الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 256 ] ذكر خلع المعتز وموته

وفيها ، في يوم الأربعاء ، لثلاث بقين من رجب ، خلع المعتز ، ولليلتين خلتا من شعبان ظهر موته .

وكان سبب خلعه أن الأتراك لما فعلوا بالكتاب ما ذكرناه ، ولم يحصل منهم مال ، ساروا إلى المعتز يطلبون أرزاقهم ، وقالوا : أعطنا أرزاقنا حتى نقتل صالح بن وصيف ، فلم يكن عنده ما يعطيهم ، فنزلوا معه إلى خمسين ألف دينار ، فأرسل المعتز إلى أمه يسألها أن تعطيه مالا ليعطيهم ، فأرسلت إليه : ما عندي شيء .

فلما رأى الأتراك أنهم لا يحصل لهم من المعتز شيء ، ولا من أمه ، وليس في بيت المال شيء ، اتفقت كلمتهم ، وكلمة المغاربة ، والفراغنة ، على خلع المعتز ، فساروا إليه وصاحوا ، فدخل إليه صالح ، ومحمد بن بغا المعروف بأبي نصر ، وبايكباك في السلاح ، فجلسوا على بابه ، وبعثوا إليه أن اخرج إلينا ، فقال : قد شربت أمس دواء ، وقد أفرط في العمل ، فإن كان أمر لا بد منه فليدخل بعضكم ! وهو يظن أن أمره واقف على حاله ، فدخل إليه جماعة منهم ، فجروه برجله إلى باب الحجرة ، وضربوه بالدبابيس ، وخرقوا قميصه ، وأقاموه في الشمس في الدار ، فكان يرفع رجلا ويضع أخرى لشدة الحر ، وكان بعضهم يلطمه وهو يتقي بيده ، وأدخلوه حجرة ، وأحضروا ابن أبي الشوارب وجماعة أشهدوهم على خلعه ، وشهدوا على صالح بن وصيف أن للمعتز وأمه وولده وأخته الأمان .

وكانت أمه قد اتخذت في دارها سربا ، فخرجت منه هي وأخت المعتز ، وكانوا أخذوا عليها الطريق ، ( ومنعوا أحدا يجوز إليها ) ، وسلموا المعتز إلى من يعذبه ، فمنعه الطعام والشراب ثلاثة أيام ، فطلب حسوة من ماء البئر ، فمنعوه ، ثم أدخلوه سردابا ، وجصصوا عليه ، فمات ، فلما مات أشهدوا على موته بني هاشم والقواد ، وأنه لا أثر فيه ، ودفنوه مع المنتصر .

وكانت خلافته من لدن بويع إلى أن خلع أربع سنين وستة أشهر وثلاثة وعشرين يوما . [ ص: 257 ] يوما ، وكان عمره كله أربعا وعشرين سنة .

وكان أبيض ، أسود الشعر ، كثيفه ، حسن العينين والوجه ، أحمر الوجنتين ، حسن الجسم طويلا ; وكان مولدهبسر من رأى ، وكان فصيحا ، فمن كلامه لما سار المستعين إلى بغداذ ، وقد أحضر جماعة للرأي ، فقال لهم : أما تنظرون إلى هذه العصابة التي ذاع نفاقها ؟

الهمج ، العصاة ، الأوغاد الذين لا مسكة بهم ، ولا اختيار لهم ، ولا تمييز معهم ، قد زين لهم تقحم الخطأ سوء أعمالهم ، فهم الأقلون وإن كثروا ، والمذمون إذا ذكروا ، وقد علمت أنه لا يصلح لقواد الجيوش ، وسد الثغور ، وإبرام الأمور ، وتدبير الأقاليم إلا رجل قد تكاملت فيه خصال أربع : حزم يتقي به عند موارد الأمور حقائق مصادرها ، وعلم يحجزه عن التهور ، والتغرير في الأشياء إلا مع إمكان فرصتها ، وشجاعة لا تفضها الملمات مع تواتر حوائجها ، وجود يهون تبذير الأموال عند سؤالها ، وسرعة مكافأة الإحسان إلى صالح الأعوان ، وثقل الوطأة على أهل الزيغ والعدوان ، والاستعداد للحوادث إذ لا تؤمن حوادث الزمان .

وأما الاثنتان فإسقاط الحجاب عن الرعية ، والحكم بين القوي والضعيف بالسوية .

وأما الواحدة فالتيقظ للأمور ، وقد اخترت لهم رجلا من موالي أحدهم شديد الشكيمة ، ماضي العزيمة ، لا تبطره السراء ، ولا تدهشه الضراء ، ولا يهاب ما وراءه ، ولا يهوله ما يلقاه ، فهو كالحريش في أصل الإسلام إن حرك حمل ، وإن نهش قتل ، عدته عتيدة ، ونعمته شديدة ، يلقى الجيش في النفر القليل العديد ، بقلب أشد من الحديد ، طالب للثأر لا تفله العساكر ، باسل البأس ، ومقتضب الأنفاس ، لا يعوزه ما طلب ، ولا يفوته من هرب ، واري الزناد مضطلع العماد ، لا تشرهه الرغائب ، ولا تعجزه [ ص: 258 ] النوائب ، وإن ولي كفى ، وإن قال وفى ; وإن نازل فبطل ، وإن قال فعل ; ظله لوليه ظليل ، وبأسه في الهياج عليه دليل ، يفوق من ساماه ، ويعجزه من ناواه ، ويتعب من جاراه ، وينعش من والاه .

التالي السابق


الخدمات العلمية