المسألة التاسعة : قال القاضي : هذا التحدي يبطل
القول بالجبر من وجوه :
أحدها : أنه مبني على تعذر مثله ممن يصح الفعل منه ، فمن ينفي كون العبد فاعلا لم يمكنه إثبات التحدي أصلا ، وفي هذا إبطال الاستدلال بالمعجز .
وثانيها : أن تعذره على قولهم يكون لفقد القدرة الموجبة ويستوي في ذلك ما يكون معجزا وما لا يكون ، فلا يصح معنى التحدي على قولهم .
[ ص: 111 ]
وثالثها : أن ما يضاف إلى العبد فالله تعالى هو الخالق له ، فتحديه تعالى لهم يعود في التحقيق إلى أنه متحد لنفسه وهو قادر على مثله من غير شك فيجب أن لا يثبت الإعجاز على هذا القول .
ورابعها : أن المعجز إنما يدل بما فيه من نقض العادة ، فإذا كان قولهم : إن المعتاد أيضا ليس بفعل ، لم يثبت هذا الفرق فلا يصح الاستدلال بالمعجز .
وخامسها : أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - يحتج بأنه تعالى خصه بذلك تصديقا له فيما ادعاه ، ولو لم يكن ذلك من قبله تعالى لم يكن داخلا في الإعجاز . وعلى قولهم بالجبر لا يصح هذا الفرق ؛ لأن المعتاد وغير المعتاد لا يكون إلا من قبله .
والجواب : أن المطلوب من التحدي إما أن يأتي الخصم بالمتحدى به قصدا أو أن يقع ذلك منه اتفاقا ، والثاني باطل ؛ لأن الاتفاقيات لا تكون في وسعه ، فثبت الأول وإذا كان كذلك ثبت أن إتيانه بالتحدي موقوف على أن يحصل في قلبه قصد إليه ، فذلك القصد إن كان منه لزم التسلسل وهو محال ، وإن كان من الله تعالى فحينئذ يعود الجبر ويلزمه كل ما أورده علينا فيبطل كل ما قال .
أما قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=24فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا ) فاعلم أن هذه الآية دالة على المعجز من وجوه أربعة :
أحدها : أنا نعلم بالتواتر أن العرب كانوا في غاية العداوة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفي غاية الحرص على إبطال أمره ؛ لأن مفارقة الأوطان والعشيرة وبذل النفوس والمهج من أقوى ما يدل على ذلك ، فإذا انضاف إليه مثل هذا التقريع وهو قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=24فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا ) فلو كان في وسعهم وإمكانهم الإتيان بمثل القرآن أو بمثل سورة منه لأتوا به ، فحيث ما أتوا به ظهر المعجز .
وثانيها : وهو أنه - عليه السلام - وإن كان متهما عندهم فيما يتصل بالنبوة فقد كان معلوم الحال في وفور العقل والفضل والمعرفة بالعواقب ، فلو تطرقت التهمة إلى ما ادعاه من النبوة لما استجاز أن يتحداهم ويبلغ في التحدي إلى نهايته ، بل كان يكون وجلا خائفا مما يتوقعه من فضيحة يعود وبالها على جميع أموره ، حاشاه من ذلك - صلى الله عليه وسلم - فلولا معرفته بالاضطرار من حالهم أنهم عاجزون عن المعارضة لما جوز من نفسه أن يحملهم على المعارضة بأبلغ الطرق .
وثالثها : أنه - عليه السلام - لو لم يكن قاطعا بصحة نبوته لما قطع في الخبر بأنهم لا يأتون بمثله ؛ لأنه إذا لم يكن قاطعا بصحة نبوته كان يجوز خلافه ، وبتقدير وقوع خلافه يظهر كذبه ، فالمبطل المزور البتة لا يقطع في الكلام ولا يجزم به ، فلما جزم دل على أنه - عليه الصلاة والسلام - كان قاطعا في أمره .
ورابعها : أنه وجد مخبر هذا الخبر على ذلك الوجه ؛ لأن من أيامه - عليه الصلاة والسلام - إلى عصرنا هذا لم يخل وقت من الأوقات ممن يعادي الدين والإسلام وتشتد دواعيه في الوقيعة فيه . ثم إنه مع هذا الحرص الشديد لم توجد المعارضة قط .
فهذه الوجوه الأربعة في الدلالة على المعجز مما تشتمل عليها هذه الآية ، وذلك يدل على فساد قول الجهال الذين يقولون : إن كتاب الله لا يشتمل على الحجة والاستدلال .
وههنا سؤالات :
السؤال الأول :
nindex.php?page=treesubj&link=34077_28973انتفاء إتيانهم بالسورة واجب ، فهلا جيء بإذا الذي للوجوب دون " إن " الذي للشك ؟
الجواب : فيه وجهان : أحدهما : أن يساق القول معهم على حسب حسبانهم ، فإنهم كانوا بعد غير جازمين
[ ص: 112 ] بالعجز عن المعارضة لاتكالهم على فصاحتهم واقتدارهم على الكلام .
الثاني : أن يتهكم بهم كما يقول الموصوف بالقوة الواثق من نفسه بالغلبة على من يقاومه : إن غلبتك ، وهو يعلم أنه غالبه ؛ تهكما به .
السؤال الثاني :
nindex.php?page=treesubj&link=34077_28973لم قال : ( nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=24فإن لم تفعلوا ) ولم يقل : فإن لم تأتوا به ؟
الجواب : لأن هذا أخصر من أن يقال : فإن لم تأتوا بسورة من مثله ولن تأتوا بسورة من مثله .
السؤال الثالث : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=24ولن تفعلوا ) ما محلها ؟
الجواب لا محل لها لأنها جملة اعتراضية .
السؤال الرابع : ما حقيقة (لن) في باب النفي ؟
الجواب : لا ولن أختان في نفي المستقبل إلا أن في " لن " توكيدا وتشديدا ، تقول لصاحبك : لا أقيم غدا عندك ، فإن أنكر عليك قلت : لن أقيم غدا . ثم فيه ثلاثة أقوال :
أحدها : أصله لا أن ، وهو قول الخليل .
وثانيها : لا ، أبدلت ألفها نونا ، وهو قول الفراء .
وثالثها : حرف نصب لتأكيد نفي المستقبل وهو قول
nindex.php?page=showalam&ids=16076سيبويه ، وإحدى الروايتين عن
الخليل .
السؤال الخامس :
nindex.php?page=treesubj&link=34077_28914_28973ما معنى اشتراطه في اتقاء النار انتفاء إتيانهم بسورة من مثله ؟
الجواب : إذا ظهر عجزهم عن المعارضة صح عندهم صدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وإذا صح ذلك ثم لزموا العناد استوجبوا العقاب بالنار ، فاتقاء النار يوجب ترك العناد ، فأقيم المؤثر مقام الأثر ، وجعل قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=24فاتقوا النار ) قائما مقام قوله : فاتركوا العناد ، وهذا هو الإيجاز الذي هو أحد أبواب البلاغة ، وفيه تهويل لشأن العناد ؛ لإنابة اتقاء النار منابه متبعا ذلك بتهويل صفة النار .
السؤال السادس : ما الوقود ؟
الجواب : هو ما يوقد به النار ، وأما المصدر فمضموم وقد جاء فيه الفتح ، قال
nindex.php?page=showalam&ids=16076سيبويه : وسمعنا من العرب من يقول : وقدنا النار وقودا عاليا ، ثم قال : والوقود أكثر ، والوقود : الحطب ، وقرأ
عيسى بن عمر بالضم تسمية بالمصدر ، كما يقال : فلان فخر قومه وزين بلده .
السؤال السابع : صلة " الذي " يجب أن تكون قضية معلومة فكيف علم أولئك أن نار الآخرة توقد بالناس والحجارة ؟
الجواب : لا يمنع أن يتقدم لهم بذلك سماع من أهل الكتاب ، أو سمعوه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو سمعوا من قبل هذه الآية قوله في سورة التحريم : (
nindex.php?page=tafseer&surano=66&ayano=6نارا وقودها الناس والحجارة ) .
السؤال الثامن : فلم جاءت النار الموصوفة بهذه الجملة منكرة في سورة التحريم وههنا معرفة ؟
الجواب : تلك الآية نزلت
بمكة فعرفوا منها نارا موصوفة بهذه الصفة ثم نزلت هذه
بالمدينة مستندة إلى ما عرفوه أولا .
السؤال التاسع : ما
معنى قوله : ( nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=24وقودها الناس والحجارة )
الجواب : أنها نار ممتازة من النيران بأنها لا تتقد إلا بالناس والحجارة ، وذلك يدل على قوتها من وجهين : الأول : أن سائر النيران إذا أريد إحراق الناس بها أو إحماء الحجارة أوقدت أولا بوقود ثم طرح فيها ما يراد إحراقه أو إحماؤه ، وتلك - أعاذنا الله منها برحمته الواسعة - توقد بنفس ما تحرق . الثاني : أنها لإفراط حرها تتقد في الحجر .
السؤال العاشر :
nindex.php?page=treesubj&link=30437_34077_30434لم قرن الناس بالحجارة وجعلت الحجارة معهم وقودا ؟
الجواب : لأنهم قرنوا بها أنفسهم في الدنيا حيث نحتوها أصناما وجعلوها لله أندادا وعبدوها من دونه ، قال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=98إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم ) [ الأنبياء : 98 ] ، وهذه الآية مفسرة لها ، فقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=98إنكم وما تعبدون من دون الله ) [ الأنبياء : 98 ] ،
[ ص: 113 ] في معنى الناس والحجارة ، وحصب جهنم في معنى وقودها ، ولما اعتقد الكفار في حجارتهم المعبودة من دون الله أنها الشفعاء والشهداء الذين يستشفعون بهم ويستدفعون المضار عن أنفسهم تمسكا بهم ، جعلها الله عذابهم فقرنهم بها محماة في نار جهنم إبلاغا وإغرابا في تحسرهم ، ونحوه ما يفعله بالكافرين الذين جعلوا ذهبهم وفضتهم عدة وذخيرة فشحوا بها ومنعوها من الحقوق حيث يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم .
وقيل : هي حجارة الكبريت ، وهو تخصيص بغير دليل ، بل فيه ما يدل على فساده ، وذلك لأن الغرض ههنا تعظيم صفة هذه النار ، والإيقاد بحجارة الكبريت أمر معتاد فلا يدل الإيقاد بها على قوة النار ، أما لو حملناه على سائر الأحجار دل ذلك على عظم أمر النار فإن سائر الأحجار تطفأ بها النيران ، فكأنه قال : تلك النيران بلغت لقوتها أن تتعلق في أول أمرها بالحجارة التي هي مطفئة لنيران الدنيا . أما قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=24أعدت للكافرين ) فإنه يدل على أن هذه النار الموصوفة معدة للكافرين ، وليس فيه ما يدل على أن هناك نيرانا أخرى غير موصوفة بهذه الصفات معدة لفساق أهل الصلاة .
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ : قَالَ الْقَاضِي : هَذَا التَّحَدِّي يُبْطِلُ
الْقَوْلَ بِالْجَبْرِ مِنْ وُجُوهٍ :
أَحَدُهَا : أَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى تَعَذُّرِ مِثْلِهِ مِمَّنْ يَصِحُّ الْفِعْلُ مِنْهُ ، فَمَنْ يَنْفِي كَوْنَ الْعَبْدِ فَاعِلًا لَمْ يُمْكِنْهُ إِثْبَاتُ التَّحَدِّي أَصْلًا ، وَفِي هَذَا إِبْطَالُ الِاسْتِدْلَالِ بِالْمُعْجِزِ .
وَثَانِيهَا : أَنَّ تَعَذُّرَهُ عَلَى قَوْلِهِمْ يَكُونُ لِفَقْدِ الْقُدْرَةِ الْمُوجِبَةِ وَيَسْتَوِي فِي ذَلِكَ مَا يَكُونُ مُعْجِزًا وَمَا لَا يَكُونُ ، فَلَا يَصِحُّ مَعْنَى التَّحَدِّي عَلَى قَوْلِهِمْ .
[ ص: 111 ]
وَثَالِثُهَا : أَنَّ مَا يُضَافُ إِلَى الْعَبْدِ فَاللَّهُ تَعَالَى هُوَ الْخَالِقُ لَهُ ، فَتَحَدِّيهِ تَعَالَى لَهُمْ يَعُودُ فِي التَّحْقِيقِ إِلَى أَنَّهُ مُتَحَدٍّ لِنَفْسِهِ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى مِثْلِهِ مِنْ غَيْرِ شَكٍّ فَيَجِبُ أَنْ لَا يَثْبُتَ الْإِعْجَازُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ .
وَرَابِعُهَا : أَنَّ الْمُعْجِزَ إِنَّمَا يَدُلُّ بِمَا فِيهِ مِنْ نَقْضِ الْعَادَةِ ، فَإِذَا كَانَ قَوْلُهُمْ : إِنَّ الْمُعْتَادَ أَيْضًا لَيْسَ بِفِعْلٍ ، لَمْ يَثْبُتْ هَذَا الْفَرْقُ فَلَا يَصِحُّ الِاسْتِدْلَالُ بِالْمُعْجِزِ .
وَخَامِسُهَا : أَنَّ الرَّسُولَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَحْتَجُّ بِأَنَّهُ تَعَالَى خَصَّهُ بِذَلِكَ تَصْدِيقًا لَهُ فِيمَا ادَّعَاهُ ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْ قِبَلِهِ تَعَالَى لَمْ يَكُنْ دَاخِلًا فِي الْإِعْجَازِ . وَعَلَى قَوْلِهِمْ بِالْجَبْرِ لَا يَصِحُّ هَذَا الْفَرْقُ ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَادَ وَغَيْرَ الْمُعْتَادِ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ قِبَلِهِ .
وَالْجَوَابُ : أَنَّ الْمَطْلُوبَ مِنَ التَّحَدِّي إِمَّا أَنْ يَأْتِيَ الْخَصْمُ بِالْمُتَحَدَّى بِهِ قَصْدًا أَوْ أَنْ يَقَعَ ذَلِكَ مِنْهُ اتِّفَاقًا ، وَالثَّانِي بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّ الِاتِّفَاقِيَّاتِ لَا تَكُونُ فِي وُسْعِهِ ، فَثَبَتَ الْأَوَّلُ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ ثَبَتَ أَنَّ إِتْيَانَهُ بِالتَّحَدِّي مَوْقُوفٌ عَلَى أَنْ يَحْصُلَ فِي قَلْبِهِ قَصْدٌ إِلَيْهِ ، فَذَلِكَ الْقَصْدُ إِنْ كَانَ مِنْهُ لَزِمَ التَّسَلْسُلُ وَهُوَ مُحَالٌ ، وَإِنْ كَانَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى فَحِينَئِذٍ يَعُودُ الْجَبْرُ وَيَلْزَمُهُ كُلُّ مَا أَوْرَدَهُ عَلَيْنَا فَيَبْطُلُ كُلُّ مَا قَالَ .
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=24فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا ) فَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ دَالَّةٌ عَلَى الْمُعْجِزِ مِنْ وُجُوهٍ أَرْبَعَةٍ :
أَحَدُهَا : أَنَّا نَعْلَمُ بِالتَّوَاتُرِ أَنَّ الْعَرَبَ كَانُوا فِي غَايَةِ الْعَدَاوَةِ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِي غَايَةِ الْحِرْصِ عَلَى إِبْطَالِ أَمْرِهِ ؛ لِأَنَّ مُفَارَقَةَ الْأَوْطَانِ وَالْعَشِيرَةِ وَبَذْلَ النُّفُوسِ وَالْمُهَجِ مِنْ أَقْوَى مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ ، فَإِذَا انْضَافَ إِلَيْهِ مِثْلُ هَذَا التَّقْرِيعِ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=24فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا ) فَلَوْ كَانَ فِي وُسْعِهِمْ وَإِمْكَانِهِمِ الْإِتْيَانُ بِمِثْلِ الْقُرْآنِ أَوْ بِمِثْلِ سُورَةٍ مِنْهُ لَأَتَوْا بِهِ ، فَحَيْثُ مَا أَتَوْا بِهِ ظَهَرَ الْمُعْجِزُ .
وَثَانِيهَا : وَهُوَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَإِنْ كَانَ مُتَّهَمًا عِنْدَهُمْ فِيمَا يَتَّصِلُ بِالنُّبُوَّةِ فَقَدْ كَانَ مَعْلُومَ الْحَالِ فِي وُفُورِ الْعَقْلِ وَالْفَضْلِ وَالْمَعْرِفَةِ بِالْعَوَاقِبِ ، فَلَوْ تَطَرَّقَتِ التُّهْمَةُ إِلَى مَا ادَّعَاهُ مِنَ النُّبُوَّةِ لَمَا اسْتَجَازَ أَنْ يَتَحَدَّاهُمْ وَيَبْلُغَ فِي التَّحَدِّي إِلَى نِهَايَتِهِ ، بَلْ كَانَ يَكُونُ وَجِلًا خَائِفًا مِمَّا يَتَوَقَّعُهُ مِنْ فَضِيحَةٍ يَعُودُ وَبَالُهَا عَلَى جَمِيعِ أُمُورِهِ ، حَاشَاهُ مِنْ ذَلِكَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَوْلَا مَعْرِفَتُهُ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ حَالِهِمْ أَنَّهُمْ عَاجِزُونَ عَنِ الْمُعَارَضَةِ لَمَا جَوَّزَ مِنْ نَفْسِهِ أَنْ يَحْمِلَهُمْ عَلَى الْمُعَارَضَةِ بِأَبْلَغِ الطُّرُقِ .
وَثَالِثُهَا : أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَوْ لَمْ يَكُنْ قَاطِعًا بِصِحَّةِ نُبُوَّتِهِ لَمَا قَطَعَ فِي الْخَبَرِ بِأَنَّهُمْ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ ؛ لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ قَاطِعًا بِصِحَّةِ نُبُوَّتِهِ كَانَ يَجُوزُ خِلَافُهُ ، وَبِتَقْدِيرِ وُقُوعِ خِلَافِهِ يَظْهَرُ كَذِبُهُ ، فَالْمُبْطِلُ الْمُزَوِّرُ الْبَتَّةَ لَا يَقْطَعُ فِي الْكَلَامِ وَلَا يَجْزِمُ بِهِ ، فَلَمَّا جَزَمَ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَانَ قَاطِعًا فِي أَمْرِهِ .
وَرَابِعُهَا : أَنَّهُ وُجِدَ مُخْبَرُ هَذَا الْخَبَرِ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ ؛ لِأَنَّ مِنْ أَيَّامِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إِلَى عَصْرِنَا هَذَا لَمْ يَخْلُ وَقْتٌ مِنَ الْأَوْقَاتِ مِمَّنْ يُعَادِي الدِّينَ وَالْإِسْلَامَ وَتَشْتَدُّ دَوَاعِيهِ فِي الْوَقِيعَةِ فِيهِ . ثُمَّ إِنَّهُ مَعَ هَذَا الْحِرْصِ الشَّدِيدِ لَمْ تُوجَدِ الْمُعَارَضَةُ قَطُّ .
فَهَذِهِ الْوُجُوهُ الْأَرْبَعَةُ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الْمُعْجِزِ مِمَّا تَشْتَمِلُ عَلَيْهَا هَذِهِ الْآيَةُ ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ الْجُهَّالِ الَّذِينَ يَقُولُونَ : إِنَّ كِتَابَ اللَّهِ لَا يَشْتَمِلُ عَلَى الْحُجَّةِ وَالِاسْتِدْلَالِ .
وَهَهُنَا سُؤَالَاتٌ :
السُّؤَالُ الْأَوَّلُ :
nindex.php?page=treesubj&link=34077_28973انْتِفَاءُ إِتْيَانِهِمْ بِالسُّورَةِ وَاجِبٌ ، فَهَلَّا جِيءَ بِإِذَا الَّذِي لِلْوُجُوبِ دُونَ " إِنْ " الَّذِي لِلشَّكِّ ؟
الْجَوَابُ : فِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يُسَاقَ الْقَوْلُ مَعَهُمْ عَلَى حَسَبِ حُسْبَانِهِمْ ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا بَعْدُ غَيْرَ جَازِمِينَ
[ ص: 112 ] بِالْعَجْزِ عَنِ الْمُعَارَضَةِ لِاتِّكَالِهِمْ عَلَى فَصَاحَتِهِمْ وَاقْتِدَارِهِمْ عَلَى الْكَلَامِ .
الثَّانِي : أَنْ يَتَهَكَّمَ بِهِمْ كَمَا يَقُولُ الْمَوْصُوفُ بِالْقُوَّةِ الْوَاثِقُ مِنْ نَفْسِهِ بِالْغَلَبَةِ عَلَى مَنْ يُقَاوِمُهُ : إِنْ غَلَبْتُكَ ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ غَالِبُهُ ؛ تَهَكُّمًا بِهِ .
السُّؤَالُ الثَّانِي :
nindex.php?page=treesubj&link=34077_28973لِمَ قَالَ : ( nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=24فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا ) وَلَمْ يَقُلْ : فَإِنْ لَمْ تَأْتُوا بِهِ ؟
الْجَوَابُ : لِأَنَّ هَذَا أَخْصَرُ مِنْ أَنْ يُقَالَ : فَإِنْ لَمْ تَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَلَنْ تَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ .
السُّؤَالُ الثَّالِثُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=24وَلَنْ تَفْعَلُوا ) مَا مَحَلُّهَا ؟
الْجَوَابُ لَا مَحَلَّ لَهَا لِأَنَّهَا جُمْلَةٌ اعْتِرَاضِيَّةٌ .
السُّؤَالُ الرَّابِعُ : مَا حَقِيقَةُ (لَنْ) فِي بَابِ النَّفْيِ ؟
الْجَوَابُ : لَا وَلَنْ أُخْتَانَ فِي نَفْيِ الْمُسْتَقْبَلِ إِلَّا أَنَّ فِي " لَنْ " تَوْكِيدًا وَتَشْدِيدًا ، تَقُولُ لِصَاحِبِكَ : لَا أُقِيمُ غَدًا عِنْدَكَ ، فَإِنْ أَنْكَرَ عَلَيْكَ قُلْتَ : لَنْ أُقِيمَ غَدًا . ثُمَّ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ :
أَحَدُهَا : أَصْلُهُ لَا أَنْ ، وَهُوَ قَوْلُ الْخَلِيلِ .
وَثَانِيهَا : لَا ، أُبْدِلَتْ أَلِفُهَا نُونًا ، وَهُوَ قَوْلُ الْفَرَّاءِ .
وَثَالِثُهَا : حَرْفُ نَصْبٍ لِتَأْكِيدِ نَفْيِ الْمُسْتَقْبَلِ وَهُوَ قَوْلُ
nindex.php?page=showalam&ids=16076سِيبَوَيْهِ ، وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنِ
الْخَلِيلِ .
السُّؤَالُ الْخَامِسُ :
nindex.php?page=treesubj&link=34077_28914_28973مَا مَعْنَى اشْتِرَاطِهِ فِي اتِّقَاءِ النَّارِ انْتِفَاءُ إِتْيَانِهِمْ بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ ؟
الْجَوَابُ : إِذَا ظَهَرَ عَجْزُهُمْ عَنِ الْمُعَارَضَةِ صَحَّ عِنْدَهُمْ صِدْقُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، وَإِذَا صَحَّ ذَلِكَ ثُمَّ لَزِمُوا الْعِنَادَ اسْتَوْجَبُوا الْعِقَابَ بِالنَّارِ ، فَاتِّقَاءُ النَّارِ يُوجِبُ تَرْكَ الْعِنَادِ ، فَأُقِيمَ الْمُؤَثِّرُ مَقَامَ الْأَثَرِ ، وَجُعِلَ قَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=24فَاتَّقُوا النَّارَ ) قَائِمًا مَقَامَ قَوْلِهِ : فَاتْرُكُوا الْعِنَادَ ، وَهَذَا هُوَ الْإِيجَازُ الَّذِي هُوَ أَحَدُ أَبْوَابِ الْبَلَاغَةِ ، وَفِيهِ تَهْوِيلٌ لِشَأْنِ الْعِنَادِ ؛ لِإِنَابَةِ اتِّقَاءِ النَّارِ مَنَابَهُ مُتْبِعًا ذَلِكَ بِتَهْوِيلِ صِفَةِ النَّارِ .
السُّؤَالُ السَّادِسُ : مَا الْوَقُودُ ؟
الْجَوَابُ : هُوَ مَا يُوقَدُ بِهِ النَّارُ ، وَأَمَّا الْمَصْدَرُ فَمَضْمُومٌ وَقَدْ جَاءَ فِيهِ الْفَتْحُ ، قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=16076سِيبَوَيْهِ : وَسَمِعْنَا مِنَ الْعَرَبِ مَنْ يَقُولُ : وَقَدْنَا النَّارَ وَقُودًا عَالِيًا ، ثُمَّ قَالَ : وَالْوَقُودُ أَكْثَرُ ، وَالْوَقُودُ : الْحَطَبُ ، وَقَرَأَ
عِيسَى بْنُ عُمَرَ بِالضَّمِّ تَسْمِيَةً بِالْمَصْدَرِ ، كَمَا يُقَالُ : فُلَانٌ فَخَرُ قَوْمِهِ وَزَيْنُ بَلَدِهِ .
السُّؤَالُ السَّابِعُ : صِلَةُ " الَّذِي " يَجِبُ أَنْ تَكُونَ قَضِيَّةً مَعْلُومَةً فَكَيْفَ عَلِمَ أُولَئِكَ أَنَّ نَارَ الْآخِرَةِ تُوقَدُ بِالنَّاسِ وَالْحِجَارَةِ ؟
الْجَوَابُ : لَا يَمْنَعُ أَنْ يَتَقَدَّمَ لَهُمْ بِذَلِكَ سَمَاعٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ، أَوْ سَمِعُوهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ سَمِعُوا مِنْ قَبْلِ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلَهُ فِي سُورَةِ التَّحْرِيمِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=66&ayano=6نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ ) .
السُّؤَالُ الثَّامِنُ : فَلِمَ جَاءَتِ النَّارُ الْمَوْصُوفَةُ بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ مُنَكَّرَةً فِي سُورَةِ التَّحْرِيمِ وَهَهُنَا مُعَرَّفَةً ؟
الْجَوَابُ : تِلْكَ الْآيَةُ نَزَلَتْ
بِمَكَّةَ فَعَرَفُوا مِنْهَا نَارًا مَوْصُوفَةً بِهَذِهِ الصِّفَةِ ثُمَّ نَزَلَتْ هَذِهِ
بِالْمَدِينَةِ مُسْتَنِدَةً إِلَى مَا عَرَفُوهُ أَوَّلًا .
السُّؤَالُ التَّاسِعُ : مَا
مَعْنَى قَوْلِهِ : ( nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=24وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ )
الْجَوَابُ : أَنَّهَا نَارٌ مُمْتَازَةٌ مِنَ النِّيرَانِ بِأَنَّهَا لَا تَتَّقِدُ إِلَّا بِالنَّاسِ وَالْحِجَارَةِ ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى قُوَّتِهَا مِنْ وَجْهَيْنِ : الْأَوَّلُ : أَنَّ سَائِرَ النِّيرَانِ إِذَا أُرِيدَ إِحْرَاقُ النَّاسِ بِهَا أَوْ إِحْمَاءُ الْحِجَارَةِ أُوقِدَتْ أَوَّلًا بِوَقُودٍ ثُمَّ طُرِحَ فِيهَا مَا يُرَادُ إِحْرَاقُهُ أَوْ إِحْمَاؤُهُ ، وَتِلْكَ - أَعَاذَنَا اللَّهُ مِنْهَا بِرَحْمَتِهِ الْوَاسِعَةِ - تُوقَدُ بِنَفْسِ مَا تَحْرِقُ . الثَّانِي : أَنَّهَا لِإِفْرَاطِ حَرِّهَا تَتَّقِدُ فِي الْحَجَرِ .
السُّؤَالُ الْعَاشِرُ :
nindex.php?page=treesubj&link=30437_34077_30434لِمَ قُرِنَ النَّاسُ بِالْحِجَارَةِ وَجُعِلَتِ الْحِجَارَةُ مَعَهُمْ وَقُودًا ؟
الْجَوَابُ : لِأَنَّهُمْ قَرَنُوا بِهَا أَنْفُسَهُمْ فِي الدُّنْيَا حَيْثُ نَحَتُوهَا أَصْنَامًا وَجَعَلُوهَا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَعَبَدُوهَا مِنْ دُونِهِ ، قَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=98إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ ) [ الْأَنْبِيَاءِ : 98 ] ، وَهَذِهِ الْآيَةُ مُفَسِّرَةٌ لَهَا ، فَقَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=98إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ) [ الْأَنْبِيَاءِ : 98 ] ،
[ ص: 113 ] فِي مَعْنَى النَّاسِ وَالْحِجَارَةِ ، وَحَصَبُ جَهَنَّمَ فِي مَعْنَى وَقُودِهَا ، وَلَمَّا اعْتَقَدَ الْكُفَّارُ فِي حِجَارَتِهِمُ الْمَعْبُودَةِ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنَّهَا الشُّفَعَاءُ وَالشُّهَدَاءُ الَّذِينَ يَسْتَشْفِعُونَ بِهِمْ وَيَسْتَدْفِعُونَ الْمَضَارَّ عَنْ أَنْفُسِهِمْ تَمَسُّكًا بِهِمْ ، جَعَلَهَا اللَّهُ عَذَابَهُمْ فَقَرَنَهُمْ بِهَا مُحْمَاةً فِي نَارِ جَهَنَّمَ إِبْلَاغًا وَإِغْرَابًا فِي تَحَسُّرِهِمْ ، وَنَحْوُهُ مَا يَفْعَلُهُ بِالْكَافِرِينَ الَّذِينَ جَعَلُوا ذَهَبَهُمْ وَفِضَّتَهُمْ عُدَّةً وَذَخِيرَةً فَشَحُّوا بِهَا وَمَنَعُوهَا مِنَ الْحُقُوقِ حَيْثُ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ .
وَقِيلَ : هِيَ حِجَارَةُ الْكِبْرِيتِ ، وَهُوَ تَخْصِيصٌ بِغَيْرِ دَلِيلٍ ، بَلْ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى فَسَادِهِ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْغَرَضَ هَهُنَا تَعْظِيمُ صِفَةِ هَذِهِ النَّارِ ، وَالْإِيقَادُ بِحِجَارَةِ الْكِبْرِيتِ أَمْرٌ مُعْتَادٌ فَلَا يَدُلُّ الْإِيقَادُ بِهَا عَلَى قُوَّةِ النَّارِ ، أَمَّا لَوْ حَمَلْنَاهُ عَلَى سَائِرِ الْأَحْجَارِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى عِظَمِ أَمْرِ النَّارِ فَإِنَّ سَائِرَ الْأَحْجَارِ تُطْفَأُ بِهَا النِّيرَانُ ، فَكَأَنَّهُ قَالَ : تِلْكَ النِّيرَانُ بَلَغَتْ لِقُوَّتِهَا أَنْ تَتَعَلَّقَ فِي أَوَّلِ أَمْرِهَا بِالْحِجَارَةِ الَّتِي هِيَ مُطْفِئَةٌ لِنِيرَانِ الدُّنْيَا . أَمَّا قَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=24أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ) فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ النَّارَ الْمَوْصُوفَةَ مُعَدَّةٌ لِلْكَافِرِينَ ، وَلَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هُنَاكَ نِيرَانًا أُخْرَى غَيْرَ مَوْصُوفَةٍ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ مُعَدَّةً لِفُسَّاقِ أَهْلِ الصَّلَاةِ .