الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أنه بقي في هذه الآية سؤالات :

                                                                                                                                                                                                                                            السؤال الأول : كيف جعل الكون في الفلك غاية للتسيير في البحر ، مع أن الكون في الفلك متقدم لا محالة على التسيير في البحر ؟

                                                                                                                                                                                                                                            والجواب : لم يجعل الكون في الفلك غاية للتسيير ، بل تقدير الكلام كأنه قيل : هو الذي يسيركم حتى إذا وقع في جملة تلك التسييرات الحصول في الفلك كان كذا وكذا .

                                                                                                                                                                                                                                            السؤال الثاني : ما جواب ( إذا ) في قوله : ( حتى إذا كنتم في الفلك ) ؟ .

                                                                                                                                                                                                                                            الجواب : هو أن جوابها هو قوله : ( جاءتها ريح عاصف ) ثم قال صاحب " الكشاف " :

                                                                                                                                                                                                                                            وأما قوله : ( دعوا الله ) فهو بدل من (ظنوا) لأن دعاءهم من لوازم ظنهم الهلاك . وقال بعض الأفاضل : لو حمل قوله : ( دعوا الله ) على الاستئناف كان أوضح ، كأنه لما قيل : ( جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم ) قال قائل : فما صنعوا ؟ فقيل : ( دعوا الله ) .

                                                                                                                                                                                                                                            السؤال الثالث : ما الفائدة في صرف الكلام من الخطاب إلى الغيبة ؟

                                                                                                                                                                                                                                            الجواب : فيه وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : قال صاحب " الكشاف " : المقصود هو المبالغة كأنه تعالى يذكر حالهم لغيرهم لتعجيبهم منها ، ويستدعي منهم مزيد الإنكار والتقبيح .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : قال أبو علي الجبائي : إن مخاطبته تعالى لعباده ، هي على لسان الرسول عليه الصلاة والسلام ، فهي بمنزلة الخبر عن الغائب . وكل من أقام الغائب مقام المخاطب حسن منه أن يرده مرة أخرى إلى الغائب .

                                                                                                                                                                                                                                            الثالث : وهو الذي خطر بالبال في الحال ، أن الانتقال في الكلام من لفظ الغيبة إلى لفظ الحضور فإنه يدل على مزيد التقرب والإكرام . وأما ضده وهو الانتقال من لفظ الحضور إلى لفظ الغيبة ، يدل على المقت والتبعيد .

                                                                                                                                                                                                                                            أما الأول : فكما في سورة الفاتحة ، فإن قوله : ( الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم ) [ الفاتحة : 2 ، 3 ] كله مقام الغيبة ، ثم انتقل منها إلى قوله : ( إياك نعبد وإياك نستعين ) [ الفاتحة : 5 ] وهذا يدل على أن العبد كأنه انتقل من مقام الغيبة إلى مقام الحضور ، وهو يوجب علو الدرجة ، وكمال القرب من خدمة رب العالمين .

                                                                                                                                                                                                                                            وأما الثاني : فكما في هذه الآية ؛ لأن قوله : ( حتى إذا كنتم في الفلك ) خطاب الحضور ، وقوله : ( وجرين بهم ) مقام الغيبة ، فهاهنا انتقل من مقام الحضور إلى مقام الغيبة ، وذلك يدل على المقت والتبعيد [ ص: 57 ] والطرد ، وهو اللائق بحال هؤلاء ؛ لأن من كان صفته أنه يقابل إحسان الله تعالى إليه بالكفران ، كان اللائق به ما ذكرناه .

                                                                                                                                                                                                                                            السؤال الرابع : كم القيود المعتبرة في الشرط والقيود المعتبرة في الجزاء ؟

                                                                                                                                                                                                                                            الجواب : أما القيود المعتبرة في الشرط فثلاثة ، أولها الكون في الفلك ، وثانيها جري الفلك بالريح الطيبة ، وثالثها فرحهم بها . وأما القيود المعتبرة في الجزاء فثلاثة أيضا ، أولها قوله : ( جاءتها ريح عاصف ) وفيه سؤالان :

                                                                                                                                                                                                                                            السؤال الأول : الضمير في قوله : ( جاءتها ) عائد إلى الفلك وهو ضمير الواحد ، والضمير في قوله : ( وجرين بهم ) عائد إلى الفلك وهو الضمير الجمع ، فما السبب فيه ؟

                                                                                                                                                                                                                                            الجواب عنه من وجهين ، الأول : أنا لا نسلم أن الضمير في قوله : ( جاءتها ) عائد إلى الفلك ، بل نقول : إنه عائد إلى الريح الطيبة المذكورة في قوله : ( وجرين بهم بريح طيبة ) الثاني : لو سلمنا ما ذكرتم إلا أن لفظ " الفلك " يصلح للواحد والجمع ، فحسن الضميران .

                                                                                                                                                                                                                                            السؤال الثاني : ما العاصف ؟

                                                                                                                                                                                                                                            الجواب : قال الفراء والزجاج : يقال : ريح عاصف وعاصفة ، وقد عصفت عصوفا وأعصفت ، فهي معصف ومعصفة . قال الفراء : والألف لغة بني أسد ، ومعنى عصفت الريح : اشتدت ، وأصل العصف السرعة ، يقال : ناقة عاصف وعصوف : سريعة ، وإنما قيل : ( ريح عاصف ) لأنه يراد : ذات عصوف ، كما قيل : لابن وتامر ، أو لأجل أن لفظ الريح مذكر .

                                                                                                                                                                                                                                            أما القيد الثاني : فهو قوله : ( وجاءهم الموج من كل مكان ) والموج ما ارتفع من الماء فوق البحر .

                                                                                                                                                                                                                                            أما القيد الثالث : فهو قوله : ( وظنوا أنهم أحيط بهم ) والمراد أنهم ظنوا القرب من الهلاك ، وأصله أن العدو إذا أحاط بقوم أو بلد ، فقد دنوا من الهلاك .

                                                                                                                                                                                                                                            السؤال الخامس : ما المراد من الإخلاص في قوله : ( دعوا الله مخلصين له الدين ) .

                                                                                                                                                                                                                                            والجواب : قال ابن عباس : يريد تركوا الشرك ، ولم يشركوا به من آلهتهم شيئا ، وأقروا لله بالربوبية والوحدانية . قال الحسن : ( دعوا الله مخلصين ) الإخلاص : الإيمان ، لكن لأجل العلم بأنه لا ينجيهم من ذلك إلا الله تعالى ، فيكون جاريا مجرى الإيمان الاضطراري . وقال ابن زيد : هؤلاء المشركون يدعون مع الله ما يدعون ، فإذا جاء الضر والبلاء لم يدعوا إلا الله . وعن أبي عبيدة أن المراد من ذلك الدعاء قولهم : أهيا شراهيا ، تفسيره : يا حي يا قيوم .

                                                                                                                                                                                                                                            السؤال السادس : ما الشيء المشار إليه بقوله " هذه " في قوله : ( لئن أنجيتنا من هذه ) .

                                                                                                                                                                                                                                            والجواب : المراد : لئن أنجيتنا من هذه الريح العاصفة ، وقيل : المراد : لئن أنجيتنا من هذه الأمواج ، أو من هذه الشدائد ، وهذه الألفاظ وإن لم يسبق ذكرها إلا أنه سبق ذكر ما يدل عليها .

                                                                                                                                                                                                                                            السؤال السابع : هل يحتاج في هذه الآية إلى إضمار ؟

                                                                                                                                                                                                                                            الجواب : نعم ، والتقدير : دعوا الله مخلصين له الدين مريدين أن يقولوا : لئن أنجيتنا ، ويمكن أن يقال : [ ص: 58 ] لا حاجة إلى الإضمار ؛ لأن قوله : ( دعوا الله ) يصير مفسرا بقوله : ( لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين ) فهم في الحقيقة ما قالوا إلا هذا القول .

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أنه تعالى لما حكى عنهم هذا التضرع الكامل بين أنهم بعد الخلاص من تلك البلية والمحنة أقدموا في الحال على البغي في الأرض بغير الحق . قال ابن عباس : يريد به الفساد والتكذيب والجراءة على الله تعالى ، ومعنى البغي قصد الاستعلاء بالظلم . قال الزجاج : البغي : الترقي في الفساد ، قال الأصمعي : يقال : بغى الجرح يبغي بغيا : إذا ترقى إلى الفساد ، وبغت المرأة : إذا فجرت ، قال الواحدي : أصل هذا اللفظ من الطلب .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية