو يقول : ما كان عبد على هوى تركه; إلا إلى ما هو شر منه " .

                        قال : " فذكرت ذلك لبعض أصحابنا ، فقال : تصديقه في حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم : يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية ، ثم لا يرجعون إليه حتى يرجع السهم على فوقه .

                        وعن أيوب; قال : " كان رجل يرى رأيا ، فرجع عنه ، فأتيت محمدا فرحا بذلك أخبره ، فقلت : أشعرت أن فلانا ترك رأيه الذي كان يرى ؟ فقال : انظر إلام يتحول ؟ إن آخر الحديث أشد عليهم من أوله : يمرقون من الدين . . . . . . ثم لا يعودون .

                        وهو حديث أبي ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : سيكون من أمتي قوم يقرءون القرآن ولا يجاوز حلاقيمهم ، يخرجون من الدين كما يخرج السهم من الرمية ، ثم لا يعودون فيه ، هم شر الخلق والخليقة .

                        فهذه شهادة الحديث الصحيح لمعنى هذه الآثار ، وحاصلها : أن [ لا ] توبة لصاحب البدعة عن بدعته ، فإن خرج عنها; فإنما يخرج إلى ما هو شر منها; كما في حديث أيوب ، أو يكون ممن يظهر الخروج عنها وهو مصر [ ص: 164 ] عليها بعد; كقصة غيلان مع عمر بن عبد العزيز .

                        ويدل على ذلك أيضا حديث الفرق إذ قال فيه : وإنه سيخرج في أمتي أقوام تجارى بهم تلك الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه ، لا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله .

                        وهذا النفي يقتضي العموم بإطلاق ، ولكنه قد يحمل على العموم العادي ، إذ لا يبعد أن يتوب عما رأى ويرجع إلى الحق ، كما نقل عن عبد الله بن الحسن العنبري ، وما نقلوه في مناظرة ابن عباس الحرورية الخارجين على علي رضي الله عنه ، وفي مناظرة عمر بن عبد العزيز لبعضهم .

                        ولكن الغالب في الواقع الإصرار ، ومن هنالك قلنا : يبعد أن يتوب بعضهم; لأن الحديث يقتضي العموم بظاهره ، وسيأتي بيان ذلك بأبسط من هذا إن شاء الله .

                        وسبب بعده عن التوبة : أن الدخول تحت تكاليف الشريعة صعب على النفس; لأنه أمر مخالف للهوى ، وصاد عن سبيل الشهوات ، فيثقل عليها جدا; لأن الحق ثقيل ، والنفس إنما تنشط بما يوافق هواها لا بما يخالفه ، وكل بدعة فللهوى فيها مدخل ، لأنها راجعة إلى نظر مخترعها لا إلى نظر الشارع ، [ فإن تعلقت بحكم الشارع ] فعلى حكم التبع لا بحكم الأصل ، مع ضميمة أخرى ، وهي أن المبتدع لا بد له من تعلق بشبهة دليل [ ص: 165 ] ينسبها إلى الشارع ، ويدعي أن ما ذكره هو مقصود الشارع ، فصار هواه مقصودا بدليل شرعي في زعمه ، فكيف يمكنه الخروج عن ذلك وداعي الهوى مستمسك بحسن ما يتمسك به وهو الدليل الشرعي في الجملة ؟ ! .

                        ومن الدليل على ذلك ما روي عن الأوزاعي; قال : " بلغني أن من ابتدع بدعة ضلالة آلفه الشيطان العبادة ، أو ألقى عليه الخشوع والبكاء; كي يصطاد به " .

                        وقال بعض الصحابة : " أشد الناس عبادة مفتون " ، واحتج بقوله عليه الصلاة والسلام : يحقر أحدكم صلاته في صلاته وصيامه في صيامه إلى آخر الحديث .

                        ويحقق ما قاله الواقع; كما نقل في الأخبار عن الخوارج وغيرهم .

                        فالمبتدع يزيد في الاجتهاد; لينال في الدنيا التعظيم والمال والجاه وغير ذلك من أصناف الشهوات ، بل التعظيم على شهوات الدنيا ، ألا ترى إلى انقطاع الرهبان في الصوامع والديارات عن جميع الملذوذات ، ومقاساتهم في أصناف العبادات والكف عن الشهوات ، وهم مع ذلك خالدون في جهنم ؟ ! .

                        قال الله : ( وجوه يومئذ خاشعة عاملة ناصبة تصلى نارا حامية ) .

                        [ ص: 166 ] وقال : ( قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ) .

                        وما ذاك إلا لخفة يجدونها في ذلك الالتزام ، ونشاط بداخلهم; يستسهلون به الصعب ، بسبب ما داخل النفس من الهوى ، فإذا بدا للمبتدع ما هو عليه ، رآه محبوبا عنده; لاستبعاده للشهوات وعمله من جملتها ، ورآه موافقا للدليل عنده ، فما الذي يصده عن الاستمساك به والازدياد منه ؟ وهو يرى أن أعماله أفضل من أعمال غيره ، واعتقاداته أوفق وأعلى ؟ ! أفيفيد البرهان مطلبا ؟ ( كذلك يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء ) .

                        التالي السابق


                        الخدمات العلمية