الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الخامسة : في سبب كثرة الحسد وقلته وقوته وضعفه .

                                                                                                                                                                                                                                            اعلم أن الحسد إنما يكثر بين قوم تكثر فيهم الأسباب التي ذكرناها ، إذ الشخص الواحد يجوز أن يحسد لأنه يمتنع من قول المتكبر ، ولأنه يتكبر ، ولأنه [ ص: 218 ] عدو لغير ذلك من الأسباب ، وهذه الأسباب إنما تكثر بين قوم تجمعهم روابط يجتمعون بسببها في مجالس المخاطبات ، ويتواردون على الأغراض ، والمنازعة مظنة المنافرة ، والمنافرة مؤدية إلى الحسد ، فحيث لا مخالطة فليس هناك محاسدة ، ولما لم توجد الرابطة بين شخصين في بلدين لا جرم لم يكن بينهما محاسدة ، فلذلك ترى العالم يحسد العالم دون العابد ، والعابد يحسد العابد دون العالم ، والتاجر يحسد التاجر ، بل الإسكاف يحسد الإسكاف ، ولا يحسد البزاز ، ويحسد الرجل أخاه وابن عمه أكثر مما يحسد الأجانب ، والمرأة تحسد ضرتها وسرية زوجها أكثر مما تحسد أم الزوج وابنته ؛ لأن مقصد البزاز غير مقصد الإسكاف ؛ فلا يتزاحمون على المقاصد ، ثم مزاحمة البزاز المجاور له أكثر من مزاحمة البعيد عنه إلى طرف السوق ، وبالجملة فأصل الحسد العداوة ، وأصل العداوة التزاحم على غرض واحد ، والغرض الواحد لا يجمع متباعدين ، بل لا يجمع إلا متناسبين ، فلذلك يكثر الحسد بينهم ، نعم من اشتد حرصه على الجاه العريض والصيت في أطراف العالم ، فإنه يحسد كل من في العالم ممن يشاركه في الخصلة التي يتفاخر بها ، أقول : والسبب الحقيقي فيه أن الكمال محبوب بالذات ، وضد المحبوب مكروه ، ومن جملة أنواع الكمال التفرد بالكمال ، فلا جرم كان الشريك في الكمال مبغضا لكونه منازعا في الفردانية التي هي من أعظم أبواب الكمال ، إلا أن هذا النوع من الكمال لما امتنع حصوله إلا لله سبحانه ، ووقع اليأس عنه فاختص الحسد بالأمور الدنيوية ، وذلك لأن الدنيا لا تفي بالمتزاحمين ، أما الآخرة فلا ضيق فيها ، وإنما مثال الآخرة نعمة العلم ، فلا جرم من يحب معرفة الله تعالى ومعرفة صفاته وملائكته ، فلا يحسد غيره إذا عرف ذلك ؛ لأن المعرفة لا تضيق على العارفين ، بل المعلوم الواحد يعرفه ألف ألف ، ويفرح بمعرفته ، ويلتذ به ، ولا تنقص لذة أحد بسبب غيره ، بل يحصل بكثرة العارفين زيادة الأنس ، فلذلك لا يكون بين علماء الدين محاسدة ؛ لأن مقصدهم معرفة الله ، وهي بحر واسع لا ضيق فيها ، وغرضهم المنزلة عند الله ولا ضيق فيها ، نعم إذا قصد العلماء بالعلم المال والجاه تحاسدوا ؛ لأن المال أعيان إذا وقعت في يد واحد خلت عنها يد الآخر ، ومعنى الجاه ملء القلوب ، ومهما امتلأ قلب شخص بتعظيم عالم انصرف عن تعظيم الآخر ، أما إذا امتلأ قلب بالفرح بمعرفة الله لم يمنع ذلك أن يمتلئ قلب غيره ، وأن يفرح به ، فلذلك وصفهم الله تعالى بعدم الحسد فقال : ( ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين ) [ الحجر : 47 ] .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية