الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      [ ص: 39 ] باب سجود السهو قال المصنف - رحمه الله تعالى - : ( إذا ترك ركعة من الصلاة ساهيا ثم تذكرها وهو فيها لزمه أن يأتي بها ، وإن شك في تركها بأن شك هل صلى ركعة أو ركعتين أو ثلاثا أو أربعا ؟ لزمه أن يأخذ بالأقل ويأتي بما بقي .

                                      لما روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال { إذا شك أحدكم في صلاته فليلق الشك وليبن على اليقين فإذا استيقن التمام سجد سجدتين ، فإن كانت صلاته تامة كانت الركعة نافلة له والسجدتان وإن كانت ناقصة كانت الركعة تماما لصلاته ، والسجدتان ترغمان أنف الشيطان } ) .

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) حديث أبي سعيد هذا صحيح رواه أبو داود بإسناد صحيح ، ورواه مسلم بمعناه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " { إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر كم صلى أثلاثا أم أربعا فليطرح الشك وليبن على ما استيقن ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم فإن صلى خمسا شفعن له صلاته ، وإن كان صلى إتماما لأربع كانتا ترغيما للشيطان } " فقال الشافعي والأصحاب - رحمهم الله تعالى - : إذا ترك ركعة ساهيا ثم ذكر وهو في الصلاة لزمه فعلها وإن شك في تركها بأن شك هل صلى ركعة أو ركعتين أو ثلاثا أو أربعا ؟ لزمه الأخذ بالأقل وفعل ما بقي سواء كان شكه مستوي الطرفين أو ظن أنه فعل الأكثر ، ففي الحالين يلزمه الأخذ بالأقل ويجب الباقي ولا مدخل للاجتهاد فيه .

                                      وقد قدمنا في باب ما ينقض الوضوء أن الفقهاء يطلقون الشك على التردد في الشيء سواء استوى الاحتمالان أو ترجح أحدهما ، وإن كان عند الأصوليين مخصوصا بمستوي الطرفين .

                                      ( فرع ) في بيان الأحاديث الصحيحة التي عليها مدار باب سجود السهو وعنها تتشعب مذاهب العلماء وهي ستة أحاديث : ( أحدها ) : حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال { إذا نودي بالأذان أدبر الشيطان له ضراط حتى لا يسمع الأذان فإذا قضى الأذان أقبل فإذا ثوب بها أدبر فإذا قضى التثويب أقبل يخطر بين المرء ونفسه يقول : اذكر كذا اذكر كذا ; لما لم يكن يذكر حتى يظل الرجل لا يدري كم صلى ، فإذا لم [ ص: 40 ] يدر أحدكم كم صلى فليسجد سجدتين ، وهو جالس } [ رواه البخاري ومسلم وفي رواية لأبي داود { فليسجد سجدتين وهو جالس } ] قبل التسليم .

                                      ( الثاني ) : عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : { صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إحدى صلاتي العشي إما الظهر وإما العصر فسلم في ركعتين ثم أتى جذعا في قبلة المسجد فاستند إليها وخرج سرعان الناس فقام ذو اليدين فقال : يا رسول الله أقصرت الصلاة أم نسيت ؟ فنظر النبي صلى الله عليه وسلم يمينا وشمالا فقال : أحقا ما يقول ذو اليدين ؟ قالوا : صدق لم تصل إلا ركعتين ، فصلى ركعتين وسلم ثم كبر ، ثم سجد ، ثم كبر فرفع ، ثم كبر وسجد ، ثم كبر ورفع } رواه البخاري ومسلم من طرق كثيرة ورواه مسلم أيضا من حديث عمران بن الحصين ببعض معناه وقال فيه { سلم من ثلاث ركعات فلما قيل له : صلى ركعة ، ثم سلم ثم سجد سجدتين ثم سلم } .

                                      ( الثالث ) : عن عبد الله ابن بحينة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم { قام من صلاة الظهر وعليه جلوس فلما أتم صلاته سجد سجدتين يكبر في كل سجدة وهو جالس قبل أن يسلم وسجدهما الناس معه مكان ما نسي من الجلوس } " رواه البخاري ومسلم ( الرابع ) عن إبراهيم النخعي عن علقمة عن ابن مسعود رضي الله عنه قال { صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إبراهيم زاد أو نقص فلما سلم قيل له : يا رسول الله أحدث في الصلاة شيء ؟ قال وما ذاك ؟ قالوا : صليت كذا وكذا فثنى رجليه واستقبل القبلة فسجد سجدتين ثم سلم ثم أقبل علينا بوجهه ، فقال : إنه لو حدث في الصلاة شيء أنبأتكم به ، ولكن إنما أنا بشر أنسى كما تنسون فإذا نسيت فذكروني ، وإذا شك أحدكم في صلاته فليتحر الصواب فليتم عليه ثم ليسجد سجدتين } رواه البخاري ومسلم إلا قوله : " فإذا نسيت فذكروني " فإنه للبخاري وحده وفي رواية للبخاري : { ثم ليسلم ثم يسجد سجدتين } " وفي رواية لمسلم " { فليتحر الذي يرى أنه الصواب } " وفي رواية لهما عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم " { صلى الظهر خمسا ، فقيل : أزيد في الصلاة ؟ فقال : وما ذاك ؟ قالوا : صليت خمسا فسجد سجدتين } [ ص: 41 ] الخامس ) : عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر كم صلى ؟ أثلاثا أم أربعا ؟ فليطرح الشك وليبن على ما استيقن ، ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم ، فإن كان صلى خمسا شفعن له صلاته ، وإن كان صلى إتماما لأربع كانتا ترغيما للشيطان } رواه مسلم ( السادس ) عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " { إذا سها أحدكم في صلاته فلم يدر واحدة صلى أم اثنتين فليبن على واحدة فإن لم يدر اثنتين صلى أم ثلاثا فليبن على اثنتين ، فإن لم يدر أثلاثا صلى أم أربعا ، فليبن على ثلاث وليسجد سجدتين قبل أن يسلم } رواه الترمذي وقال : حديث حسن صحيح .

                                      فهذه الأحاديث الستة هي عمدة باب سجود السهو ، وفي الباب أحاديث بمعناه وأحاديث في مسائل مفردة من الباب ستأتي في مواضعها إن شاء الله - تعالى .

                                      فأما أبو حنيفة فاعتمد حديث ابن مسعود وقال : سجود السهو بعد السلام مطلقا .

                                      وقال : إذا شك في عدد الركعات تحرى فما غلب على ظنه عمل به .

                                      فإن لم يترجح له أحد الطرفين بنى على اليقين ، هذا إذا تكرر منه الشك ، فإن كان لأول مرة لزمه استئناف الصلاة وأما مالك فاعتمد حديثي قصة ذي اليدين وابن بحينة فقال : إن كان السهو بزيادة سجد بعد السلام لحديث ذي اليدين ، وإن كان نقصا فقبله لحديث ابن بحينة وأما أحمد فقال : يستعمل كل حديث منها فيما جاء فيه ، ولا يحمل على الاختلاف ، قال : وترك الشك قسمان ( أحدهما ) : يتركه ويبني على اليقين عملا بحديث أبي سعيد فهذا يسجد قبل السلام ( والثاني ) : يتركه ويتحرى ، فهذا يسجد بعد السلام عملا بحديث ابن مسعود ، وأما الشافعي فجمع بين الأحاديث كلها ورد المجمل إلى المبين وقال : البيان إنما هو في حديثي أبي سعيد وعبد الرحمن بن عوف وهما مسوقان لبيان حكم السهو ، وفيهما التصريح بالبناء على اليقين والاختصار على الأقل ووجوب الباقي ، وفيهما التصريح بأن سجود السهو قبل السلام ، وإن كان السهو بالزيادة ، وأما التحري المذكور في حديث ابن مسعود فالمراد به البناء على اليقين .

                                      قال الخطابي : حقيقة التحري طلب [ ص: 42 ] أحرى الأمرين وأولاهما بالصواب وأحراهما ما ثبت في حديثي أبي سعيد وعبد الرحمن من البناء على اليقين ; لما فيه من يقين إكمال الصلاة والاحتياط لها .

                                      وأما السجود في حديث ذي اليدين بعد السلام فقال الشافعي والأصحاب : هو محمول على أن تأخيره كان سهوا لا مقصودا .

                                      قالوا : ولا يبعد هذا فإن هذه الصلاة وقع فيها السهو بأشياء كثيرة ، فهذا الحديث محتمل مع أنه لم يأت لبيان حكم السهو فوجب تأويله على وفق حديثي أبي سعيد وعبد الرحمن الواردين لبيان حكم السهو الصريحين اللذين لا يمكن تأويلهما ولا يجوز ردهما وإهمالهما ، فهذا مختصر ما يدور عليه باب سجود السهو من الأحاديث والجمع بينها وبيان معتمد العلماء في مذاهبهم فيها ، وهو من النفائس المطلوبة وبالله التوفيق .



                                      ( فرع ) في مذاهب العلماء فيمن شك في عدد الركعات ، وهو في الصلاة مذهبنا أنه يبني على اليقين ويأتي بما بقي ، فإذا شك هل صلى ثلاثا أم أربعا ؟ لزمه أن يأتي بركعة إذا كانت صلاته رباعية سواء كان شكه مستوي الطرفين أو ترجح احتمال الأربع ولا يعمل بغلبة الظن سواء طرأ هذا الشك أول مرة أم تكرر قال الشيخ أبو حامد : وبمثل مذهبنا قال أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وابن مسعود وابن عمر وسعيد بن المسيب وعطاء وشريح وربيعة ومالك والثوري وقال الأوزاعي : تبطل صلاته ، قال الشيخ أبو حامد : وروي هذا عن ابن عمر وابن عباس ، وقال الحسن البصري : يعمل بما يقع في نفسه من غير اجتهاد ، ورواه عن أنس وأبي هريرة ، وقال أبو حنيفة : إن حصل له الشك أول مرة بطلت صلاته ، وإن صار عادة له اجتهد وعمل بغالب ظنه ، وإن لم يظن شيئا عمل بالأقل ، قال الشيخ أبو حامد : قال الشافعي في القديم : ما رأيت قولا أقبح من قول أبي حنيفة هذا ولا أبعد من السنة .

                                      وحكى القاضي أبو الطيب عن الحسن البصري أنه إذا شك هل زاد أم نقص ؟ يكفيه سجدتان للسهو لحديث أبي هريرة السابق ، ودلائل هذه المذاهب تعرف مما سبق من الأحاديث .




                                      الخدمات العلمية