الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثالثة : اتفق المسلمون على أن فوق السماوات جسما عظيما هو العرش .

                                                                                                                                                                                                                                            إذا ثبت هذا فنقول : العرش المذكور في هذه الآية هل المراد منه ذلك العرش أو غيره ؟ فيه قولان :

                                                                                                                                                                                                                                            القول الأول وهو الذي اختاره أبو مسلم الأصفهاني ، أنه ليس المراد منه ذلك ، بل المراد من قوله : ( ثم استوى على العرش ) أنه لما خلق السماوات والأرض سطحها ورفع سمكها ، فإن كل بناء فإنه يسمى عرشا ، وبانيه يسمى عارشا ، قال تعالى : ( ومن الشجر ومما يعرشون ) [ النحل : 68 ] أي : يبنون ، وقال في صفة القرية ( فهي خاوية على عروشها ) [ الحج : 45 ] والمراد أن تلك القرية خلت منهم مع سلامة بنائها وقيام سقوفها ، وقال : ( وكان عرشه على الماء ) [ هود : 7 ] أي : بناؤه ، وإنما ذكر الله تعالى ذلك لأنه أعجب في القدرة ، فالباني يبني البناء متباعدا عن الماء على الأرض الصلبة لئلا ينهدم ، والله تعالى بنى السماوات والأرض على الماء ليعرف العقلاء قدرته وكمال جلالته ، والاستواء على العرش هو الاستعلاء عليه بالقهر ، والدليل عليه قوله تعالى : ( وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه ) [ الزخرف : 12 ، 13 ] قال أبو مسلم : فثبت أن اللفظ يحتمل هذا الذي ذكرناه . فنقول : وجب حمل اللفظ عليه ، ولا يجوز حمله على العرش الذي في السماء ، والدليل عليه هو أن الاستدلال على وجود الصانع تعالى يجب أن يحصل بشيء معلوم مشاهد ، والعرش الذي في السماء ليس كذلك ، وأما أجرام السماوات والأرضين فهي مشاهدة محسوسة ، فكان الاستدلال بأحوالها على وجود الصانع الحكيم جائزا صوابا حسنا . ثم قال : ومما يؤكد ذلك أن قوله تعالى : ( خلق السماوات والأرض في ستة أيام ) إشارة إلى تخليق ذواتها ، وقوله : ( ثم استوى على العرش ) يكون إشارة إلى تسطيحها وتشكيلها بالأشكال الموافقة لمصالحها ، وعلى هذا الوجه تصير هذه الآية موافقة لقوله سبحانه وتعالى : ( أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها رفع سمكها فسواها ) [ النازعات : 27 ، 28 ] فذكر أولا أنه بناها ، ثم ذكر ثانيا أنه رفع سمكها فسواها . وكذلك هاهنا . ذكر بقوله : ( خلق السماوات والأرض ) أنه خلق ذواتها ثم ذكر بقوله : ( ثم استوى على العرش ) أنه قصد إلى تعريشها وتسطيحها وتشكيلها بالأشكال الموافقة لها .

                                                                                                                                                                                                                                            والقول الثاني : وهو القول المشهور لجمهور المفسرين : أن المراد من العرش المذكور في هذه الآية : الجسم العظيم الذي في السماء ، وهؤلاء قالوا : إن قوله تعالى : ( ثم استوى على العرش ) لا يمكن أن يكون معناه أنه تعالى خلق العرش بعد خلق السماوات والأرضين ، بدليل أنه تعالى قال في آية أخرى : ( وكان عرشه على الماء ) [ هود : 7 ] وذلك يدل على أن تكوين العرش سابق على تخليق السماوات والأرضين . بل يجب تفسير هذه الآية بوجوه أخر . وهو أن يكون المراد : ثم يدبر الأمر وهو مستو على العرش .

                                                                                                                                                                                                                                            والقول الثالث : أن المراد من العرش الملك ، يقال : فلان ولي عرشه ؛ أي : ملكه ، فقوله : ( ثم استوى على العرش ) المراد أنه تعالى لما خلق السماوات والأرض واستدارت الأفلاك والكواكب ، وجعل بسبب دورانها الفصول الأربعة والأحوال المختلفة من المعادن والنبات والحيوانات ، ففي هذا الوقت قد حصل وجود هذه [ ص: 13 ] المخلوقات والكائنات . والحاصل أن العرش عبارة عن الملك ، وملك الله تعالى عبارة عن وجود مخلوقاته ، ووجود مخلوقاته إنما حصل بعد تخليق السماوات والأرض ، لا جرم صح إدخال حرف ( ثم ) الذي يفيد التراخي على الاستواء على العرش . والله أعلم بمراده .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية