المسألة الخامسة : اعلم أن
nindex.php?page=treesubj&link=28809_31770_31771الله تعالى لما استثنى إبليس من الساجدين فكان يجوز أن يظن أنه كان معذورا في ترك السجود فبين تعالى أنه لم يسجد مع القدرة ، وزوال العذر بقوله : " أبى " لأن الإباء هو الامتناع مع
[ ص: 216 ] الاختيار ، أما من لم يكن قادرا على الفعل لا يقال له إنه أبى ، ثم قد كان يجوز أن يكون كذلك ولا ينضم إليه الكبر فبين تعالى أن ذلك الإباء كان على وجه الاستكبار بقوله : " واستكبر " ثم كان يجوز أن يوجد الإباء والاستكبار مع عدم الكفر فبين تعالى أنه كفر بقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=34وكان من الكافرين ) قال القاضي : هذه الآية تدل على بطلان قول أهل الجبر من وجوه :
أحدها : أنهم يزعمون أنه لما لم يسجد ، لم يقدر على السجود لأن عندهم القدرة على الفعل منتفية ، ومن لا يقدر على الشيء يقال إنه أباه .
وثانيها : أن من لا يقدر على الفعل لا يقال : استكبر بأن لم يفعل ؛ لأنه إذا لم يقدر على الفعل لا يقال : استكبر عن الفعل ، وإنما يوصف بالاستكبار إذا لم يفعل مع كونه لو أراد الفعل لأمكنه .
وثالثها : قال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=34وكان من الكافرين ) ولا يجوز أن يكون كافرا بأن لا يفعل ما لا يقدر عليه .
ورابعها : أن استكباره وامتناعه خلق من الله فيه فهو بأن يكون معذورا أولى من أن يكون مذموما ، قال : ومن اعتقد مذهبا يقيم العذر لإبليس فهو خاسر الصفقة .
والجواب عنه : أن هذا القاضي لا يزال يطنب في تكثير هذه الوجوه وحاصلها يرجع إلى الأمر والنهي والثواب والعقاب ، فنقول له نحن أيضا : صدور ذلك الفعل عن إبليس عن قصد وداع أو لا عن قصد وداع ؟ فإن كان عن قصد وداع فمن أين ذلك القصد ؟ أوقع لا عن فاعل أو عن فاعل هو العبد أو عن فاعل هو الله ؟ فإن وقع لا عن فاعل كيف يثبت الصانع ؟ وإن وقع عن العبد فوقوع ذلك القصد عنه إن كان عن قصد آخر فيلزم التسلسل ، وإن كان لا عن قصد فقد وقع الفعل لا عن قصد وسنبطله ، وإن وقع عن فاعل هو الله فحينئذ يلزمك كل ما أوردته علينا ، أما إن قلت : وقع ذلك الفعل عنه لا عن قصد وداع ، فقد ترجح الممكن من غير مرجح وهو يسد باب إثبات الصانع ، وأيضا فإن كان كذلك كان وقوع ذلك الفعل اتفاقيا ، والاتفاقي لا يكون في وسعه واختياره فكيف يؤمر به وينهى عنه ؟ فيا أيها القاضي ما الفائدة في التمسك بالأمر والنهي ، وتكثير الوجوه التي يرجع حاصلها إلى حرف واحد مع أن مثل هذا البرهان القاطع يقلع خلفك ، ويستأصل عروق كلامك ، ولو أجمع الأولون والآخرون على هذا البرهان لما تخلصوا عنه إلا بالتزام وقوع الممكن لا عن مرجح ، وحينئذ ينسد باب إثبات الصانع ، أو بالتزام أنه يفعل الله ما يشاء ويحكم ما يريد وهو جوابنا .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : اعْلَمْ أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=28809_31770_31771اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا اسْتَثْنَى إِبْلِيسَ مِنَ السَّاجِدِينَ فَكَانَ يَجُوزُ أَنْ يُظَنَّ أَنَّهُ كَانَ مَعْذُورًا فِي تَرْكِ السُّجُودِ فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ لَمْ يَسْجُدْ مَعَ الْقُدْرَةِ ، وَزَوَالِ الْعُذْرِ بِقَوْلِهِ : " أَبَى " لِأَنَّ الْإِبَاءَ هُوَ الِامْتِنَاعُ مَعَ
[ ص: 216 ] الِاخْتِيَارِ ، أَمَّا مَنْ لَمْ يَكُنْ قَادِرًا عَلَى الْفِعْلِ لَا يُقَالُ لَهُ إِنَّهُ أَبَى ، ثُمَّ قَدْ كَانَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ وَلَا يَنْضَمُّ إِلَيْهِ الْكِبْرُ فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ ذَلِكَ الْإِبَاءَ كَانَ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِكْبَارِ بِقَوْلِهِ : " وَاسْتَكْبَرَ " ثُمَّ كَانَ يَجُوزُ أَنْ يُوجَدَ الْإِبَاءُ وَالِاسْتِكْبَارُ مَعَ عَدَمِ الْكُفْرِ فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ كَفَرَ بِقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=34وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ) قَالَ الْقَاضِي : هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ أَهْلِ الْجَبْرِ مِنْ وُجُوهٍ :
أَحَدُهَا : أَنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَسْجُدْ ، لَمْ يَقْدِرْ عَلَى السُّجُودِ لِأَنَّ عِنْدَهُمُ الْقُدْرَةَ عَلَى الْفِعْلِ مُنْتَفِيَةٌ ، وَمَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى الشَّيْءِ يُقَالُ إِنَّهُ أَبَاهُ .
وَثَانِيهَا : أَنَّ مَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْفِعْلِ لَا يُقَالُ : اسْتَكْبَرَ بِأَنْ لَمْ يَفْعَلْ ؛ لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْفِعْلِ لَا يُقَالُ : اسْتَكْبَرَ عَنِ الْفِعْلِ ، وَإِنَّمَا يُوصَفُ بِالِاسْتِكْبَارِ إِذَا لَمْ يَفْعَلْ مَعَ كَوْنِهِ لَوْ أَرَادَ الْفِعْلَ لَأَمْكَنَهُ .
وَثَالِثُهَا : قَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=34وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ) وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كَافِرًا بِأَنْ لَا يَفْعَلَ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ .
وَرَابِعُهَا : أَنَّ اسْتِكْبَارَهُ وَامْتِنَاعَهُ خَلْقٌ مِنَ اللَّهِ فِيهِ فَهُوَ بِأَنْ يَكُونَ مَعْذُورًا أَوْلَى مِنْ أَنْ يَكُونَ مَذْمُومًا ، قَالَ : وَمَنِ اعْتَقَدَ مَذْهَبًا يُقِيمُ الْعُذْرَ لِإِبْلِيسَ فَهُوَ خَاسِرُ الصَّفْقَةِ .
وَالْجَوَابُ عَنْهُ : أَنَّ هَذَا الْقَاضِيَ لَا يَزَالُ يُطْنِبُ فِي تَكْثِيرِ هَذِهِ الْوُجُوهِ وَحَاصِلُهَا يَرْجِعُ إِلَى الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ ، فَنَقُولُ لَهُ نَحْنُ أَيْضًا : صُدُورُ ذَلِكَ الْفِعْلِ عَنْ إِبْلِيسَ عَنْ قَصْدٍ وَدَاعٍ أَوْ لَا عَنْ قَصْدٍ وَدَاعٍ ؟ فَإِنْ كَانَ عَنْ قَصْدٍ وَدَاعٍ فَمِنْ أَيْنَ ذَلِكَ الْقَصْدُ ؟ أَوَقَعَ لَا عَنْ فَاعِلٍ أَوْ عَنْ فَاعِلٍ هُوَ الْعَبْدُ أَوْ عَنْ فَاعِلٍ هُوَ اللَّهُ ؟ فَإِنْ وَقَعَ لَا عَنْ فَاعِلٍ كَيْفَ يُثْبِتُ الصَّانِعُ ؟ وَإِنْ وَقَعَ عَنِ الْعَبْدِ فَوُقُوعِ ذَلِكَ الْقَصْدِ عَنْهُ إِنْ كَانَ عَنْ قَصْدٍ آخَرَ فَيَلْزَمُ التَّسَلْسُلُ ، وَإِنْ كَانَ لَا عَنْ قَصْدٍ فَقَدْ وَقَعَ الْفِعْلُ لَا عَنْ قَصْدٍ وَسَنُبْطِلُهُ ، وَإِنْ وَقَعَ عَنْ فَاعِلٍ هُوَ اللَّهُ فَحِينَئِذٍ يَلْزَمُكَ كُلُّ مَا أَوْرَدْتَهُ عَلَيْنَا ، أَمَّا إِنْ قُلْتَ : وَقَعَ ذَلِكَ الْفِعْلُ عَنْهُ لَا عَنْ قَصْدٍ وَدَاعٍ ، فَقَدْ تَرَجَّحَ الْمُمْكِنُ مِنْ غَيْرِ مُرَجِّحٍ وَهُوَ يَسُدُّ بَابَ إِثْبَاتِ الصَّانِعِ ، وَأَيْضًا فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ كَانَ وُقُوعُ ذَلِكَ الْفِعْلِ اتِّفَاقِيًّا ، وَالِاتِّفَاقِيُّ لَا يَكُونُ فِي وُسْعِهِ وَاخْتِيَارِهِ فَكَيْفَ يُؤْمَرُ بِهِ وَيُنْهَى عَنْهُ ؟ فَيَا أَيُّهَا الْقَاضِي مَا الْفَائِدَةُ فِي التَّمَسُّكِ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ ، وَتَكْثِيرِ الْوُجُوهِ الَّتِي يَرْجِعُ حَاصِلُهَا إِلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ مَعَ أَنَّ مِثْلَ هَذَا الْبُرْهَانِ الْقَاطِعِ يَقْلَعُ خَلَفَكَ ، وَيَسْتَأْصِلُ عُرُوقَ كَلَامِكَ ، وَلَوْ أَجْمَعَ الْأَوَّلُونَ وَالْآخِرُونَ عَلَى هَذَا الْبُرْهَانِ لَمَا تَخَلَّصُوا عَنْهُ إِلَّا بِالْتِزَامِ وُقُوعِ الْمُمْكِنِ لَا عَنْ مُرَجِّحٍ ، وَحِينَئِذٍ يَنْسَدُّ بَابُ إِثْبَاتِ الصَّانِعِ ، أَوْ بِالْتِزَامِ أَنَّهُ يَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ وَهُوَ جَوَابُنَا .