الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            صفحة جزء
            20 - كشف الضبابة في مسألة الاستنابة

            بسم الله الرحمن الرحيم

            الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى ، وقع السؤال كثيرا عن الاستنابة في الوظائف ، فقد عمت البلوى بها وتمسك كثير من النظار في عدم جوازها بما نقل عن النووي ، وابن عبد السلام أنهما أفتيا بعدم جوازها ، وتمسك طائفة منهم في جوازها بما نقله الدميري في شرح المنهاج عن السبكي وغيره أنهم أفتوا بجوازها ، وقد أفتيت بذلك غير مرة ، وسئلت الآن عن تحرير القول في ذلك من جهة النظر والدليل فوضعت له هذه الكراسة .

            ونبدأ بنقل كلام السبكي وغيره في ذلك ، قال السبكي في شرح المنهاج في باب الجعالة ما نصه : فرع - يقع كثيرا في هذا الزمان إمام مسجد يستنيب فيه - أفتى ابن عبد السلام ، والمصنف بأنه لا يستحق معلوم الإمامة لا المستنيب لعدم مباشرته ولا النائب لعدم ولايته ، قال : واستنبطت أنا من قول الأصحاب أن المجعول إذا استعان بغيره وحصل من غيره العمل على قصد الإعانة منفردا أو مشاركا ؛ إذ المجعول له يستحق كمال الجعل أن ذلك جائز ، وأن المستنيب يستحق جميع المعلوم ؛ لأن النائب معين له ، لكني أشترط في ذلك أن يكون النائب مثل المستنيب أو خيرا منه ؛ لأن المقصود في الجعالة رد العبد مثلا ولا يختلف باختلاف الأشخاص ، والمقصود في الإمامة العلم والدين وصفات أخر ، فإذا كان المتولي بصفة ونائبه مثله فقد حصل الغرض الذي قصده من ولاه ، فكان كالصورة المفروضة في الجعالة ، وإذا لم يكن بصفته لم يحصل الغرض ، فلا يستحق واحد منهما إن كانت التولية شرطا ، وإن لم تكن شرطا استحق المباشر لاتصافه بالإمامة المقتضية للاستحقاق ، والاستنابة في الإمامة يشبه التوكيل في [ ص: 187 ] المباحات ، وفي معنى الإمامة كل وظيفة تقبل الاستنابة كالتدريس ونحوه وهذا في القدر الذي لا يعجز عن مباشرته بنفسه ، أما فيما يعجز عنه فلا إشكال في الاستنابة - هذا كله كلام السبكي ، ونقله الشيخ كمال الدين الدميري في شرح المنهاج وأقره ، ثم قال : كان الشيخ فخر الدين بن عساكر مدرسا بالعذراوية ، والتقوية ، والجاروخية - وهذه الثلاثة بدمشق - والمدرسة الصلاحية بالقدس يقيم بهذه أشهرا وبهذه أشهرا في السنة هذا مع علمه وورعه قال : وقد سئل في هذا الزمان عن رجل ولي تدريس مدرستين في بلدتين متباعدتين كحلب ودمشق ، فأفتى جماعة بجواز ذلك ، واستنيب منهم قاضي القضاة بهاء الدين أبو البقاء السبكي ، والشيخ شهاب الدين أحمد بن عبد الله البعلبكي ، وشمس الدين الغزي ، والشيخ عماد الدين الحسباني كلهم من الشافعية ، ومن الحنفية ، والمالكية ، والحنابلة آخرون انتهى .

            وأقول : قد أباح الله ورسوله وحملة الشرع من جميع المذاهب الاستنابة في عدة مواضع ، كل واحد منها يصلح على انفراده دليلا مستقلا لجواز الاستنابة في الوظائف ، وهي قسمان : قسم تجوز الاستنابة فيه وإن لم يكن عذر ، وقسم لا يجوز إلا مع العذر .

            وأما القسم الأول ففيه فروع : الأول تجوز الاستنابة في غسل أعضاء الوضوء وإن لم يكن له عذر ، قال النووي : ولا نعلم في ذلك خلافا بين المسلمين إلا ما حكاه صاحب الشامل عن داود الظاهري أنه قال : لا يصح وضوؤه إذا وضأه غيره ، ورد عليه بأن الإجماع منعقد على خلاف ما قاله ، وكذا تجوز الاستنابة في صب الماء على الأعضاء وفي إحضاره للطهارة من غير كراهة فيهما ، سواء كان له عذر أم لم يكن ، فهذه ثلاثة فروع .

            الفرع الرابع : يجوز لمن أراد التيمم أن يستنيب رجلا يطلب عنه الماء سواء كان له عذر أم لا ، قال النووي : هذا هو المذهب الصحيح المشهور ، وحكى الخراسانيون وجها أنه لا تجوز الاستنابة إلا لمعذور ، قال : وهذا الوجه شاذ ضعيف ، الخامس : يجوز أن يستنيب من ييممه ويمسح أعضاءه بالتراب وإن لم يكن له عذر على الصحيح وفيه الوجه المذكور أنه لا يجوز بلا عذر ، قال النووي : وهو شاذ ضعيف . السادس : كان الأصل في الأذان أن يكون من وظائف الإمام الأعظم ؛ لأنه من شعائر الإسلام كالإمامة والحكم بين الناس ، ولهذا قال عمر - رضي الله عنه - : لو أطيق الأذان مع الخلافة لأذنت فتفويضه إلى غيره استنابة .

            السابع : الإمامة في الصلاة أيضا من وظائف الإمام الأعظم ولهذا استمر الخلفاء دهرا هم الذين يقيمون الجماعة ، فتفويض ذلك إلى غيره استنابة ، [ ص: 188 ] ومما يدل على أنها من وظائف الإمام الأعظم أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لما طعنه أبو لؤلؤة وعهد إلى أهل الشورى أوصى بأن يصلي صهيب بالناس حتى يجتمعوا على خليفة ، فلما توفي عمر وحضروا للصلاة عليه أراد عثمان أن يتقدم وذلك قبل البيعة فقال له عبد الرحمن بن عوف : ليس ذلك لك الآن إنما هو لصهيب الذي أوصى له .

            الثامن : من وظائف إمام الصلوات أن يأمر المأمومين بتسوية الصفوف عند إرادة الإحرام ، فلو كان المسجد كبيرا استناب رجلا يأمرهم بتسويتها .

            التاسع : يجوز أن يستنيب من ينظر له هل طلع الفجر أو زالت الشمس أو غربت الشمس أو غرب الشفق ؛ لأجل الصلوات والصوم ، ولا يلزمه أن يتولى ذلك بنفسه وإن لم يكن له عذر ، العاشر : إقامة الجمعة والخطبة من وظائف الإمام الأعظم أيضا على ما قررناه ، وتفويضه للغير استنابة .

            الحادي عشر : استخلاف الإمام إذا خرج من الصلاة لحدث أو رعاف رجلا يتم الصلاة بالمقتدين استنابة . الثاني عشر : إذا صلى الإمام الأعظم العيد في الصحراء بالناس استناب رجلا يصلي بالضعفة في المسجد . الثالث عشر ، والرابع عشر : تجوز الاستنابة في تفرقة الزكاة وفي نيتها . الخامس عشر ، والسادس عشر : تجوز الاستنابة في صرف الكفارات والصدقات المندوبة .

            السابع عشر ، والثامن عشر : تجوز الاستنابة في ذبح الهدي وفي ذبح الأضحية . التاسع عشر : تجوز استنابة أصناف الزكاة في قبضها لهم ، ذكره في الروضة من زوائده . العشرون : الحكم بين الناس وظيفة الإمام الأعظم فإقامته القضاة لفصل الأحكام استنابة ، ولم يستنب النبي - صلى الله عليه وسلم - قاضيا ولا أبو بكر ، وأول من استناب عمر - أخرج الطبراني بسند حسن عن السائب بن يزيد " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر لم يتخذا قاضيا ، وأول من استقضى عمر " قال : رد عني الناس في الدرهم والدرهمين ، وأخرج أبو يعلى بسند صحيح عن ابن عمر قال : ما اتخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قاضيا ولا أبو بكر ولا عمر ، حتى كان في آخر زمانه قال ليزيد ابن أخت نمر : اكفني بعض الأمور - يعني صغارها - .

            الحادي والعشرون إلى الثالث والثلاثين : ولاية الحسبة ، وولاية المظالم ، وولاية الجرائم ، وإمارة الجهاد ، وإمارة سائر الحروب ، وإمارة تسيير الحجاج ، وإمارة إقامة الحج ، وولاية قسم الفيء والغنيمة ، وولاية الجزية ، وولاية الخراج ، وولاية الإقطاع ، وولاية الديوان ، وولاية النظر في بيت المال ، كلها ولايات شرعية وهي من وظائف الإمام وتفويضه إياها لغيره استنابة وهم نواب له ، وقد عقد لها الماوردي أبوابا في كتاب الأحكام السلطانية ، فليت شعري كيف تنكر الاستنابة في عمل وظيفة ، ونواب [ ص: 189 ] الإمام الأعظم طبقت الدنيا في كل بلد في أنواع الأعمال التي كلها وظائفه ومطوقة به شرعا ، ومتعلقة بذمته ومطوقة بعنقه يسأل عنها يوم القيامة عملا عملا .

            الرابع والثلاثون : لولي النكاح أن يستنيب رجلا في تزويج موليته ، الخامس والثلاثون : قال الماوردي ، وأقره النووي : لو استأجره لزيارة قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يصح ، وأما الجعالة عليها فإن كان على مجرد الوقوف عند القبر ومشاهدته لم يصح ؛ لأنه لا تدخله النيابة ، وإن كان على الدعاء عند زيارة قبره جاز ؛ لأن الدعاء مما تدخله النيابة ولا يضر الجهل بنفس الدعاء انتهى ، فكذلك تدخل النيابة في وظيفة قراءة القرآن والدعاء للواقف ، السادس والثلاثون : ذهب السبكي إلى أنه يجوز أن يستأجر الشخص إنسانا للدعاء فيقول : استأجرتك بكذا لتدعو لي بكذا فيذكر ما شاء من أمور الدنيا والآخرة .

            فهذه ستة وثلاثون فرعا كلها في العبادات ، ومما جازت فيه الاستنابة من غير العبادات طرفا البيع بأنواعه ، والسلم ، والرهن ، والهبة ، والصلح ، والإبراء ، والحوالة ، والإقالة ، والضمان ، والكفالة ، والشركة ، والقراض ، والمساقاة ، والإجارة ، والجعالة ، والإيداع ، والإعارة ، والأخذ بالشفعة ، والوقف ، والوصية ، والنكاح ، والخلع ، والطلاق ، والرجعة ، والإعتاق ، والكتابة ، وقبض الديون ، وإقباضها ، والأموال ، والجزية ، وتعيين المختارة للنكاح أو الطلاق ، وتملك المباحات كالإحياء ، والاصطياد ، والاحتطاب ، والاستقاء ، والدعوى ، والجواب ، واستيفاء الحدود ، وسواء في كل ذلك كان للموكل عذر أم لا ، وجوز بعضهم الاستنابة في الإقرار ، والالتقاط ، والظهار ، والتدبير ، فهذه نحو مائة موضع أباح علماء المسلمين الاستنابة فيها من غير عذر ، وغالبها مما انعقد فيه الإجماع ، أفلا يصلح أن تلحق الوظائف التي مبناها على الإحسان والمسامحة بواحد منها ؟

            ومن ألطف الفروع التي تجوز فيها الاستنابة ما ذكره إمام الحرمين في الأساليب أنه يجوز أن يستأجر رجلا ليسرق له شيئا من أموال الكفار من غير قتال ويكون ملكا للمستأجر ، ومن ألطفها أيضا ما في فتاوى ابن الصلاح أنه يجوز أن يستأجر رجلا ليقعد مكانه في الحبس فإذا كان هذا في الحبس المقصود منه الزجر والتعلق بإنسان معين ففي سد وظيفة أولى .

            فصل : وأما القسم الثاني وهو ما يكون عند العذر ففيه فروع ، منها جواز الاستنابة [ ص: 190 ] في الحج للمغصوب ، وجواز الاستنابة في رمي الجمار لمن يحج بنفسه وحصل له عذر أيام الرمي ، وجواز الاستنابة في الصوم عن الميت على ما صححه النووي ووردت به الأحاديث الصحيحة ، وجواز الاستنابة في الاعتكاف عنه في قول حكاه البويطي عن الشافعي ، وجواز الاستنابة في الصلاة عنه في وجه حكاه .

            فصل : ذكر الحافظ عماد الدين بن كثير في تاريخه في ترجمة الشيخ محي الدين النووي أنه باشر تدريس الإقبالية نيابة عن ابن خلكان ، وكذلك الفلكية والركنية ، وهذا من النووي دليل على أنه تجوز الاستنابة ؛ لأنه أورع من أن يفعل ما لا يجوز .

            فصل : ومن الدليل على جواز الاستنابة أن جماعة من الصحابة كانوا يفتون الناس في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - والإفتاء بالأصالة إنما هو منصب النبي - صلى الله عليه وسلم - ؛ لأنه المبعوث لتبليغ الناس وتعليمهم ، وإفتاء العلماء بعد وفاته إنما هو بطريق الخلافة والوراثة عنه ، فإفتاؤهم في حياته بإذنه استنابة منه لهم ؛ ليقوموا عنه بما هو منصب له على وجه النيابة ، وقد عقد ابن سعد في الطبقات بابا في ذكر من كان يفتي بالمدينة على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخرج فيه عن ابن عمر أنه سئل من كان يفتي الناس في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : أبو بكر وعمر ، وأخرج عن القاسم بن محمد قال : كان أبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي يفتون على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

            وأخرج عن أبي عبد الله بن نيار الأسلمي قال : كان عبد الرحمن بن عوف ممن يفتي في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم . وأخرج عن كعب بن مالك قال : كان معاذ بن جبل يفتي الناس بالمدينة في حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وأخرج عن سهل بن أبي حثمة قال : كان الذين يفتون على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة من المهاجرين وثلاثة من الأنصار : عمر ، وعثمان ، وعلي ، وأبي بن كعب ، ومعاذ بن جبل ، وزيد بن ثابت ، وقد تحصل من هذه الآثار ثمانية كانوا يفتون والنبي - صلى الله عليه وسلم - حي ، وقد جمعتهم في بيتين فقلت :

            وقد كان في عصر النبي جماعة يقومون بالإفتاء قومة قانت     فأربعة أهل الخلافة معهم
            معاذ أبي وابن عوف ابن ثابت

            فصل : ومن الدليل على جواز الاستنابة ما أخرجه عبد الله بن أحمد بن حنبل في زوائد مسند أبيه ، عن علي بن أبي طالب قال : " لما نزلت عشر آيات من براءة دعا النبي - صلى الله عليه وسلم - أبا بكر ليقرأها على أهل مكة ، ثم دعاني فقال لي : أدرك أبا بكر فحيث ما لقيته فخذ الكتاب منه فاقرأه على أهل مكة فلحقته فأخذت الكتاب منه ورجع أبو بكر فقال : يا رسول الله نزل في شيء ؟ قال : " لا ولكن جبريل جاءني فقال لي : لن يؤدي عنك إلا أنت [ ص: 191 ] أو رجل منك " وأخرج أحمد ، والترمذي وحسنه عن أنس قال : " بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - ببراءة مع أبي بكر ثم دعاه فقال : لا ينبغي لأحد أن يبلغ هذا إلا رجل من أهلي فدعا عليا فأعطاه إياه " فهذه استنابة من النبي - صلى الله عليه وسلم - في تبليغ ما أمر بتبليغه ، ثم لما أمر أن يستنيب رجلا من قبيلة مخصوصة رجع إليه ، فيستدل بفعله أولا على جواز الاستنابة مطلقا إذا سكت الواقف عن شرط ، ويستدل بفعله ثانيا على أنه إذا خصص الواقف تخصيصا يتبع شرطه .

            وأخرج الترمذي وحسنه عن ابن عباس قال : " بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - أبا بكر وأمره أن ينادي بهؤلاء الكلمات ثم أتبعه عليا فانطلقا فحجا فقام علي أيام التشريق فنادى : ذمة الله بريئة من كل مشرك فسيحوا في الأرض أربعة أشهر ، ولا يحجن بعد العام مشرك ، ولا يطوفن بالبيت عريان ، ولا يدخل الجنة إلا مؤمن ، فكان علي ينادي فإذا أعيا قام أبو بكر فنادى بها ، فهذه نيابة من أبي بكر عن علي فإنه قصد بالبعث علي " .

            وأخرج البخاري عن أبي هريرة قال : " بعثني أبو بكر فيمن يؤذن يوم النحر بمنى لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان " ، فهذه نيابة من أبي هريرة أيضا ، والمقصود بالتبليغ في هذه القصة أن تكون من علي .

            فصل : هذا كله في وقف سكت واقفه عن ذكر الاستنابة إباحة ومنعا ، وكان الواقف حرا مالكا لما وقفه إما وقف صرح واقفه بتجويز الاستنابة أو بمنعها فإنه يتبع شرطه لا محالة ، وإما وقف لم يملكه واقفه وذلك كالذي وقفه أمير المؤمنين أو السلطان من بيت المال ، فإن ذلك حكمه حكم الأرصاد لا حكم الأوقاف التي ملكها واقفوها ، فلا يتقيد بما شرطه الواقف فيها ؛ لأنه مال بيت المال أرصد لمصالح المسلمين ، فإذا قرر فيه بعض من له استحقاق في بيت المال جاز له أن يأكل منه ، وإن لم يقم بذلك الشرط ولو لم يكن بصفة الاستحقاق من بيت المال لم يجز له أن يأكل منه ولو باشر تلك الوظيفة ، وبهذا صرح المتأخرون أصحابنا ، فقال الزركشي في شرح المنهاج في باب الإجارة : ظن بعضهم أن الجامكية عن الإمامة والطلب ونحوهما من باب الإجارة حتى لا يستحق شيئا إذا أخل ببعض الصلوات أو الأيام وليس كذلك ، بل هو من باب الأرصاد والأرزاق المبني على الإحسان والمسامحة ، بخلاف الإجارة فإنها من باب المعاوضة ولهذا يمتنع أخذ الأجرة على القضاء ويجوز إرزاقه من بيت المال بالإجماع انتهى .

            وقال الدميري في شرح المنهاج في باب الجعالة : سألت شيخنا - يعني الأسنوي - [ ص: 192 ] مرتين عن غيبة الطالب عن الدرس هل يستحق المعلوم أو يعطى بقسط ما حضر ؟ فقال : إن كان الطالب في حال انقطاعه يشتغل بالعلم استحق وإلا فلا ، ولو حضر ولم يكن بصدد الاشتغال لم يستحق ؛ لأن المقصود نفعه بالعلم لا مجرد حضوره ، وكان يذهب إلى أن ذلك من باب الأرصاد انتهى .

            ومن صور ذلك ما يشترى من أراضي بيت المال بالحيلة من غير بذل ثمن معتبر ، فحكمه حكم ما وقفه السلطان من أراضي بيت المال ، وقد أراد برقوق في سنة نيف وثمانين وسبعمائة إبطال جميع الأوقاف وردها إلى بيت المال بهذه الحجة ، وعقد لذلك مجلسا حضره علماء عصره فقال الشيخ سراج الدين البلقيني : أما ما وقف على خديجة وعويشة فنعم ، وأما ما وقف على المدارس والعلماء وطلبة العلم فلا سبيل إليه ؛ لأن لهم في الخمس أكثر من ذلك ، وإنما يأكلون من هذه الأوقاف بسبب استحقاقهم من بيت المال ، ومن صور ذلك ما اشتري بعقد صحيح وبذل فيه الثمن المعتبر ولكن كان مشتريه من الأتراك الذين أصلهم عبيد بيت المال وأعتقهم السلطان مجانا فإن عتقهم في هذه الصورة غير صحيح ، فكل ما في أيديهم ملك لبيت المال فتجري أوقافهم على هذا الحكم .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية