المسألة الرابعة : قال القاضي : الفائدة في قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=21الذي خلقكم ) أن العبادة لا تستحق إلا بذلك ، فلما ألزم عباده بالعبادة بين ما له ولأجله تلزم العبادة . فإن قيل : فما الفائدة في قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=21والذين من قبلكم ) وخلق الله من قبلهم لا يقتضي وجوب العبادة عليهم ، قلنا : الجواب من وجهين : الأول : إن الأمر وإن كان على ما ذكرت ولكن علمهم بأن الله تعالى خلقهم كعلمهم بأنه تعالى خلق من قبلهم لأن طريقة العلم بذلك واحدة .
الثاني : أن من قبلهم كالأصول لهم ، وخلق الأصول يجري مجرى الإنعام على الفروع ، فكأنه تعالى يذكرهم عظيم إنعامه عليهم ، كأنه تعالى يقول : لا تظن أني إنما أنعمت عليك حين وجدت بل كنت منعما عليك قبل أن وجدت بألوف سنين بسبب أني كنت خالقا لأصولك وآبائك .
المسألة الخامسة : في قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=21لعلكم تتقون ) بحثان :
البحث الأول : أن
nindex.php?page=treesubj&link=34077_28914كلمة (لعل) للترجي والإشفاق ، تقول : لعل زيدا يكرمني ، وقال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=44لعله يتذكر أو يخشى ) [ طه : 44 ] ، (
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=17لعل الساعة قريب ) [ الشورى : 17 ] ، ألا ترى إلى قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=18والذين آمنوا مشفقون منها ) [ الشورى : 18 ] ، والترجي والإشفاق لا يحصلان إلا عند الجهل بالعاقبة ، وذلك على الله تعالى محال ، فلا بد فيه من التأويل وهو من وجوه :
أحدها : أن معنى " لعل " راجع إلى العباد لا إلى الله تعالى ، فقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=44لعله يتذكر أو يخشى ) [ طه : 44 ] أي اذهبا أنتما على رجائكما وطمعكما في إيمانه ، ثم الله تعالى عالم بما يؤول إليه أمره .
وثانيها : أن من عادة الملوك والعظماء أن يقتصروا في مواعيدهم التي يوطنون أنفسهم على إنجازها على أن يقولوا : لعل وعسى ، ونحوهما من الكلمات ، أو للظفر منهم بالرمزة أو الابتسامة أو النظرة الحلوة ، فإذا عثر على شيء من ذلك لم يبق للطالب شك في الفوز بالمطلوب ، فعلى هذا الطريق ورد لفظ (لعل) في كلام الله تعالى .
وثالثها : ما قيل أن (لعل) بمعنى (كي) قال صاحب " الكشاف " : و (لعل) لا يكون بمعنى (كي) ولكن كلمة (لعل) للإطماع ، والكريم الرحيم إذا أطمع فعلى ما يطمع فيه لا محالة ، تجري أطماعه مجرى وعده المحتوم ، فلهذا السبب قيل : (لعل) في كلام الله تعالى بمعنى (كي) . ورابعها : أنه تعالى فعل بالمكلفين ما لو فعله غيره لاقتضى رجاء حصول المقصود ؛ لأنه تعالى لما أعطاهم القدرة على الخير والشر وخلق لهم العقول الهادية وأزاح أعذارهم ، فكل من فعل بغيره ذلك فإنه يرجو منه حصول المقصود ، فالمراد من لفظة (لعل) فعل ما لو فعله غيره لكان موجبا للرجاء .
خامسها : قال القفال : (لعل) مأخوذ من تكرر الشيء كقولهم : عللا بعد نهل ، واللام فيها هي لام التأكيد كاللام التي تدخل في (لقد) فأصل (لعل) عل ؛ لأنهم يقولون : علك أن تفعل كذا ، أي لعلك ، فإذا كانت حقيقته التكرير والتأكيد كان قول القائل : افعل كذا لعلك تظفر بحاجتك ، معناه افعله فإن فعلك له يؤكد طلبك له ويقويك عليه .
البحث الثاني : أن لقائل أن يقول : إذا كانت العبادة تقوى فقوله : ( اعبدوا ربكم لعلكم تتقون ) جار مجرى قوله : اعبدوا ربكم لعلكم تعبدون . أو : اتقوا ربكم لعلكم تتقون ، والجواب من وجهين : الأول :
[ ص: 93 ] لا نسلم أن العبادة نفس التقوى ، بل
nindex.php?page=treesubj&link=28345العبادة فعل يحصل به التقوى ؛ لأن الاتقاء هو الاحتراز عن المضار ، والعبادة فعل المأمور به ، ونفس هذا الفعل ليس هو نفس الاحتراز عن المضار بل يوجب الاحتراز ، فكأنه تعالى قال : اعبدوا ربكم لتحترزوا به عن عقابه ، وإذا قيل في نفس الفعل : إنه اتقاء ؛ فذلك مجاز ؛ لأن الاتقاء غير ما يحصل به الاتقاء ، لكن لاتصال أحد الأمرين بالآخر أجري اسمه عليه . الثاني : أنه تعالى إنما خلق المكلفين لكي يتقوا ويطيعوا على ما قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=51&ayano=56وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) [ الذاريات : 56 ] ، فكأنه تعالى أمر بعبادة الرب الذي خلقهم لهذا الغرض ، وهذا التأويل لائق بأصول
المعتزلة .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَالَ الْقَاضِي : الْفَائِدَةُ فِي قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=21الَّذِي خَلَقَكُمْ ) أَنَّ الْعِبَادَةَ لَا تُسْتَحَقُّ إِلَّا بِذَلِكَ ، فَلَمَّا أَلْزَمَ عِبَادَهُ بِالْعِبَادَةِ بَيَّنَ مَا لَهُ وَلِأَجْلِهِ تَلْزَمُ الْعِبَادَةُ . فَإِنْ قِيلَ : فَمَا الْفَائِدَةُ فِي قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=21وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ) وَخَلْقُ اللَّهِ مَنْ قَبْلَهُمْ لَا يَقْتَضِي وُجُوبَ الْعِبَادَةِ عَلَيْهِمْ ، قُلْنَا : الْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ : الْأَوَّلُ : إِنَّ الْأَمْرَ وَإِنْ كَانَ عَلَى مَا ذَكَرْتَ وَلَكِنَّ عِلْمَهُمْ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَهُمْ كَعِلْمِهِمْ بِأَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ مَنْ قَبْلَهُمْ لِأَنَّ طَرِيقَةَ الْعِلْمِ بِذَلِكَ وَاحِدَةٌ .
الثَّانِي : أَنَّ مَنْ قَبْلَهُمْ كَالْأُصُولِ لَهُمْ ، وَخَلْقُ الْأُصُولِ يَجْرِي مَجْرَى الْإِنْعَامِ عَلَى الْفُرُوعِ ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى يُذَكِّرُهُمْ عَظِيمَ إِنْعَامِهِ عَلَيْهِمْ ، كَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ : لَا تَظُنَّ أَنِّي إِنَّمَا أَنْعَمْتُ عَلَيْكَ حِينَ وُجِدْتَ بَلْ كُنْتُ مُنْعِمًا عَلَيْكَ قَبْلَ أَنْ وُجِدْتَ بِأُلُوفِ سِنِينَ بِسَبَبِ أَنِّي كُنْتُ خَالِقًا لِأُصُولِكَ وَآبَائِكَ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=21لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) بَحْثَانِ :
الْبَحْثُ الْأَوَّلُ : أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=34077_28914كَلِمَةَ (لَعَلَّ) لِلتَّرَجِّي وَالْإِشْفَاقِ ، تَقُولُ : لَعَلَّ زَيْدًا يُكْرِمُنِي ، وَقَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=44لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ) [ طَهَ : 44 ] ، (
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=17لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ ) [ الشُّورَى : 17 ] ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=18وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا ) [ الشُّورَى : 18 ] ، وَالتَّرَجِّي وَالْإِشْفَاقُ لَا يَحْصُلَانِ إِلَّا عِنْدَ الْجَهْلِ بِالْعَاقِبَةِ ، وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى مُحَالٌ ، فَلَا بُدَّ فِيهِ مِنَ التَّأْوِيلِ وَهُوَ مِنْ وُجُوهٍ :
أَحَدُهَا : أَنَّ مَعْنَى " لَعَلَّ " رَاجِعٌ إِلَى الْعِبَادِ لَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى ، فَقَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=44لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ) [ طَهَ : 44 ] أَيِ اذْهَبَا أَنْتُمَا عَلَى رَجَائِكُمَا وَطَمَعِكُمَا فِي إِيمَانِهِ ، ثُمَّ اللَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِمَا يَؤُولُ إِلَيْهِ أَمْرُهُ .
وَثَانِيهَا : أَنَّ مِنْ عَادَةِ الْمُلُوكِ وَالْعُظَمَاءِ أَنْ يَقْتَصِرُوا فِي مَوَاعِيدِهِمُ الَّتِي يُوَطِّنُونَ أَنْفُسَهُمْ عَلَى إِنْجَازِهَا عَلَى أَنْ يَقُولُوا : لَعَلَّ وَعَسَى ، وَنَحْوَهُمَا مِنَ الْكَلِمَاتِ ، أَوْ لِلظَّفَرِ مِنْهُمْ بِالرَّمْزَةِ أَوِ الِابْتِسَامَةِ أَوِ النَّظْرَةِ الْحُلْوَةِ ، فَإِذَا عُثِرَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَبْقَ لِلطَّالِبِ شَكٌّ فِي الْفَوْزِ بِالْمَطْلُوبِ ، فَعَلَى هَذَا الطَّرِيقِ وَرَدَ لَفْظُ (لَعَلَّ) فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى .
وَثَالِثُهَا : مَا قِيلَ أَنَّ (لَعَلَّ) بِمَعْنَى (كَيْ) قَالَ صَاحِبُ " الْكَشَّافِ " : وَ (لَعَلَّ) لَا يَكُونُ بِمَعْنَى (كَيْ) وَلَكِنَّ كَلِمَةَ (لَعَلَّ) لِلْإِطْمَاعِ ، وَالْكَرِيمُ الرَّحِيمُ إِذَا أَطْمَعَ فَعَلَى مَا يُطْمَعُ فِيهِ لَا مَحَالَةَ ، تَجْرِي أَطْمَاعُهُ مَجْرَى وَعْدِهِ الْمَحْتُومِ ، فَلِهَذَا السَّبَبِ قِيلَ : (لَعَلَّ) فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى بِمَعْنَى (كَيْ) . وَرَابِعُهَا : أَنَّهُ تَعَالَى فَعَلَ بِالْمُكَلَّفِينَ مَا لَوْ فَعَلَهُ غَيْرُهُ لَاقْتَضَى رَجَاءَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَعْطَاهُمُ الْقُدْرَةَ عَلَى الْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَخَلَقَ لَهُمُ الْعُقُولَ الْهَادِيَةَ وَأَزَاحَ أَعْذَارَهُمْ ، فَكُلُّ مَنْ فَعَلَ بِغَيْرِهِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَرْجُو مِنْهُ حُصُولَ الْمَقْصُودِ ، فَالْمُرَادُ مِنْ لَفْظَةِ (لَعَلَّ) فِعْلُ مَا لَوْ فَعَلَهُ غَيْرُهُ لَكَانَ مُوجِبًا لِلرَّجَاءِ .
خَامِسُهَا : قَالَ الْقَفَّالُ : (لَعَلَّ) مَأْخُوذٌ مِنْ تَكَرُّرِ الشَّيْءِ كَقَوْلِهِمْ : عَلَلًا بَعْدَ نَهَلٍ ، وَاللَّامُ فِيهَا هِيَ لَامُ التَّأْكِيدِ كَاللَّامِ الَّتِي تَدْخُلُ فِي (لَقَدْ) فَأَصْلُ (لَعَلَّ) عَلَّ ؛ لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ : عَلَّكَ أَنْ تَفْعَلَ كَذَا ، أَيْ لَعَلَّكَ ، فَإِذَا كَانَتْ حَقِيقَتُهُ التَّكْرِيرَ وَالتَّأْكِيدَ كَانَ قَوْلُ الْقَائِلِ : افْعَلْ كَذَا لَعَلَّكَ تَظْفَرُ بِحَاجَتِكَ ، مَعْنَاهُ افْعَلْهُ فَإِنَّ فِعْلَكَ لَهُ يُؤَكِّدُ طَلَبَكَ لَهُ وَيُقَوِّيكَ عَلَيْهِ .
الْبَحْثُ الثَّانِي : أَنَّ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : إِذَا كَانَتِ الْعِبَادَةُ تَقْوًى فَقَوْلُهُ : ( اعْبُدُوا رَبَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) جَارٍ مَجْرَى قَوْلِهِ : اعْبُدُوا رَبَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَعْبُدُونَ . أَوِ : اتَّقَوْا رَبَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ، وَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ : الْأَوَّلُ :
[ ص: 93 ] لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْعِبَادَةَ نَفْسُ التَّقْوَى ، بَلِ
nindex.php?page=treesubj&link=28345الْعِبَادَةُ فِعْلٌ يَحْصُلُ بِهِ التَّقْوَى ؛ لِأَنَّ الِاتِّقَاءَ هُوَ الِاحْتِرَازُ عَنِ الْمَضَارِّ ، وَالْعِبَادَةُ فِعْلُ الْمَأْمُورِ بِهِ ، وَنَفْسُ هَذَا الْفِعْلِ لَيْسَ هُوَ نَفْسُ الِاحْتِرَازِ عَنِ الْمَضَارِّ بَلْ يُوجِبُ الِاحْتِرَازَ ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ : اعْبُدُوا رَبَّكُمْ لِتَحْتَرِزُوا بِهِ عَنْ عِقَابِهِ ، وَإِذَا قِيلَ فِي نَفْسِ الْفِعْلِ : إِنَّهُ اتِّقَاءٌ ؛ فَذَلِكَ مَجَازٌ ؛ لِأَنَّ الِاتِّقَاءَ غَيْرُ مَا يَحْصُلُ بِهِ الِاتِّقَاءُ ، لَكِنْ لِاتِّصَالِ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ بِالْآخَرِ أُجْرِيَ اسْمُهُ عَلَيْهِ . الثَّانِي : أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا خَلَقَ الْمُكَلَّفِينَ لِكَيْ يَتَّقُوا وَيُطِيعُوا عَلَى مَا قَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=51&ayano=56وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ) [ الذَّارِيَاتِ : 56 ] ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ بِعِبَادَةِ الرَّبِّ الَّذِي خَلَقَهُمْ لِهَذَا الْغَرَضِ ، وَهَذَا التَّأْوِيلُ لَائِقٌ بِأُصُولِ
الْمُعْتَزِلَةِ .