الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أن ههنا وجوها أخر من النصوص تدل على فضيلة العلم نسينا إيرادها قبل ذلك فلا بأس أن نذكرها ههنا .

                                                                                                                                                                                                                                            الوجه الأول : أن أول ما نزل قوله تعالى : ( اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم ) [العلق : 1 - 5] فقيل فيه : إنه لا بد من رعاية التناسب بين الآيات فأي مناسبة بين قوله : ( خلق الإنسان من علق ) وبين قوله : ( اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم ) فأجيب عنه بأن وجه المناسبة أنه تعالى ذكر أول حال الإنسان ، وهو كونه علقة مع أنها أخس الأشياء ، وآخر حاله وهي صيرورته عالما وهو أجل المراتب ، كأنه تعالى قال : كنت أنت في أول حالك في تلك الدرجة التي هي غاية الخساسة فصرت في آخر حالك في هذه الدرجة التي هي الغاية في الشرف ، وهذا إنما يتم لو كان العلم أشرف المراتب إذ لو كان غيره أشرف لكان ذكر ذلك الشيء في هذا المقام أولى .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : أنه قال : اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم ) وقد ثبت في أصول الفقه أن ترتيب الحكم على الوصف مشعر بكون الوصف علة ، فهذا يدل على أنه سبحانه وتعالى إنما استحق الوصف بالأكرمية ؛ لأنه أعطى العلم فلولا أن العلم أشرف من غيره وإلا لما كانت إفادته أشرف من إفادة غيره .

                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 172 ] الثالث : قوله سبحانه : ( إنما يخشى الله من عباده العلماء ) وهذه الآية فيها وجوه من الدلائل على فضل العلم .

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : دلالتها على أمم من أهل الجنة ؛ وذلك لأن العلماء من أهل الخشية ، ومن كان من أهل الخشية كان من أهل الجنة ، فالعلماء من أهل الجنة ، فبيان أن العلماء من أهل الخشية قوله تعالى : ( إنما يخشى الله من عباده العلماء ) [فاطر : 28] ، وبيان أن أهل الخشية من أهل الجنة قوله تعالى : ( جزاؤهم عند ربهم جنات عدن تجري من تحتها الأنهار ) [البينة : 8] إلى قوله تعالى : ( ذلك لمن خشي ربه ) [البينة : 8] ، ويدل عليه أيضا قوله تعالى : ( ولمن خاف مقام ربه جنتان ) [الرحمن : 46] ، ويدل عليه أيضا قوله تعالى : " وعزتي وجلالي لا أجمع على عبدي خوفين ولا أجمع له أمنين ، فإذا أمنني في الدنيا أخفته يوم القيامة ، وإذا خافني في الدنيا أمنته يوم القيامة " واعلم أنه يمكن إثبات مقدمتي هذه الدلالة بالعقل ، أما بيان أن العالم بالله يجب أن يخشاه ، فذلك لأن من لم يكن عالما بالشيء استحال أن يكون خائفا منه ، ثم إن العلم بالذات لا يكفي في الخوف ، بل لا بد له من العلم بأمور ثلاثة : منها : العلم بالقدرة ؛ لأن الملك عالم باطلاع رعيته على أفعاله القبيحة ، لكنه لا يخافهم لعلمه بأنهم لا يقدرون على دفعها ، ومنها : العلم بكونه عالما ؛ لأن السارق من مال السلطان يعلم قدرته ، ولكنه يعلم أنه غير عالم بسرقته فلا يخافه ، ومنها العلم بكونه حكيما ، فإن المسخر عند السلطان عالم بكون السلطان قادرا على منعه عالما بقبائح أفعاله ، لكنه يعلم أنه قد يرضى بما لا ينبغي فلا يحصل الخوف ، أما لو علم اطلاع السلطان على قبائح أفعاله وعلم قدرته على منعه وعلم أنه حكيم لا يرضى بشفاهته ؛ صارت هذه العلوم الثلاثة موجبة لحصول الخوف في قلبه ، فثبت أن خوف العبد من الله لا يحصل إلا إذا علم بكونه تعالى عالما بجميع المعلومات ، قادرا على كل المقدورات ، غير راض بالمنكرات والمحرمات ، فثبت أن الخوف من لوازم العلم بالله ، وإنما قلنا : إن الخوف سبب الفوز بالجنة ، وذلك لأنه إذا سنح للعبد لذة عاجلة ، وكانت تلك اللذة على خلاف أمر الله ، وفعل ذلك الشيء يكون مشتملا على منفعة ومضرة ، فصريح العقل حاكم بترجيح الجانب الراجح على الجانب المرجوح ، فإذا علم بنور الإيمان أن اللذة العاجلة حقيرة في مقابلة الألم الآجل ، صار ذلك الإيمان سببا لفراره عن تلك اللذة العاجلة ، وذلك هو الخشية ، وإذا صار تاركا للمحظور فاعلا للواجب كان من أهل الثواب ، فقد ثبت بالشواهد النقلية والعقلية أن العالم بالله خائف ، والخائف من أهل الجنة .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : أن ظاهر الآية يدل على أنه ليس للجنة أهل إلا العلماء ، وذلك لأن كلمة (إنما) للحصر ، فهذا يدل على أن خشية الله لا تحصل إلا للعلماء ، والآية الثانية وهي قوله : ( ذلك لمن خشي ربه ) [البينة : 8] دالة على أن الجنة لأهل الخشية ، وكونها لأهل الخشية ينافي كونها لغيرهم ، فدل مجموع الآيتين على أنه ليس للجنة أهل إلا العلماء ، واعلم أن هذه الآية فيها تخويف شديد ، وذلك لأنه ثبت أن الخشية من الله تعالى من لوازم العلم بالله ، فعند عدم الخشية يلزم عدم العلم بالله ، وهذه الدقيقة تنبهك على أن العلم الذي هو سبب القرب من الله تعالى هو الذي يورث الخشية ، وأن أنواع المجادلات وإن دقت وغمضت إذا خلت عن إفادة الخشية كانت من العلم المذموم . [ ص: 173 ] وثالثها : قرئ ( إنما يخشى الله من عباده العلماء ) [فاطر : 28] برفع الأول ونصب الثاني ، ومعنى هذه القراءة : أنه تعالى لو جازت الخشية عليه ، لما خشي العلماء ؛ لأنهم هم الذين يميزون بين ما يجوز وبين ما لا يجوز ، وأما الجاهل الذي لا يميز بين هذين البابين فأي مبالاة به وأي التفات إليه ؟ ففي هذه القراءة نهاية المنصب للعلماء والتعظيم .

                                                                                                                                                                                                                                            الرابع : قوله تعالى : ( وقل رب زدني علما ) [طه : 114] . وفيه أدل دليل على نفاسة العلم وعلو مرتبته وفرط محبة الله تعالى إياه ، حيث أمر نبيه بالازدياد منه خاصة دون غيره ، وقال قتادة : لو اكتفى أحد من العلم لاكتفى نبي الله موسى عليه السلام ولم يقل : ( هل أتبعك على أن تعلمني مما علمت رشدا ) [الكهف : 66] .

                                                                                                                                                                                                                                            الخامس : كان لسليمان عليه السلام من ملك الدنيا ما كان حتى إنه ( قال رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي ) [ص : 35] ثم إنه لم يفتخر بالمملكة ، وافتخر بالعلم حيث قال : ( وقال ياأيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء ) [النمل : 16] فافتخر بكونه عالما بمنطق الطير ، فإذا حسن من سليمان أن يفتخر بذلك العلم فلأن يحسن بالمؤمن أن يفتخر بمعرفة رب العالمين كان أحسن ، ولأنه قدم ذلك على قوله : ( وأوتينا من كل شيء ) [النمل : 16] وأيضا فإنه تعالى لما ذكر كمال حالهم قدم العلم أولا ، وقال : ( وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث ) [الأنبياء : 78] إلى قوله : ( وكلا آتينا حكما وعلما ) [الأنبياء : 79] ثم إنه تعالى ذكر بعد ذلك ما يتعلق بأحوال الدنيا فدل على أن العلم أشرف .

                                                                                                                                                                                                                                            السادس : قال بعضهم : الهدهد مع أنه في نهاية الضعف ، ومع أنه كان في موقف المعاتبة قال لسليمان : ( أحطت بما لم تحط به ) [النمل : 22] ، فلولا أن العلم أشرف الأشياء وإلا فمن أين للهدهد أن يتكلم في مجلس سليمان بمثل هذا الكلام ، ولذلك يرى الرجل الساقط إذا تعلم العلم صار نافذ القول عند السلاطين ، وما ذاك إلا ببركة العلم .

                                                                                                                                                                                                                                            السابع : قال عليه الصلاة والسلام : " تفكر ساعة خير من عبادة ستين سنة " وفي التفضيل وجهان : أحدها : أن التفكر يوصلك إلى الله تعالى ، والعبادة توصلك إلى ثواب الله تعالى ، والذي يوصلك إلى الله خير مما يوصلك إلى غير الله .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : أن التفكر عمل القلب ، والطاعة عمل الجوارح ، والقلب أشرف من الجوارح فكان عمل القلب أشرف من عمل الجوارح ، والذي يؤكد هذا الوجه قوله تعالى : ( إنني أنا الله ) [طه : 14] جعل الصلاة وسيلة إلى ذكر القلب ، والمقصود أشرف من الوسيلة فدل ذلك على أن العلم أشرف من غيره .

                                                                                                                                                                                                                                            الثامن : قال تعالى : ( وعلمك ما لم تكن تعلم ) [النساء : 113] ، ( وكان فضل الله عليك عظيما ) [النساء : 113] ، فسمى العلم عظيما ، وسمى الحكمة خيرا كثيرا ، فالحكمة هي العلم ، وقال أيضا : ( الرحمن علم القرآن ) [الرحمن : 1 - 2] فجعل هذه النعمة مقدمة على جميع النعم ، فدل على أنه أفضل من غيره .

                                                                                                                                                                                                                                            التاسع : أن سائر كتب الله ناطقة بفضل العلم ، أما التوراة فقال تعالى لموسى عليه السلام : " عظم الحكمة فإني لا أجعل الحكمة في قلب عبد إلا وأردت أن أغفر له فتعلمها ثم اعمل بها ، ثم ابذلها كي تنال بها كرامتي في الدنيا والآخرة " ، وأما الزبور فقال سبحانه وتعالى : " يا داود قل لأحبار [ ص: 174 ] بني إسرائيل ورهبانهم حادثوا من الناس الأتقياء ، فإن لم تجدوا فيهم تقيا فحادثوا العلماء ، فإن لم تجدوا عالما فحادثوا العقلاء ، فإن التقى والعلم والعقل ثلاث مراتب ما جعلت واحدة منهن في أحد من خلقي وأنا أريد إهلاكه " وأقول : إنما قدم الله تعالى التقى على العلم ؛ لأن التقى لا يوجد بدون العلم ، كما بينا أن الخشية لا تحصل إلا مع العلم ، والموصوف بالأمرين أشرف من الموصوف بأمر واحد ، وهذا السر أيضا قدم العالم على العاقل ؛ لأن العالم لا بد وأن يكون عاقلا ، أما العاقل فقد لا يكون عالما ، فالعقل كالبذر والعلم كالشجرة والتقوى كالثمر .

                                                                                                                                                                                                                                            وأما الإنجيل قال الله تعالى في السورة السابعة عشرة منه " ويل لمن سمع بالعلم فلم يطلبه كيف يحشر مع الجهال إلى النار ، اطلبوا العلم وتعلموه ، فإن العلم إن لم يسعدكم لم يشقكم ، وإن لم يرفعكم لم يضعكم ، وإن لم يغنكم لم يفقركم ، وإن لم ينفعكم لم يضركم ، ولا تقولوا : نخاف أن نعلم فلا نعمل ، ولكن قولوا : نرجو أن نعلم فنعمل " والعلم شفيع لصاحبه وحق على الله تعالى أن لا يخزيه ، إن الله تعالى يقول يوم القيامة : " يا معاشر العلماء ما ظنكم بربكم ؟ يقولون : ظننا أن يرحمنا ويغفر لنا ، فيقول : فإني قد فعلت ، إني قد استودعتكم حكمتي لا لشر أردته بكم ، بل لخير أردته بكم ، فادخلوا في صالح عبادي إلى جنتي برحمتي " وقال مقاتل بن سليمان : وجدت في الإنجيل : أن الله تعالى قال لعيسى ابن مريم عليهما السلام : يا عيسى عظم العلماء واعرف فضلهم ؛ لأني فضلتهم على جميع خلقي إلا النبيين والمرسلين كفضل الشمس على الكواكب ، وكفضل الآخرة على الدنيا ، وكفضلي على كل شيء .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية