الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( فصل ) : وقد تقدم نص التوراة : تجلى الله من طور سيناء ، وأشرق من ساعير ، واستعلن من جبال فاران .

قال علماء الإسلام - وهذا لفظ أبي محمد بن قتيبة - ليس بهذا خفاء على من تدبره ولا غموض ، لأن المجيء أي مجيء الله من طور سيناء : إنزاله التوراة على موسى من طور سيناء كالذي هو عند أهل الكتاب وعندنا ، وكذلك يجب أن يكون إشراقه من ساعير : إنزاله الإنجيل على المسيح ، وكان المسيح من ساعير ، أرض الخليل ، بقرية تدعى ناصرة ، وباسمها تسمى من اتبعه نصارى ، وكما وجب أن يكون إشراقه من ساعير بالمسيح ، فكذلك يجب أن يكون استعلانه من جبال فاران : إنزاله القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم ، وجبال فاران هي جبال مكة ، قال : وليس بين المسلمين وأهل الكتاب خلاف في أن فاران هي مكة ، فإن ادعوا أنها غير مكة - وليس ينكر ذلك من تحريفهم وإفكهم - قلنا : أليس في التوراة " أن إبراهيم أسكن هاجر وإسماعيل فاران " ؟ ! وقلنا لهم : دلونا [ ص: 346 ] على الموضع الذي استعلن الله منه واسمه فاران ، والنبي الذي أنزل عليه كتابا بعد المسيح .

أوليس استعلن وعلن بمعنى واحد ، وهما ظهر وانكشف ، فهل تعلمون دينا ظهر ظهور الإسلام وفشا في مشارق الأرض ومغاربها فبينوه لنا ؟ قال علماء الإسلام : وساعير جبال بالشام ، منه ظهور نبوة المسيح إلى جانب قرية بيت لحم - القرية التي ولد فيها المسيح - تسمى اليوم ساعير .

وفي التوراة أن نسل العيص كانوا سكانا بساعير ، وأمر الله موسى أن لا يؤذيهم .

قال شيخ الإسلام : - يعني ابن تيمية رحمه الله - وعلى هذا فيكون قد ذكر الجبال الثلاثة ، وحراء الذي ليس حول مكة أعلى منه ، وفيه ابتداء رسول الله صلى الله عليه وسلم بنزول الوحي عليه ، وحوله جبال كثيرة ، وذلك المكان يسمى فاران إلى هذا اليوم ، والبرية التي بين مكة وطور سيناء تسمى برية فاران ، ولا يمكن أحدا أن يدعي أنه بعد المسيح نزل كتاب في شيء من تلك الأماكن ولا بعث نبي ، فعلم أنه ليس المراد باستعلانه من جبال فاران إلا إرسال محمد صلى الله عليه وسلم ، وهو سبحانه ذكر هذا في التوراة على الترتيب الزماني ، فذكر إنزال التوراة ثم الإنجيل ثم القرآن ، وهذه الكتب نور الله تعالى وهدايته ، وقال في الأول : جاء ، وفي الثاني : أشرق ، وفي الثالث : استعلن ، وكان مجيء التوراة مثل طلوع الفجر ، ونزول الإنجيل مثل إشراق الشمس ، ونزول القرآن بمنزلة ظهور الشمس في السماء ، ولهذا قال : واستعلن من جبال فاران ، فإن محمدا صلى الله عليه وسلم ظهر به نور الله وهداه [ ص: 347 ] في مشرق الأرض ومغربها أعظم مما ظهر بالكتابين المتقدمين ، كما يظهر نور الشمس في مشارق الأرض ومغاربها إذا استعلت وتوسطت السماء ، ولهذا سماه الله تعالى سراجا منيرا ، وسمى الشمس سراجا وهاجا ، والخلق يحتاجون إلى السراج المنير أعظم من حاجتهم إلى السراج الوهاج ، فإن هذا يحتاجون إليه في وقت دون وقت ، وأما السراج المنير فيحتاجون إليه كل وقت ، وفي كل مكان ليلا ونهارا ، سرا وعلانية .

وقد ذكر الله سبحانه وتعالى هذه الأماكن الثلاثة في قوله تعالى : والتين والزيتون وهو في الأرض المقدسة التي بعث منها المسيح ، وأنزل فيها الإنجيل وطور سينين وهو الجبل الذي كلم الله عليه موسى عليه الصلاة والسلام تكليما ، وناداه من واديه الأيمن من البقعة المباركة في الشجرة التي فيه ، وأقسم بـ البلد الأمين وهو مكة ، التي أسكن إبراهيم إسماعيل وأمه فيه وهو فاران كما تقدم ، ولما كان ما في التوراة خبرا عن ذلك أخبر به على الترتيب الزماني ، فقدم الأسبق ، ثم الذي يليه ، وأما القرآن فإنه أقسم به تعظيما لشأنها ، وإظهارا لقدرته وآياته وكتبه ورسله ، فأقسم بها على وجه التدريج درجة بعد درجة ، فبدأ بالعالي ، ثم انتقل إلى أعلى منه ، ثم أعلى منه ، فإن أشرف الكتب القرآن ، ثم التوراة ، ثم الإنجيل ، وكذلك الأنبياء الثلاثة .

التالي السابق


الخدمات العلمية