الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                        صفحة جزء
                        فصل

                        إذا ثبت ما تقدم ؛ ورد الإشكال الثاني :

                        وهو أن التزام النوافل التي يشق التزامها مخالفة للدليل ، وإذا خالفت ؛ فالمتعبد بها ـ على ذاك التقدير ـ متعبد بما لم يشرع ، وهو عين البدعة ، فإما أن تنتظمها أدلة ذم البدعة أو لا :

                        فإن انتظمتها أدلة الذم ؛ فهو غير صحيح ؛ لأمرين :

                        [ ص: 411 ] ( أحدهما ) : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما كره لعبد الله بن عمرو ما كره ، وقال له : إني أطيق أفضل من ذلك ، فقال له عليه السلام : لا أفضل من ذلك ؛ تركه بعد على التزامه ، ولولا أن عبد الله فهم منه بعد نهيه الإقرار عليه ؛ لما التزمه وداوم عليه حتى قال : ليتني قبلت رخصة رسول الله صلى الله عليه وسلم ! فلو قلنا : إنها بدعة ـ وقد ذم كل بدعة على العموم ـ ؛ لكان مقرا له على خطأ ، وذلك لا يجوز .

                        كما أنه لا ينبغي أن يعتقد في الصحابي أنه خالف أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم قصدا للتعبد بما نهاه عنه ، فالصحابة رضي الله عنهم أتقى لله من ذلك .

                        وكذلك ما ثبت عن غيره من وصال الصيام وأشباهه .

                        وإذا كان كذلك ؛ لم يمكن أن يقال : إنها بدعة .

                        ( الثاني ) : أن العامل بها دائما بشرط الوفاء ؛ إن التزم الشرط ، فأداها على وجهها ؛ فقد حصل مقصود الشارع ، فارتفع النهي إذا ، فلا مخالفة للدليل ، فلا ابتداع إذا .

                        وإن لم يلتزم أداءها ، فإن كان باختيار ؛ فلا إشكال في المخالفة المذكورة ؛ كالناذر يترك المندوب بغير عذر ، ومع ذلك ؛ فلا يسمى تركه بدعة ، ولا عمله في وقت العمل بدعة ، ولا يسمى بالمجموع مبتدعا ، وإن كان لعارض مرض أو غيره من الأعذار ؛ فلا نسلم أنه مخالف ؛ كما لا [ يكون ] مخالفا في الواجب إذا عارضه فيه عارض ، كالصيام للمريض ، والحج لغير المستطيع ، فلا ابتداع إذا .

                        [ ص: 412 ] وأما إن لم تنتظمها أدلة الذم ؛ فقد ثبت أن من أقسام البدع ما ليس بمنهي عنه ، بل هو مما يتعبد به ، وليس من قبيل المصالح المرسلة ولا غيرها مما له أصل على الجملة ، وحينئذ يشمل هذا الأصل كل ملتزم تعبدي كان له أصل أم لا ؟ لكن فحيث يكون له أصل على الجملة لا على التفصيل ؛ كتخصيص ليلة مولد النبي صلى الله عليه وسلم بالقيام فيها ، ويومه بالصيام ، أو بركعات مخصوصة ، وقيام ليلة أول جمعة من رجب ، وليلة النصف من شعبان ، والتزام الدعاء جهرا بآثار الصلوات مع انتصاب الإمام ، وما أشبه ذلك مما له أصل جلي ، وعند ذلك ينخرم كل ما تقدم تأصيله .

                        والجواب :

                        عن الأول : أن الإقرار صحيح ، ولا يمتنع أن يجتمع مع النهي الإرشاد لأمر خارجي ؛ فإن النهي لم يكن لأجل خلل في نفس العبادة ، ولا في ركن من أركانها ، وإنما كان لأجل الخوف من أمر متوقع ؛ كما قالت عائشة رضي الله تعالى عنها : " إن النهي عن الوصال إنما كان رحمة للأمة " ، وقد واصل رسول الله صلى الله عليه وسلم بمن تبعه في الوصال كالمنكل بهم ، ولو كان منهيا عنه بالنسبة إليهم لما فعل .

                        فانظر كيف اجتمع في الشيء الواحد كونه عبادة ومنهيا عنه ، لكن باعتبارين .

                        ونظيره في الفقهيات ما يقوله جماعة من المحققين في البيع بعد نداء الجمعة ؛ فإنه نهي عنه لا من جهة كونه بيعا ، بل من جهة كونه مانعا من حضور الجمعة ، فيجيزون البيع بعد الوقوع ، ويجعلونه فاسدا ، وإن وجد [ ص: 413 ] التصريح بالنهي فيه ، للعلم بأن النهي ليس براجع إلى نفس البيع ، بل إلى أمر يجاوره ، وبذلك يعلل جماعة ممن قال بفسخ البيع ؛ لأنه زجر للمتبايعين ، لا لأجل النهي عنه ، فليس عند هؤلاء ببيع فاسد أيضا ، ولا النهي راجع إلى نفس البيع .

                        فالأمر بالعبادة شيء ، وكون المكلف يوفي بها أو لا شيء آخر ، فإقرار النبي صلى الله عليه وسلم لابن عمرو على ما التزم دليل على صحة ما التزم ، ونهيه إياه ابتداء لا يدل على الفساد ، وإلا لزم التدافع ، وهو محال .

                        إلا أن هاهنا نظرا آخر ، وهو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صار في هذه المسائل كالمرشد للمكلف وكالمتبرع بالنصيحة عند وجود مظنة الاستنصاح ، فلما اتكل المكلف على اجتهاده دون نصيحة الناصح الأعرف بعوارض النفوس ؛ صار كالمتبع لرأيه مع وجود النص ، وإن كان بتأويل ، فإن سمي في اللفظ بدعة ؛ فبهذا الاعتبار ، وإلا ؛ فهو متبع للدليل المنصوص من صاحب النصيحة ، وهو الدال على الانقطاع إلى الله تعالى بالعبادة .

                        ومن هنا قيل فيها : إنها بدعة إضافية لا حقيقية ، ومعنى كونها إضافية : أن الدليل فيها مرجوح بالنسبة لمن يشق عليه الدوام عليها ، وراجح بالنسبة إلى من وفى بشرطها ، ولذلك وفى بها عبد الله بن عمرو بعدما ضعف ، وإن دخل عليه فيها بعض الحرج حتى تمنى قبول الرخصة ؛ بخلاف البدعة الحقيقية ؛ فإن الدليل عليها مفقود حقيقة ؛ فضلا عن أن يكون مرجوحا .

                        فهذه المسألة تشبه مسألة خطأ المجتهد ، فالقول فيهما متقارب ، [ ص: 414 ] وسيأتي الكلام فيهما إن شاء الله تعالى .

                        - وأما قول السائل في الإشكال : " إن التزم الشرط فأدى العبادة على وجهها . . . " إلى آخره ؛ فصحيح ؛ إلا قوله : " فإن تركها لعارض ؛ فلا حرج ؛ كالمريض " ؛ فإن ما نحن فيه ليس كذلك ، بل ثم قسم آخر ، وهو أن يتركها بسبب تسبب هو فيه ، وإن ظهر أن ليس من سببه ؛ فإن ترك الجهاد ـ مثلا ـ باختياره مخالفة ظاهرة ، وتركه لمرض أو نحوه لا مخالفة فيه ، فإن عمل في سبب يلحقه عادة بالمريض حتى لا يقدر على الجهاد ؛ فهذه واسطة بين الطرفين ، فمن حيث تسببه في المانع لا يكون محمودا عليه ، وهو نظير الإيغال في العمل الذي هو سبب في كراهية العمل أو في التقصير على الواجب ، وهذا المكلف قد خالف النهي ، ومن حيث وقع له الحرج المانع في العبادة من أدائها على وجهها ؛ قد يكون معذورا ، فصار هنا نظر بين نظرين ، لا يتخلص معه العمل إلى واحد منهما .

                        وأما قوله : " ثبت أن من أقسام البدع ما ليس بمنهي عنه " ، فليس كما قال ، وذاك أن المندوب هو من حيث هو مندوب يشبه الواجب من جهة مطلق الأمر ، ويشبه المباح من جهة رفع الحرج على التارك ، فهو واسطة بين الطرفين ، لا يتخلى إلى واحد منهما ؛ إلا أن قواعد الشرع شرطت في ناحية العمل شرطا كما شرطت في ناحية تركه شرطا :

                        فشرط العمل به : أن لا يدخل فيه مدخلا يؤديه إلى الحرج المؤدي إلى انخرام الندب فيه رأسا ، أو انخرام ما هو أولى منه ، وما وراء هذا موكول إلى خيرة المكلف .

                        [ ص: 415 ] فإذا دخل فيه ؛ فلا يخلو أن يدخل فيه على قصد انخرام الشرط أو لا :

                        فإن كان كذلك ؛ فهو القسم الذي يأتي إن شاء الله ، وحاصله أن الشارع طالبه برفع الحرج ، وهو يطالب نفسه بوضعه وإدخاله على نفسه وتكليفها ما لا يستطاع ، مع زيادة الإخلال بكثير من الواجبات والسنن التي هي أولى مما دخل فيه ، ومعلوم أن هذه بدعة مذمومة .

                        وإن دخل على غير ذلك القصد ؛ فلا يخلو أن يجري المندوب على مجراه أو لا :

                        فإن أجراه كذلك بأن يفعل منه ما استطاع إذا وجد نشاطا ولم يعارضه ما هو أولى ( مما دخل فيه ) ؛ فهو محض السنة التي لا مقال فيها ؛ لاجتماع الأدلة على صحة ذلك العمل ، إذ قد أمر فهو غير تارك ، ونهي عن الإيغال وإدخال الحرج فهو متحرز ، فلا إشكال في صحته ، وهو كان شأن ( السلف ) الأول ومن بعدهم .

                        وإن لم يجره على مجراه ، ولكنه أدخل فيه رأي الالتزام والدوام ؛ فذلك الرأي مكروه ابتداء ، لكن فهم من الشرع أن الوفاء ـ إن حصل ـ فهو ـ إن شاء الله ـ كفارة النهي ، فلا يصدق عليه في هذا القسم معنى البدعة ؛ لأن الله مدح الموفين بالنذر والموفين بعهدهم إذا عاهدوا ، وإن لم يحصل الوفاء ؛ تمحض وجه النهي ، وربما أثم في الالتزام غير النذري .

                        ولأجل احتمال عدم الوفاء أطلق عليه لفظ البدعة ، لا لأجل أنه عمل لا دليل عليه ، بل الدليل عليه قائم .

                        [ ص: 416 ] ولذلك ؛ إذا التزم الإنسان بعض المندوبات التي يعلم أو يظن أن الدوام فيها لا يوقع في حرج أصلا ، وهو الوجه الثالث من الأوجه الثلاثة المنبه عليها ، لم يقع في نهي ، بل في محض المندوبات ؛ كالنوافل الرواتب مع الصلوات ، والتسبيح والتحميد والتكبير في آثارها ، والذكر اللساني الملتزم بالعشي والإبكار . . . وما أشبه ذلك مما لا يخل بما هو أولى ، ولا يدخل حرجا بنفس العمل به ولا بالدوام عليه .

                        وفي هذا القسم جاء التحريض على الدوام صريحا ، ومنه كان جمع عمر رضي الله عنه الناس في رمضان في المسجد ، ومضى عليه الناس ؛ لأنه كان أولا سنة ثابتة من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم إنه أقام للناس بما كانوا قادرين عليه ومحبين فيه ، وفي شهر واحد من السنة لا دائما ، وموكولا إلى اختيارهم ؛ لأنه قال : " والتي ينامون عنها أفضل " ، وقد فهم السلف الصالح أن القيام في البيوت أفضل ، فكان كثير منهم ينصرفون فيقومون في منازلهم ، ومع ذلك ؛ فقد قال : " نعمت البدعة هذه " ، فأطلق عليها لفظ البدعة ـ كما ترى ـ نظرا ـ والله أعلم ـ إلى اعتبار الدوام ، وإن كان شهرا في السنة ، وأنه لم يقع فيمن قبله عملا دائما ، أو أنه أظهره في المسجد الجامع مخالفا لسائر النوافل ، وإن كان ذلك في أصله واقعا كذلك ، فلما كان الدليل على ذلك القيام على الخصوص واضحا ؛ قال : " نعمت البدعة هذه " ، فحسنها بصيغة " نعم " التي تقتضي من المدح ما تقتضيه صيغة التعجب لو قال : ما أحسنها من بدعة ! وذلك يخرجها قطعا عن كونها بدعة .

                        وعلى هذا المعنى جرى كلام أبي أمامة مستشهدا بالآية ، حيث [ ص: 417 ] قال : " أحدثتم قيام رمضان ، ولم يكتب عليكم " ؛ إنما معناه ما ذكرناه ، ولأجله قال : " فدوموا عليه " ، ولو كان بدعة على الحقيقة ؛ لنهى عنه .

                        ومن هذه الجهة أجرينا الكلام على ما نهى عليه السلام عنه من التعبد المخوف الحرج في المآل ، واستسهلنا وضع ذلك في قسم البدع الإضافية ؛ تنبيها على وجهها ووضعها في الشرع مواضعها ، حتى لا يغتر بها مغتر ، فيأخذها على غير وجهها ، ويحتج بها على العمل بالبدعة الحقيقية قياسا عليها ، ولا يدري ما عليه في ذلك ، وإنما تجشمنا إطلاق اللفظ هنا ، وكان ينبغي أن لا يفعل لولا الضرورة ، وبالله التوفيق .

                        التالي السابق


                        الخدمات العلمية