الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الرابعة : قوله تعالى : ( إليه مرجعكم جميعا ) فيه أبحاث :

                                                                                                                                                                                                                                            البحث الأول : أن كلمة " إلى " لانتهاء الغاية ، وظاهره يقتضي أن يكون الله سبحانه مختصا بحيز وجهة ، حتى يصح أن يقال : إليه مرجع الخلق .

                                                                                                                                                                                                                                            والجواب عنه من وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أنا إذا قلنا . النفس جوهر مجرد ، فالسؤال زائل .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : أن يكون المراد منه : أن مرجعهم إلى حيث لا حاكم سواه .

                                                                                                                                                                                                                                            الثالث : أن يكون المراد : أن مرجعهم إلى حيث حصل الوعد فيه بالمجازاة .

                                                                                                                                                                                                                                            البحث الثاني : ظاهر الآيات الكثيرة يدل على أن الإنسان عبارة عن النفس لا عن البدن ، ويدل أيضا [ ص: 25 ] على أن النفس كانت موجودة قبل البدن . أما أن الإنسان شيء غير هذا البدن فلقوله تعالى : ( ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء ) فالعلم الضروري حاصل بأن بدن المقتول ميت ، والنص دال على أنه حي ، فوجب أن تكون حقيقته شيئا مغايرا لهذا البدن الميت ، وأيضا قال الله تعالى في صفة نزع روح الكفار : ( أخرجوا أنفسكم ) [ الأنعام : 93 ] وأما أن النفس كانت موجودة قبل البدن ، فلأن قوله تعالى في هذه الآية : ( إليه مرجعكم ) يدل على ما قلنا ؛ لأن الرجوع إلى الموضع إنما يحصل لو كان ذلك الشيء قد كان هناك قبل ذلك ، ونظيره قوله تعالى : ( ياأيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية ) [ الفجر : 27 ، 28 ] وقوله : ( ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق ) [ الأنعام : 62 ] .

                                                                                                                                                                                                                                            البحث الثالث : المرجع بمعنى الرجوع ، و ( جميعا ) نصب على الحال ؛ أي : ذلك الرجوع يحصل حال الاجتماع ، وهذا يدل على أنه ليس المراد من هذا المرجع الموت ، وإنما المراد منه القيامة .

                                                                                                                                                                                                                                            البحث الرابع : قوله تعالى : ( إليه مرجعكم ) يفيد الحصر ، وأنه لا رجوع إلا إلى الله تعالى ، ولا حكم إلا حكمه ولا نافذ إلا أمره ، وأما قوله : ( وعد الله حقا ) ففيه مسألتان :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : قوله : ( وعد الله ) منصوب على معنى : وعدكم الله وعدا ؛ لأن قوله : ( إليه مرجعكم ) معناه الوعد بالرجوع ، فعلى هذا التقدير يكون قوله : ( وعد الله ) مصدرا مؤكدا لقوله : ( إليه مرجعكم ) وقوله : ( ح‍قا ) مصدرا مؤكدا لقوله : ( وعد الله ) فهذه التأكيدات قد اجتمعت في هذا الحكم .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : قرئ ( وعد الله ) على لفظ الفعل . واعلم أنه تعالى لما أخبر عن وقوع الحشر والنشر ، ذكر بعده ما يدل على كونه في نفسه ممكن الوجود . ثم ذكر بعده ما يدل على وقوعه . أما ما يدل على إمكانه في نفسه فهو قوله سبحانه : ( إنه يبدأ الخلق ثم يعيده ) وفيه مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : تقرير هذا الدليل أنه تعالى بين بالدليل كونه خالقا للأفلاك والأرضين ، ويدخل فيه أيضا كونه خالقا لكل ما في هذا العالم من الجمادات والمعادن والنبات والحيوان والإنسان ، وقد ثبت في العقل أن كل من كان قادرا على شيء ، وكانت قدرته باقية ممتنعة الزوال ، وكان عالما بجميع المعلومات فإنه يمكنه إعادته بعينه ، فدل هذا الدليل على أنه تعالى قادر على إعادة الإنسان بعد موته .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : اتفق المسلمون على أنه تعالى قادر على إعدام أجسام العالم ، واختلفوا في أنه تعالى هل يعدمها أم لا ؟ فقال قوم : إنه تعالى يعدمها ، واحتجوا بهذه الآية ، وذلك لأنه تعالى حكم على جميع المخلوقات بأنه يعيدها ، فوجب أن يعيد الأجسام أيضا ، وإعادتها لا تمكن إلا بعد إعدامها ، وإلا لزم إيجاد الموجود وهو محال . ونظيره قوله تعالى : ( يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب كما بدأنا أول خلق نعيده ) [ الأنبياء : 104 ] فحكم بأن الإعادة تكون مثل الابتداء ، ثم ثبت بالدليل أنه تعالى إنما يخلقها في الابتداء من العدم ، فوجب أن يقال : إنه تعالى يعيدها أيضا من العدم .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثالثة : في هذه الآية إضمار ، كأنه قيل : إنه يبدأ الخلق ليأمرهم بالعبادة ، ثم يميتهم ، ثم يعيدهم ، كما قال في سورة البقرة : ( كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ) [ البقرة : 28 ] إلا أنه تعالى حذف ذكر الأمر بالعبادة هاهنا ، لأجل أنه تعالى قال قبل هذه الآية : ( ذلكم الله ربكم ) [ ص: 26 ] ( فاعبدوه ) [ يونس : 3 ] وحذف ذكر الإماتة لأن ذكر الإعادة يدل عليها .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الرابعة : قرأ بعضهم ( إنه يبدأ الخلق ثم يعيده ) بالكسر وبعضهم بالفتح . قال الزجاج : من كسر الهمزة من " إن " فعلى الاستئناف ، وفي الفتح وجهان ، الأول : أن يكون التقدير : إليه مرجعكم جميعا لأنه يبدأ الخلق ثم يعيده . والثاني : أن يكون التقدير : وعد الله وعدا بدء الخلق ثم إعادته ، و ( يبدئ ) من أبدأ ، وقرئ : ( حق إنه يبدأ الخلق ) كقولك : حق إن زيدا منطلق .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية