الثاني : أن الحيض إنما يتم باجتماع الدم في الرحم قبله ، فكان الطهر مقدمة وسببا لوجود الحيض ، فإذا علق الحكم بالحيض ، فمن لوازمه ما لا يوجد الحيض إلا بوجوده ، وبهذا يظهر أن هذا أبلغ من الأيام والليالي ، فإن الليل والنهار متلازمان ، وليس أحدهما سببا لوجود الآخر ، وهاهنا الطهر سبب لاجتماع الدم في الرحم ، فقوله سبحانه وتعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=65&ayano=1لعدتهن ) أي لاستقبال العدة التي
[ ص: 562 ] تتربصها ، وهي تتربص ثلاث حيض بالأطهار التي قبلها . فإذا
nindex.php?page=treesubj&link=12446_11748طلقت في أثناء الطهر ، فقد طلقت في الوقت الذي تستقبل فيه العدة المحسوبة ، وتلك العدة هي الحيض بما قبلها من الأطهار ، بخلاف ما لو طلقت في أثناء حيضة ، فإنها لم تطلق لعدة تحسبها ؛ لأن بقية ذلك الحيض ليس هو العدة التي تعتد بها المرأة أصلا ولا تبعا لأصل ، وإنما تسمى عدة ؛ لأنها تحبس فيها عن الأزواج ، إذا عرف هذا ، فقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=47ونضع الموازين القسط ليوم القيامة ) [ الأنبياء : 47 ] ، يجوز أن تكون اللام لام التعليل ، أي : لأجل يوم القيامة .
وقد قيل : إن القسط منصوب على أنه مفعول له ، أي نضعها لأجل القسط ، وقد استوفى شروط نصبه ، وأما قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=78أقم الصلاة لدلوك الشمس ) [ الإسراء : 78 ] ، فليست اللام بمعنى " في " قطعا ، بل قيل : إنها لام التعليل ، أي : لأجل دلوك الشمس ، وقيل : إنها بمعنى بعد ، فإنه ليس المراد إقامتها وقت الدلوك سواء فسر بالزوال أو الغروب ، وإنما يؤمر بالصلاة بعده ، ويستحيل حمل آية العدة على ذلك ، وهكذا يستحيل حمل آية العدة عليه ، إذ يصير المعنى : فطلقوهن بعد عدتهن . فلم يبق إلا أن يكون المعنى : فطلقوهن لاستقبال عدتهن ، ومعلوم أنها إذا طلقت طاهرا استقبلت العدة بالحيض . ولو كانت الأقراء الأطهار ، لكانت السنة أن تطلق حائضا لتستقبل العدة بالأطهار ، فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء هي أن تطلق طاهرا لتستقبل عدتها بعد الطلاق .
فإن قيل : فإذا جعلنا الأقراء : الأطهار ، استقبلت عدتها بعد الطلاق بلا فصل ، ومن جعلها الحيض لم تستقبلها على قوله حتى ينقضي الطهر .
قيل : كلام الرب تبارك وتعالى لا بد أن يحمل على فائدة مستقلة ، وحمل الآية على معنى : فطلقوهن طلاقا تكون العدة بعده لا فائدة فيه ، وهذا بخلاف ما إذا كان المعنى : فطلقوهن طلاقا يستقبلن فيه العدة لا يستقبلن فيه طهرا لا تعتد به ، فإنها إذا
nindex.php?page=treesubj&link=11750_639_12447طلقت حائضا استقبلت طهرا لا تعتد به ، فلم تطلق لاستقبال العدة ، ويوضحه قراءة من قرأ : فطلقوهن في قبل عدتهن . وقبل العدة : هو الوقت الذي
[ ص: 563 ] يكون بين يدي العدة تستقبل به ، كقبل الحائض ، يوضحه أنه لو أريد ما ذكروه ، لقيل : في أول عدتهن ، فالفرق بين بين قبل الشيء وأوله .
وأما قولكم : لو كانت القروء هي الحيض ، لكان قد طلقها قبل العدة . قلنا : أجل ، وهذا هو الواجب عقلا وشرعا ، فإن العدة لا تفارق الطلاق ولا تسبقه ، بل يجب تأخرها عنه .
الثَّانِي : أَنَّ الْحَيْضَ إِنَّمَا يَتِمُّ بِاجْتِمَاعِ الدَّمِ فِي الرَّحِمِ قَبْلَهُ ، فَكَانَ الطُّهْرُ مُقَدَّمَةً وَسَبَبًا لِوُجُودِ الْحَيْضِ ، فَإِذَا عُلِّقَ الْحُكْمُ بِالْحَيْضِ ، فَمِنْ لَوَازِمِهِ مَا لَا يُوجَدُ الْحَيْضُ إِلَّا بِوُجُودِهِ ، وَبِهَذَا يَظْهَرُ أَنَّ هَذَا أَبْلَغُ مِنَ الْأَيَّامِ وَاللَّيَالِي ، فَإِنَّ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ مُتَلَازِمَانِ ، وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا سَبَبًا لِوُجُودِ الْآخَرِ ، وَهَاهُنَا الطُّهْرُ سَبَبٌ لِاجْتِمَاعِ الدَّمِ فِي الرَّحِمِ ، فَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=65&ayano=1لِعِدَّتِهِنَّ ) أَيْ لِاسْتِقْبَالِ الْعِدَّةِ الَّتِي
[ ص: 562 ] تَتَرَبَّصُهَا ، وَهِيَ تَتَرَبَّصُ ثَلَاثَ حِيَضٍ بِالْأَطْهَارِ الَّتِي قَبْلَهَا . فَإِذَا
nindex.php?page=treesubj&link=12446_11748طُلِّقَتْ فِي أَثْنَاءِ الطُّهْرِ ، فَقَدْ طُلِّقَتْ فِي الْوَقْتِ الَّذِي تَسْتَقْبِلُ فِيهِ الْعِدَّةَ الْمَحْسُوبَةَ ، وَتِلْكَ الْعِدَّةُ هِيَ الْحَيْضُ بِمَا قَبْلَهَا مِنَ الْأَطْهَارِ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ طُلِّقَتْ فِي أَثْنَاءِ حَيْضَةٍ ، فَإِنَّهَا لَمْ تُطَلَّقْ لِعِدَّةٍ تَحْسَبُهَا ؛ لَأَنَّ بَقِيَّةَ ذَلِكَ الْحَيْضِ لَيْسَ هُوَ الْعِدَّةَ الَّتِي تَعْتَدُّ بِهَا الْمَرْأَةُ أَصْلًا وَلَا تَبَعًا لِأَصْلٍ ، وَإِنَّمَا تُسَمَّى عِدَّةً ؛ لِأَنَّهَا تُحْبَسُ فِيهَا عَنِ الْأَزْوَاجِ ، إِذَا عُرِفَ هَذَا ، فَقَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=47وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ ) [ الْأَنْبِيَاءِ : 47 ] ، يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ اللَّامُ لَامَ التَّعْلِيلِ ، أَيْ : لِأَجْلِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ .
وَقَدْ قِيلَ : إِنَّ الْقِسْطَ مَنْصُوبٌ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ لَهُ ، أَيْ نَضَعُهَا لِأَجْلِ الْقِسْطِ ، وَقَدِ اسْتَوْفَى شُرُوطَ نَصْبِهِ ، وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=78أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ ) [ الْإِسْرَاءِ : 78 ] ، فَلَيْسَتِ اللَّامُ بِمَعْنَى " فِي " قَطْعًا ، بَلْ قِيلَ : إِنَّهَا لَامُ التَّعْلِيلِ ، أَيْ : لِأَجْلِ دُلُوكِ الشَّمْسِ ، وَقِيلَ : إِنَّهَا بِمَعْنَى بَعْدَ ، فَإِنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ إِقَامَتَهَا وَقْتَ الدُّلُوكِ سَوَاءٌ فُسِّرَ بِالزَّوَالِ أَوِ الْغُرُوبِ ، وَإِنَّمَا يُؤْمَرُ بِالصَّلَاةِ بَعْدَهُ ، وَيَسْتَحِيلُ حَمْلُ آيَةِ الْعِدَّةِ عَلَى ذَلِكَ ، وَهَكَذَا يَسْتَحِيلُ حَمْلُ آيَةِ الْعِدَّةِ عَلَيْهِ ، إِذْ يَصِيرُ الْمَعْنَى : فَطَلِّقُوهُنَّ بَعْدَ عِدَّتِهِنَّ . فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى : فَطَلِّقُوهُنَّ لِاسْتِقْبَالِ عِدَّتِهِنَّ ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهَا إِذَا طُلِّقَتْ طَاهِرًا اسْتَقْبَلَتِ الْعِدَّةَ بِالْحَيْضِ . وَلَوْ كَانَتِ الْأَقْرَاءُ الْأَطْهَارَ ، لَكَانَتِ السُّنَّةُ أَنْ تُطَلَّقَ حَائِضًا لِتَسْتَقْبِلَ الْعِدَّةَ بِالْأَطْهَارِ ، فَبَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الْعِدَّةَ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ أَنْ تُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ هِيَ أَنْ تُطَلَّقَ طَاهِرًا لِتَسْتَقْبِلَ عِدَّتَهَا بَعْدَ الطَّلَاقِ .
فَإِنْ قِيلَ : فَإِذَا جَعَلْنَا الْأَقْرَاءَ : الْأَطْهَارَ ، اسْتَقْبَلَتْ عِدَّتَهَا بَعْدَ الطَّلَاقِ بِلَا فَصْلٍ ، وَمَنْ جَعَلَهَا الْحِيَضَ لَمْ تَسْتَقْبِلْهَا عَلَى قَوْلِهِ حَتَّى يَنْقَضِيَ الطُّهْرُ .
قِيلَ : كَلَامُ الرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَا بُدَّ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى فَائِدَةٍ مُسْتَقِلَّةٍ ، وَحَمْلُ الْآيَةِ عَلَى مَعْنَى : فَطَلِّقُوهُنَّ طَلَاقًا تَكُونُ الْعِدَّةُ بَعْدَهُ لَا فَائِدَةَ فِيهِ ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إِذَا كَانَ الْمَعْنَى : فَطَلِّقُوهُنَّ طَلَاقًا يَسْتَقْبِلْنَ فِيهِ الْعِدَّةَ لَا يَسْتَقْبِلْنَ فِيهِ طُهْرًا لَا تَعْتَدُّ بِهِ ، فَإِنَّهَا إِذَا
nindex.php?page=treesubj&link=11750_639_12447طُلِّقَتْ حَائِضًا اسْتَقْبَلَتْ طُهْرًا لَا تَعْتَدُّ بِهِ ، فَلَمْ تُطَلَّقْ لِاسْتِقْبَالِ الْعِدَّةِ ، وَيُوَضِّحُهُ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ : فَطَلِّقُوهُنَّ فِي قُبُلِ عِدِّتِهِنَّ . وَقُبُلُ الْعِدَّةِ : هُوَ الْوَقْتُ الَّذِي
[ ص: 563 ] يَكُونُ بَيْنَ يَدَيِ الْعِدَّةِ تُسْتَقْبَلُ بِهِ ، كَقُبُلِ الْحَائِضِ ، يُوَضِّحُهُ أَنَّهُ لَوْ أُرِيدَ مَا ذَكَرُوهُ ، لَقِيلَ : فِي أَوَّلِ عِدَّتِهِنَّ ، فَالْفَرْقُ بَيِّنٌ بَيْنَ قُبُلِ الشَّيْءِ وَأَوَّلِهِ .
وَأَمَّا قَوْلُكُمْ : لَوْ كَانَتِ الْقُرُوءُ هِيَ الْحِيَضَ ، لَكَانَ قَدْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الْعِدَّةِ . قُلْنَا : أَجَلْ ، وَهَذَا هُوَ الْوَاجِبُ عَقْلًا وَشَرْعًا ، فَإِنَّ الْعِدَّةَ لَا تُفَارِقُ الطَّلَاقَ وَلَا تَسْبِقُهُ ، بَلْ يَجِبُ تَأَخُّرُهَا عَنْهُ .