الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            المسألة السادسة : للعقلاء في قوله تعالى : ( وكان من الكافرين ) قولان :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدهما : أن إبليس حين اشتغاله بالعبادة كان منافقا كافرا وفي تقرير هذا القول وجهان : أحدهما : حكى محمد بن عبد الكريم الشهرستاني في أول كتابه المسمى " بالملل والنحل " عن ماري شارح الأناجيل الأربعة وهي مذكورة في التوراة متفرقة على شكل مناظرة بينه وبين الملائكة بعد الأمر بالسجود قال إبليس للملائكة : إني أسلم أن لي إلها هو خالقي ، وموجدي ، وهو خالق الخلق ، لكن لي على حكمة الله تعالى أسئلة سبعة ، الأول : ما الحكمة في الخلق لا سيما إن كان عالما بأن الكافر لا يستوجب عند خلقه الآلام ؟ .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : ثم ما الفائدة في التكليف مع أنه لا يعود منه ضر ولا نفع ، وكل ما يعود إلى المكلفين فهو قادر على تحصيله لهم من غير واسطة التكليف ؟

                                                                                                                                                                                                                                            الثالث : هب أنه كلفني بمعرفته وطاعته فلماذا كلفني السجود لآدم ؟

                                                                                                                                                                                                                                            الرابع : ثم لما عصيته في ترك السجود لآدم فلم لعنني وأوجب عقابي مع أنه لا فائدة له ولا لغيره فيه ، ولي فيه أعظم الضرر ؟

                                                                                                                                                                                                                                            الخامس : ثم لما فعل ذلك فلم مكنني من الدخول إلى الجنة ووسوست لآدم عليه السلام ؟

                                                                                                                                                                                                                                            السادس : ثم لما فعلت ذلك فلم سلطني على أولاده ومكنني من إغوائهم [ ص: 217 ] وإضلالهم ؟

                                                                                                                                                                                                                                            السابع : ثم لما استمهلته المدة الطويلة في ذلك ، فلم أمهلني ؟ ومعلوم أن العالم لو كان خاليا عن الشر لكان ذلك خيرا ، قال شارح الأناجيل : فأوحى الله تعالى إليه من سرادقات الجلال والكبرياء : يا إبليس إنك ما عرفتني ، ولو عرفتني لعلمت أنه لا اعتراض علي في شيء من أفعالي ، فإني أنا الله لا إله إلا أنا لا أسأل عما أفعل .

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أنه لو اجتمع الأولون والآخرون من الخلائق وحكموا بتحسين العقل وتقبيحه لم يجدوا عن هذه الشبهات مخلصا ، وكان الكل لازما ، أما إذا أجبنا بذلك الجواب الذي ذكره الله تعالى زالت الشبهات واندفعت الاعتراضات وكيف لا وكما أنه سبحانه واجب الوجود في ذاته واجب الوجود في صفاته ؟ فهو مستغن في فاعليته عن المؤثرات والمرجحات ، إذ لو افتقر لكان فقيرا لا غنيا فهو سبحانه مقطع الحاجات ومنتهى الرغبات ، ومن عنده نيل الطلبات ، وإذا كان كذلك لم تتطرق اللمية إلى أفعاله ، ولم يتوجه الاعتراض على خالقيته ، وما أحسن ما قال بعضهم : جل جناب الجلال عن أن يوزن بميزان الاعتزال ، فهذا القائل أجرى قوله تعالى : (وكان من الكافرين ) على ظاهره ، وقال إنه كان كافرا منافقا منذ كان .

                                                                                                                                                                                                                                            الوجه الثاني : في تقرير أنه كان كافرا أبدا قول أصحاب الموافاة : وذلك لأن الإيمان يوجب استحقاق العقاب الدائم ، والجمع بين الثواب الدائم والعقاب الدائم محال فإذا صدر الإيمان من المكلف في وقت ، ثم صدر عنه والعياذ بالله بعد ذلك كفر ، فإما أن يبقى الاستحقاقان معا وهو محال على ما بيناه ، أو يكون الطارئ مزيلا للسابق وهو أيضا محال ، لأن القول بالإحباط باطل ، فلم يبق إلا أن يقال : إن هذا الفرض محال وشرط حصول الإيمان أن لا يصدر الكفر عنه في وقت قط ، فإذا كانت الخاتمة على الكفر علمنا أن الذي صدر عنه أولا ما كان إيمانا إذا ثبت هذا ، فنقول : لما كان ختم إبليس على الكفر علمنا أنه ما كان مؤمنا قط .

                                                                                                                                                                                                                                            القول الثاني : إن إبليس كان مؤمنا ثم كفر بعد ذلك ، وهؤلاء اختلفوا في تفسير قوله تعالى : ( وكان من الكافرين ) فمنهم من قال : معناه وكان من الكافرين في علم الله تعالى ، أي كان عالما في الأزل بأنه سيكفر فصيغة كان متعلقة بالعلم لا بالمعلوم .

                                                                                                                                                                                                                                            والوجه الثاني : أنه لما كفر في وقت معين بعد أن كان مؤمنا قبل ذلك فبعد مضي كفره صدق عليه في ذلك الوقت أنه كان في ذلك الوقت من الكافرين ، ومتى صدق عليه ذلك وجب أن يصدق عليه أنه كان من الكافرين ، جزء من مفهوم قولنا كان من الكافرين في ذلك الوقت ، ومتى صدق المركب صدق المفرد لا محالة .

                                                                                                                                                                                                                                            الوجه الثالث : المراد من كان صار ، أي وصار من الكافرين ، وههنا أبحاث :

                                                                                                                                                                                                                                            البحث الأول : اختلفوا في أن قوله تعالى : ( وكان من الكافرين ) هل يدل على أنه وجد قبله جمع من الكافرين حتى يصدق القول بأنه من الكافرين ، قال قوم : إنه يدل عليه ؛ لأن كلمة " من " للتبعيض ، فالحكم عليه بأنه بعض الكافرين يقتضي وجود قوم آخرين من الكافرين حتى يكون هو بعضا لهم ، والذي يؤكد ذلك ما روي عن أبي هريرة أنه قال : " إن الله تعالى خلق خلقا من الملائكة ، ثم قال لهم : إني خالق بشرا من طين فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين فقالوا لا نفعل ذلك فبعث الله عليهم نارا فأحرقتهم وكان إبليس من أولئك الذين أبوا " وقال آخرون : هذه الآية لا تدل على ذلك ثم لهم في تفسير الآية وجهان :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدهما : معنى الآية أنه صار من الذين وافقوه في الكفر بعد ذلك ، وهو قول الأصم ، وذكر في مثاله قوله تعالى : ( المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض ) [التوبة : 67] فأضاف بعضهم إلى بعض بسبب الموافقة في الدين فكذا ههنا [ ص: 218 ] لما كان الكفر ظاهرا من أهل العالم عند نزول هذه الآية صح قوله : وكان من الكافرين .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : أن هذا إضافة لفرد من أفراد الماهية إلى تلك الماهية ، وصحة هذه الإضافة لا تقتضي وجود تلك الماهية كما أن الحيوان الذي خلقه الله تعالى أولا يصح أن يقال إنه فرد من أفراد الحيوان لا بمعنى أنه واحد من الحيوانات الموجودة خارج الذهن ، بل بمعنى أنه فرد من أفراد هذه الماهية وواحد من آحاد هذه الحقيقة ، واعلم أنه يتفرع على هذا البحث أن إبليس هل كان أول من كفر بالله ؟ والذي عليه الأكثرون أنه أول من كفر بالله .

                                                                                                                                                                                                                                            البحث الثاني : أن المعصية عند المعتزلة وعندنا لا توجب الكفر ، أما عندنا فلأن صاحب الكبيرة مؤمن ، وأما عند المعتزلة فلأنه وإن خرج عن الإيمان فلم يدخل في الكفر ، وأما عند الخوارج فكل معصية كفر ، وهم تمسكوا بهذه الآية ، قالوا : إن الله تعالى كفر إبليس بتلك المعصية فدل على أن المعصية كفر .

                                                                                                                                                                                                                                            الجواب : إن قلنا إنه كافر من أول الأمر فهذا السؤال زائل ، وإن قلنا : إنه كان مؤمنا ، فنقول إنه إنما كفر لاستكباره واعتقاده كونه محقا في ذلك التمرد واستدلاله على ذلك بقوله : ( أنا خير منه ) والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة السابعة : قال الأكثرون إن جميع الملائكة مأمورون بالسجود لآدم ، واحتجوا عليه بوجهين :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أن لفظ الملائكة صيغة الجمع وهي تفيد العموم لا سيما وقد وردت هذه اللفظة مقرونة بأكمل وجوه التأكيد في قوله : ( فسجد الملائكة كلهم أجمعون ) [الحجر : 30] .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : هو أنه تعالى استثنى إبليس منهم ، واستثناء الشخص الواحد منهم يدل على أن من عدا ذلك الشخص كان داخلا في ذلك الحكم ومن الناس من أنكر ذلك ، وقال : المأمورون بهذا السجود هم ملائكة الأرض واستعظموا أن يكون أكابر الملائكة مأمورين بذلك .

                                                                                                                                                                                                                                            وأما الحكماء فإنهم يحملون الملائكة على الجواهر الروحانية وقالوا : يستحيل أن تكون الأرواح السماوية منقادة للنفوس الناطقة ، إنما المراد من الملائكة المأمورين بالسجود القوى الجسمانية البشرية المطيعة للنفس الناطقة ، والكلام في هذه المسألة مذكور في العقليات .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية