الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                        صفحة جزء
                        ولنزد هذا الموضع شيئا من البيان; فإنه أكيد ، لأنه تحقيق مناط الكتاب وما احتوى عليه من المسائل ، فنقول وبالله التوفيق :

                        إن لفظ : " أهل الأهواء " ، وعبارة : " أهل البدع " ; إنما تطلق حقيقة على الذين ابتدعوها ، وقدموا فيها شريعة الهوى; بالاستنباط ، والنصر لها ، والاستدلال على صحتها في زعمهم ، حتى عد خلافهم خلافا ، وشبههم منظورا فيها ، ومحتاجا إلى ردها والجواب عنها; كما نقول في ألقاب الفرق من المعتزلة والقدرية والمرجئة والخوارج والباطنية ومن أشبههم بأنها ألقاب لمن قام بتلك النحل ما بين مستنبط لها وناصر لها وذاب عنها; كلفظ : " أهل السنة " ; إنما يطلق على ناصريها ، وعلى من استنبط على وفقها ، والحامين لذمارها .

                        ويرشح ( ذلك ) أن قول الله تعالى : ) إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا ) ; يشعر بإطلاق اللفظ على من جعل ذلك الفعل الذي هو [ ص: 213 ] التفريق ، وليس إلا المخترع أو من قام مقامه ، وكذلك قوله تعالى : ) ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا ) .

                        وقوله : ) فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ) ، فإن اتباع المتشابه مختص بمن انتصب منصب المجتهد لا بغيرهم .

                        وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم : حتى إذا لم يبق عالم; اتخذ الناس رؤساء جهالا ، فسئلوا ، فأفتوا بغير علم ، لأنهم أقاموا أنفسهم مقام المستنبط للأحكام الشرعية المقتدى به فيها . بخلاف العوام ، فإنهم متبعون لما تقرر عند علمائهم لأنه فرضهم ، فليسوا بمتبعين للمتشابه حقيقة ، ولا هم متبعون للهوى ، وإنما يتبعون ما يقال لهم كائنا ما كان ، فلا يطلق على العوام لفظ أهل الأهواء حتى يخوضوا بأنظارهم فيها ويحسنوا بنظرهم ويقبحوا .

                        وعند ذلك يتعين للفظ " أهل الأهواء " و " أهل البدع " مدلول واحد ، وهو : أنه من انتصب للابتداع ولترجيحه على غيره ، وأما أهل الغفلة عن ذلك ، والسالكون سبل رؤسائهم بمجرد التقليد من غير نظر; فلا .

                        فحقيقة المسألة أنها تحتوي على قسمين : مبتدع ومقتد به .

                        فالمقتدي به; كأنه لم يدخل في العبارة بمجرد الاقتداء; لأنه في حكم المتبع .

                        والمبتدع هو المخترع ، أو المستدل على صحة ذلك الاختراع ، وسواء علينا أكان ذلك الاستدلال من قبيل الخاص بالنظر في العلم ، أو كان [ ص: 214 ] من قبيل الاستدلال العامي ، فإن الله سبحانه ذم أقواما قالوا : ) إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون ) ، فكأنهم استدلوا إلى دليل جملي ، وهو الآباء إذ كانوا عندهم من أهل العقل ، وقد كانوا على هذا الدين ، وليس إلا لأنه صواب ، فنحن عليه; لأنه لو كان خطأ ، لما ذهبوا إليه .

                        وهو نظير من يستدل على صحة البدعة بعمل الشيوخ ومن يشار إليه بالصلاح ، ولا ينظر إلى كونه من أهل الاجتهاد في الشريعة أو من أهل التقليد ، ولا كونه يعمل بعلم أو بجهل .

                        ولكن مثل هذا يعد استدلالا في الجملة; من حيث جعل عمدة في اتباع الهوى واطراح ما سواه ، فمن أخذ به ، فهو آخذ بالبدعة بدليل مثله ، ودخل في مسمى أهل ( الابتداع ) ، إذ كان من حق من كان هذا سبيله أن ينظر في الحق إن جاءه ، ويبحث ، ويتأنى ، ويسأل ، حتى يتبين الحق له فيتبعه ، أو الباطل فيجتنبه .

                        ولذلك قال تعالى ردا على المحتجين بما تقدم : ) قال أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم ) ، وفي الآية الأخرى : ) وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا ) ، فقال تعالى : ) أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون ) ، وفي الآية الأخرى : ) أولو كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير ) ، وأمثال ذلك كثيرة .

                        [ ص: 215 ] وعلامة من هذا شأنه أن يرد خلاف مذهبه بما عليه من شبهة دليل تفصيلي أو إجمالي ، ويتعصب لما هو عليه; غير ملتفت إلى غيره ، وهو عين اتباع الهوى ، فهو المذموم حقا . وعليه يحصل الإثم ، فإن من كان مسترشدا; مال إلى الحق حيث وجده ، ولم يرده ، وهو المعتاد في طالب الحق ، ولذلك بادر المحققون إلى اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين تبين لهم الحق .

                        فإن لم يجد سوى ما تقدم له من البدعة ، ولم يدخل مع المتعاصين ، لكنه عمل بها :

                        فإن قلنا : إن أهل الفترة معذبون على الإطلاق إذا اتبعوا من اخترع منهم ، فالمتبعون للمبتدع إذا لم يجدوا محقا مؤاخذون أيضا . وإن قلنا : لا يعذبون حتى يبعث لهم الرسول وإن عملوا بالكفر فهؤلاء لا يؤخذون ما لم يكن فيه محق ، فإذ ذاك يؤاخذون من حيث إنهم معه بين أحد أمرين : إما أن يتبعوه على طريق الحق فيتركوا ما هم عليه . وإما أن لا يتبعوه فلا بد من عناد ما وتعصب فيدخلون إذ ذاك تحت عبارة ( أهل الأهواء ) فيأثمون .

                        وكل من اتبع بيان سمعان في بدعته التي اشتهرت عند العلماء; مقلدا فيها على حكم الرضاء بها ورد ما سواها; فهو في الإثم مع من اتبع ، فقد زعم أن معبوده في صورة الإنسان ، وأنه يهلك كله إلا وجهه ، ثم زعم [ ص: 216 ] أن روح الإله حل في علي ثم في فلان ، ثم في فلان . . . . . ثم في بيان نفسه .

                        وكذلك من اتبع المغيرة بن سعيد العجلي الذي ادعى النبوة مدة وزعم أنه يحيي الموتى بالاسم الأعظم ، وأن لمعبوده أعضاء على حروف الهجاء ، على كيفية يشمئز منها قلب المؤمن . . . . . . إلى إلحادات أخر .

                        وكذلك من اتبع المهدي المغربي المنسوب إليه كثير من بدع المغرب ، فهو في الإثم والتسمية مع من اتبع إذا انتصب ناصرا لها ومحتجا عليها .

                        وقانا الله شر التعصب على غير بصيرة من الحق بفضله ورحمته .

                        التالي السابق


                        الخدمات العلمية