الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف - رحمه الله تعالى - ( ويستحب أن يقلم الأظافر ويقص الشارب ويغسل البراجم وينتف الإبط ويحلق العانة لما روى عمار بن ياسر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { الفطرة عشرة : المضمضة ، والاستنشاق ، والسواك ، وقص الشارب ، وتقليم الأظافر ، وغسل البراجم ، ونتف الإبط ، والانتضاح بالماء ، والختان ، والاستحداد } " ) .

                                      [ ص: 342 ]

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) في هذه القطعة جمل وبيانها بمسائل ( إحداها ) : حديث عمار رواه أحمد بن حنبل وأبو داود وابن ماجه بإسناد ضعيف منقطع من رواية علي بن زيد بن جدعان عن سلمة بن محمد بن عمار عن عمار ، قال الحفاظ : لم يسمع سلمة عمارا ولكن يحصل الاحتجاج بالمتن ; لأنه رواه مسلم في صحيحه من رواية عائشة رضي الله عنها قالت : { قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : عشر من الفطرة : قص الشارب ، وإعفاء اللحية ، والسواك ، واستنشاق الماء ، وقص الأظفار ، وغسل البراجم ، ونتف الإبط ، وحلق العانة ، وانتقاص الماء } " قال مصعب بن شيبة أحد رواته : ونسيت العاشرة إلا أن تكون " المضمضة " وقال وكيع وهو أحد رواته : انتقاص الماء الاستنجاء وهو بالقاف والصاد المهملة . المسألة الثانية في لغاته : فالظفر فيه لغات : ضم الظاء والفاء وإسكان الفاء ، وبكسر الظاء مع إسكان الفاء وكسرها وأظفور ، والفصيح الأول ، وبه جاء القرآن ، والبراجم بفتح الباء الموحدة جمع برجمة بضمها وهي العقد المتشنجة الجلد في ظهور الأصابع ، وهي مفاصلها التي في وسطها بين الرواجب والأشاجع فالرواجب هي المفاصل التي تلي رءوس الأصابع ، والأشاجع بالشين المعجمة هي المفاصل التي تلي ظهر الكف ، وقال أبو عبيد : الرواجب [ ص: 338 ] والبراجم جميعا هي مفاصل الأصابع كلها وكذا قاله صاحب المحكم وآخرون ، وهذا مراد الحديث إن شاء الله فإنها كلها تجمع الوسخ .

                                      وأما الإبط فبإسكان الباء وفيه لغتان التذكير والتأنيث حكاهما أبو القاسم الزجاجي وآخرون . قال ابن السكيت : الإبط مذكر وقد يؤنث فيقال إبط حسن وحسنة وأبيض وبيضاء ، وأما الفطرة فبكسر الفاء وأصلها الخلقة قال الله تعالى : " { فطرة الله التي فطر الناس عليها } " واختلفوا في تفسيرها في هذا الحديث : فقال المصنف في تعليقه في الخلاف ، والماوردي في الحاوي ، وغيرهما من أصحابنا : هي الدين . وقال الإمام أبو سليمان الخطابي : فسرها أكثر العلماء في الحديث بالسنة ، قال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح : هذا فيه إشكال لبعد معنى السنة من معنى الفطرة في اللغة قال : فلعل وجهه أن أصله سنة الفطرة أو أدب الفطرة فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه . قلت : تفسير الفطرة هنا بالسنة هو الصواب ، ففي صحيح البخاري عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { من السنة قص الشارب ونتف الإبط وتقليم الأظافر } " وأصح ما فسر به غريب الحديث تفسيره بما جاء في رواية أخرى لا سيما في صحيح البخاري .

                                      وأما قوله صلى الله عليه وسلم : " الفطرة عشرة " فمعناه معظمها عشرة " كالحج عرفة " فإنها غير منحصرة في العشرة ، ويدل عليه رواية مسلم " عشر من الفطرة " وأما ذكر الختان في جملتها وهو واجب وباقيها سنة فغير ممتنع ، فقد يقرن المختلفان كقول الله تعالى : " { كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه } " والأكل مباح والإيتاء واجب ، وقوله تعالى : " { فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا وآتوهم } " والإيتاء واجب والكتابة سنة ، ونظائره في الكتاب والسنة كثيرة مشهورة . وأما الانتضاح فاختلف فيه فقيل هو نضح الفرج بقليل من الماء بعد الوضوء لدفع الوسواس ، والصحيح الذي قاله الخطابي والمحققون أنه الاستنجاء بالماء ، بدليل رواية مسلم : وانتقاص الماء . وهو بالقاف والصاد المهملة ، قال الخطابي : هو مأخوذ من النضح وهو الماء [ ص: 339 ] القليل . وأما الاستحداد فهو استعمال الحديدة ، وصار كناية عن حلق العانة . وأما راوي الحديث فهو أبو اليقظان عمار بن ياسر واسم أم عمار سمية بضم السين المهملة وهو وأبوه ياسر وأمه سمية صحابيون رضي الله عنهم وكانوا ممن تقدم إسلامهم في أول الأمر وكانوا يعذبهم الكفار على الإسلام فيمر بهم النبي صلى الله عليه وسلم فيقول : " { صبرا آل ياسر فإن موعدكم الجنة } " وسمية أول شهيدة في الإسلام ، توفي عمار سنة سبع وثلاثين وهو ابن ثلاث وقيل أربع وتسعين سنة رضي الله عنه والله أعلم .

                                      المسألة الثالثة في الأحكام : أما تقليم الأظفار فمجمع على أنه سنة ، وسواء فيه الرجل والمرأة واليدان والرجلان ، ويستحب أن يبدأ باليد اليمنى ثم اليسرى ثم الرجل اليمنى ثم اليسرى ، قال الغزالي في الإحياء : يبدأ بمسبحة اليمنى ثم الوسطى ثم البنصر ثم الخنصر ثم خنصر اليسرى إلى إبهام اليمنى ، وذكر فيه حديثا وكلاما في حكمته وهذا الذي قاله مما أنكره عليه الإمام أبو عبد الله المازري المالكي الإمام في علم الأصول والكلام والفقه ، وذكر في إنكاره عليه كلاما لا أوثر ذكره ، والمقصود أن الذي ذكره الغزالي لا بأس به ، إلا في تأخير إبهام اليمنى فلا يقبل قوله فيه ، بل يقدم اليمنى بكمالها ثم يشرع في اليسرى ، وأما الحديث الذي ذكره فباطل لا أصل له . وأما الرجلان فيبدأ بخنصر اليمنى ثم يمر على الترتيب حتى يختم بخنصر اليسرى كما في تخليل الأصابع في الوضوء ، وأما التوقيت ، في تقليم الأظفار فهو معتبر بطولها ، فمتى طالت قلمها ويختلف ذلك باختلاف الأشخاص والأحوال ، وكذا الضابط في قص الشارب ونتف الإبط وحلق العانة ، وقد ثبت عن أنس رضي الله عنه قال : { وقت لنا في قص الشارب وتقليم الأظفار ونتف الإبط وحلق العانة أن لا نترك أكثر من أربعين ليلة } " رواه مسلم وهذا لفظه ، وفي رواية أبي داود والبيهقي " وقت لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ما سبق . وقال : أربعين يوما " لكن إسنادها ضعيف والاعتماد على رواية مسلم فإن قوله : " وقت لنا " كقول الصحابي : أمرنا بكذا ونهينا [ ص: 340 ] عن كذا وهو مرفوع كقوله : قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على المذهب الصحيح الذي عليه الجمهور من أهل الحديث والفقه والأصول . ثم معنى هذا الحديث أنهم لا يؤخرون فعل هذه الأشياء عن وقتها فإن أخروها فلا يؤخرونها أكثر من أربعين يوما ، وليس معناه الإذن في التأخير أربعين مطلقا ، وقد نص الشافعي والأصحاب - رحمهم الله - على أنه يستحب تقليم الأظفار والأخذ من هذه الشعور يوم الجمعة ، والله أعلم . ولو كان تحت الأظفار وسخ فإن لم يمنع وصول الماء إلى ما تحته لقلته صح الوضوء ، وإن منع فقطع المتولي بأنه لا يجزيه ولا يرتفع حدثه ، كما لو كان الوسخ في موضع آخر من البدن ، وقطع الغزالي في الإحياء بالإجزاء وصحة الوضوء والغسل أنه يعفى عنه للحاجة ، قال : لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمرهم بتقليم الأظفار وينكر ما تحتها من وسخ ، ولم يأمرهم بإعادة الصلاة والله أعلم .



                                      وأما قص الشارب فمتفق على أنه سنة . ودليله الحديثان السابقان وحديث زيد بن أرقم رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { من لم يأخذ من شاربه فليس منا } " رواه الترمذي في كتاب الاستئذان من جامعه وقال : حديث حسن صحيح . ثم ضابط قص الشارب أن يقص حتى يبدو طرف الشفة ولا يحفه من أصله ، هذا مذهبنا ، وقال أحمد : رحمه الله - : إن حفه فلا بأس ، وإن قصه فلا بأس ، واحتج بالأحاديث الصحيحة كحديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { أحفوا الشارب واعفوا اللحى } " رواه البخاري ومسلم وفي رواية . { جزوا الشوارب } وفي رواية { انهكوا الشوارب } وهذه الروايات محمولة عندنا على الحف من طرف الشفة لا من أصل الشعر ، ومما يستدل به في أن السنة قص بعض الشارب كما ذكرنا ما روى ابن عباس رضي الله عنهما قال : " { كان النبي صلى الله عليه وسلم يقص أو يأخذ من شاربه قال : وكان إبراهيم خليل الرحمن يفعله } " رواه الترمذي وقال : حديث حسن ، وروى البيهقي في سننه عن شرحبيل بن مسلم الخولاني قال : " رأيت خمسة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقصون شواربهم : أبو أمامة الباهلي ، وعبد الله بن بسر [ ص: 341 ] وعتبة بن عبد السلمي ، والحجاج بن عامر الثمالي ، والمقدام بن معد يكرب وكانوا يقصون شواربهم مع طرف الشفة " . وروى البيهقي عن مالك بن أنس الإمام - رحمه الله - أنه ذكر إحفاء بعض الناس شواربهم فقال مالك : ينبغي أن يضرب من صنع ذلك فليس حديث النبي صلى الله عليه وسلم كذلك ولكن يبدي حرف الشفة والفم ، قال مالك : حلق الشارب بدعة ظهرت في الناس ، قال الغزالي : ولا بأس بترك سبلتيه وهما طرفا الشارب ، فعل ذلك عمر رضي الله عنه وغيره . قلت : ولا بأس أيضا بتقصيره روى ذلك البيهقي عن ابن عمر رضي الله عنهما ، ويستحب في قص الشارب أن يبدأ بالجانب الأيمن لما سبق { أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب التيامن في كل شيء } ، والتوقيت في قص الشارب كما سبق في تقليم الأظفار ، وهو مخير بين أن يقص شاربه بنفسه أو يقصه له غيره ; لأن المقصود يحصل من غير هتك مروءة ، والله أعلم .



                                      وأما غسل البراجم فمتفق على استحبابه وهو سنة مستقلة غير مختصة بالوضوء ، وقد أوضحها الغزالي في الإحياء وألحق بها إزالة ما يجتمع من الوسخ في معاطف الأذن وقعر الصماخ فيزيله بالمسح ، وربما أضرت كثرته بالسمع ، قال : وكذا ما يجتمع في داخل الأنف من الرطوبات الملتصقة بجوانبه ، وكذا الوسخ الذي يجتمع على غير ذلك من البدن بعرق وغبار ونحوهما ، والله أعلم .



                                      وأما نتف الإبط فمتفق أيضا على أنه سنة ، والتوقيت فيه كما سبق في الأظفار فإنه يختلف باختلاف الأشخاص والأحوال ، ثم السنة نتفه كما صرح به الحديث ، فلو حلقه جاز ، وحكي عن يونس بن عبد الأعلى ، قال : دخلت على الشافعي - رحمه الله - وعنده المزين يحلق إبطيه ، فقال الشافعي : قد علمت أن السنة النتف ولكن لا أقوى على الوجع ، ولو أزاله بالنورة فلا بأس . قال الغزالي : المستحب نتفه وذلك سهل لمن تعوده فإن حلقه جاز ; لأن المقصود النظافة ، وأن لا يجتمع الوسخ في خلل ذلك وربما حصل بسببه رائحة ، ويستحب أن يبدأ بالإبط الأيمن كما سبق والله أعلم .



                                      [ ص: 342 ] وأما حلق العانة فمتفق على أنه سنة أيضا ، وهل يجب على الزوجة إذا أمرها زوجها ؟ فيه قولان مشهوران أصحهما الوجوب ، وهذا إذا لم يفحش بحيث ينفر التواق ، فإن فحش بحيث نفره وجب قطعا ، وستأتي المسألة مبسوطة في كتاب النكاح حيث ذكرها المصنف إن شاء الله تعالى . والسنة في العانة الحلق كما هو مصرح به في الحديث ، فلو نتفها أو قصها أو أزالها بالنورة جاز ، وكان تاركا للأفضل وهو الحلق ، ويحلق عانته بنفسه ، ويحرم أن يوليها غيره إلا زوجته أو جاريته التي تستبيح النظر إلى عورته ومسها ، فيجوز مع الكراهة . والتوقيت في حلق العانة على ما سبق من اعتبار طولها ، وأنه إن أخره فلا يجاوز أربعين يوما ، وقد فعل من السلف جماعة بالنورة ، وكرهها آخرون منهم ، وجمع البيهقي الآثار عنهم في السنن الكبير وأفرد لها بابا . وأما حقيقة العانة التي يستحب حلقها فالمشهور أنها الشعر النابت حوالي ذكر الرجل وقبل المرأة وفوقهما ، ورأيت في كتاب الودائع المنسوب إلى أبي العباس بن سريج وما أظنه يصح عنه قال : العانة الشعر المستدير حول حلقة الدبر . وهذا الذي قاله غريب ولكن لا مانع من حلق شعر الدبر ، وأما استحبابه فلم أر فيه شيئا لمن يعتمد غير هذا ، فإن قصد به التنظف وسهولة الاستنجاء فهو حسن محبوب والله أعلم .

                                      ( فرع ) يستحب دفن ما أخذ من هذه الشعور والأظفار ومواراته في الأرض ، نقل ذلك عن ابن عمر رضي الله عنهما واتفق عليه أصحابنا وسنبسطه في كتاب الجنائز حيث ذكره الأصحاب إن شاء الله تعالى .



                                      ( فرع ) سبق في الحديث أن إعفاء اللحية من الفطرة فالإعفاء بالمد ، قال الخطابي وغيره : هو توفيرها وتركها بلا قص ، كره لنا قصها كفعل الأعاجم ، قال : وكان من زي كسرى قص اللحى وتوفير الشوارب ، قال الغزالي في الإحياء : اختلف السلف فيما طال من اللحية فقيل : لا بأس أن يقبض عليها ويقص ما تحت القبضة ، فعله ابن عمر ثم جماعة من التابعين ، واستحسنه الشعبي وابن سيرين ، وكرهه الحسن وقتادة ، وقالوا : يتركها عافية لقوله صلى الله عليه وسلم : { واعفوا اللحى } " .

                                      [ ص: 343 ] قال الغزالي : والأمر في هذا قريب إذا لم ينته إلى تقصيصها ; لأن الطول المفرط قد يشوه الخلقة . هذا كلام الغزالي والصحيح كراهة الأخذ منها مطلقا ، بل يتركها على حالها كيف كانت للحديث الصحيح " { واعفوا اللحى } " ، وأما حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده { أن النبي صلى الله عليه وسلم : كان يأخذ من لحيته من عرضها وطولها } " فرواه الترمذي بإسناد ضعيف لا يحتج به



                                      وأما المرأة إذا نبتت لها لحية فيستحب حلقها ، صرح به القاضي حسين وغيره وكذا الشارب والعنفقة لها ، هذا مذهبنا وقال محمد بن جرير : لا يجوز لها حلق شيء من ذلك ، ولا تغيير شيء من خلقتها بزيادة ولا نقص



                                      وأما الأخذ من الحاجبين إذا طالا فلم أر فيه شيئا لأصحابنا ، وينبغي أن يكره لأنه تغيير لخلق الله لم يثبت فيه شيء فكره ، وذكر بعض أصحاب أحمد أنه لا بأس به ، قال : وكان أحمد يفعله وحكي أيضا عن الحسن البصري ، قال الغزالي : تكره الزيادة في اللحية والنقص منها ، وهو أن يزيد في شعر . العذارين من شعر الصدغين إذا حلق رأسه ، أو ينزل فيحلق بعض العذارين ، قال : وكذلك نتف جانبي العنفقة وغير ذلك فلا يغير شيئا ، وقال أحمد بن حنبل : لا بأس بحلق ما تحت حلقه من لحيته ، ولا يقص ما زاد منها على قبضة اليد ، وروي نحوه عن ابن عمر وأبي هريرة وطاوس وما ذكرناه أولا هو الصحيح والله أعلم



                                      ( فرع ) ذكر أبو طالب المكي في قوت القلوب ثم الغزالي في الإحياء في اللحية عشر خصال مكروهة ( إحداها ) : خضابها بالسواد إلا لغرض الجهاد إرعابا للعدو بإظهار الشباب والقوة فلا بأس إذا كان بهذه النية ، لا لهوى وشهوة ، هذا كلام الغزالي وسأفرد فرعا للخضاب بالسواد قريبا - إن شاء الله تعالى - . ( الثانية ) : تبييضها بالكبريت أو غيره استعجالا للشيخوخة وإظهارا للعلو في السن لطلب الرياسة والتعظيم والمهابة والتكريم ولقبول حديثه وإيهاما للقاء المشايخ ونحوه ( الثالثة ) : خضابها بحمرة أو صفرة تشبها [ ص: 344 ] بالصالحين ومتبعي السنة لا بنية اتباع السنة .

                                      ( الرابعة ) : نتفها في أول طلوعها وتخفيفها بالموسى إيثارا للمرودة واستصحابا للصبا وحسن الوجه ، وهذه الخصلة من أقبحها .

                                      ( الخامسة ) : نتف الشيب ، وسيأتي بسطه إن شاء الله تعالى ( السادسة ) : تصفيفها وتعبيتها طاقة فوق طاقة التزين والتصنع ليستحسنه النساء وغيرهن ( السابعة ) : الزيادة فيها والنقص منها كما سبق ( الثامنة ) : تركها شعثة منتفشة إظهارا للزهادة وقلة المبالاة بنفسه ( التاسعة ) : تسريحها تصنعا ( العاشرة ) : النظر إليها إعجابا وخيلاء غرة بالشباب وفخرا بالمشيب وتطاولا عن الشباب ، وهاتان الخصلتان في التحقيق لا تعود الكراهة فيهما إلى معنى في اللحية ، بخلاف الخصال السابقة والله أعلم .



                                      ومما يكره في اللحية عقدها ، ففي سنن أبي داود وغيره عن رويفع رضي الله عنه بإسناد جيد قال : { قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا رويفع لعل الحياة ستطول بك فأخبر الناس أنه من عقد لحيته أو تقلد وترا أو استنجى برجيع دابة أو عظم فإن محمدا منه بريء } " . قال الخطابي : في عقدها تفسيران : ( أحدهما ) أنهم كانوا يعقدون لحاهم في الحرب وذلك من زي العجم .

                                      ( والثاني ) معالجة الشعر لينعقد ويتجمد وذلك من فعل أهل التأنيث والتوضيع



                                      ( فرع ) يكره نتف الشيب لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { لا تنتفوا الشيب فإنه نور المسلم يوم القيامة } حديث حسن رواه أبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم بأسانيد حسنة قال الترمذي : حسن . هكذا قال أصحابنا يكره ، صرح به الغزالي كما سبق والبغوي وآخرون ، ولو قيل : يحرم للنهي الصريح الصحيح لم يبعد ، ولا فرق بين نتفه من اللحية والرأس .



                                      ( فرع ) قال أصحابنا : يستحب ترجيل الشعر ودهنه غبا ، وقد سبق تفسير الغب ، وتسريح اللحية لحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { من كان له شعر فليكرمه } " رواه أبو داود بإسناد حسن . وعن عبد الله بن مغفل بالغين المعجمة رضي الله عنه { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم : نهى عن الترجل إلا غبا } " حديث صحيح رواه [ ص: 345 ] أبو داود والترمذي والنسائي بأسانيد صحيحة قال الترمذي : حديث حسن صحيح . وعن حميد بن عبد الرحمن الحميري عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال : { نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يمتشط أحدنا كل يوم } " رواه النسائي بإسناد صحيح . وجهالة اسم الصحابي لا تضر لأنهم كلهم عدول .



                                      ( فرع ) يسن خضاب الشيب بصفرة أو حمرة اتفق عليه أصحابنا ، وممن صرح به الصيمري والبغوي وآخرون للأحاديث الصحيحة المشهورة في ذلك منها حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم } " رواه البخاري ومسلم .



                                      ( فرع ) اتفقوا على ذم خضاب الرأس أو اللحية بالسواد . ثم قال الغزالي في الإحياء والبغوي في التهذيب وآخرون من الأصحاب : هو مكروه ، وظاهر عباراتهم أنه كراهة تنزيه ، والصحيح بل الصواب أنه حرام ، وممن صرح بتحريمه صاحب الحاوي في باب الصلاة بالنجاسة ، قال : إلا أن يكون في الجهاد ، وقال في آخر كتابه : الأحكام السلطانية : يمنع المحتسب الناس من خضاب الشيب بالسواد إلا المجاهد . ودليل تحريمه حديث جابر رضي الله عنه قال : " { أتي بأبي قحافة والد أبي بكر الصديق رضي الله عنهما يوم فتح مكة ورأسه ولحيته كالثغامة بياضا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : غيروا هذا واجتنبوا السواد } " رواه مسلم في صحيحه . والثغامة بفتح الثاء المثلثة وتخفيف الغين المعجمة نبات له ثمر أبيض وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : { قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يكون قوم يخضبون في آخر الزمان بالسواد . كحواصل الحمام لا يريحون رائحة الجنة } " رواه أبو داود والنسائي وغيرهما ، ولا فرق في المنع من الخضاب بالسواد بين الرجل والمرأة ، هذا مذهبنا وحكي عن إسحاق بن راهويه أنه رخص فيه للمرأة تتزين به لزوجها . والله أعلم .



                                      ( فرع ) أما خضاب اليدين والرجلين بالحناء فمستحب للمتزوجة من النساء ، للأحاديث المشهورة فيه ، وهو حرام على الرجال إلا لحاجة التداوي [ ص: 346 ] ونحوه . ومن الدلائل على تحريمه قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : " { لعن الله المتشبهين بالنساء من الرجال } " ويدل على الحديث الصحيح عن أنس : " { أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يتزعفر الرجل } " رواه البخاري ومسلم ، وما ذاك إلا للونه لا لريحه فإن ريح الطيب للرجال محبوب والحناء في هذا كالزعفران . وفي كتاب الأدب من سنن أبي داود عن أبي هريرة رضي الله عنه { أن النبي صلى الله عليه وسلم : أتي بمخنث قد خضب يديه ورجليه بالحناء فقال : ما بال هذا ؟ فقيل : يا رسول الله يتشبه بالنساء فأمر به فنفي إلى النقيع فقالوا : يا رسول الله ألا نقتله ؟ فقال إني نهيت عن قتل المصلين } " لكن إسناده فيه مجهول ، والنقيع بالنون ، وسنعيد هذا الحديث في أول كتاب الصلاة حيث ذكره المصنف إن شاء الله تعالى . وقد أوضح الإمام الحافظ أبو موسى الأصبهاني هذه المسألة وبسطها بالأدلة المتظاهرة في كتابه الاستغناء في معرفة استعمال الحناء ، وهو كتاب نفيس ، وسنعيد هذه المسألة مبسوطة مع نظائرها في أول باب طهارة البدن ، إن شاء الله تعالى عند ذكر من جبر عظمه بعظم نجس فهناك ذكرها الشافعي في المختصر والأصحاب والله أعلم .

                                      ( فرع ) ومن هذا القبيل ما روى يعلى بن مرة الصحابي رضي الله عنه { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا عليه خلوق فقال اذهب فاغسله ثم اغسله ثم لا تعد } " رواه الترمذي والنسائي قال الترمذي : حديث حسن ، وفي النهي عن الخلوق للرجال أحاديث كثيرة وهو مباح للنساء .



                                      ( فرع ) يستحب فرق الشعر من الرأس لحديث ابن عباس رضي الله عنه { كان أهل الكتاب يسدلون أشعارهم وكان المشركون يفرقون رءوسهم ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر به ، فسدل رسول الله صلى الله عليه وسلم ناصيته ثم فرق بعده } " رواه البخاري ومسلم



                                      ( فرع ) يكره القزع وهو حلق بعض الرأس لحديث ابن عمر رضي الله عنهما في الصحيحين قال : " { نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القزع } " وقد ذكره المصنف في باب العقيقة وسيأتي هنا مبسوطا إن شاء الله تعالى



                                      [ ص: 347 ] فرع ) أما حلق جميع الرأس فقال الغزالي : لا بأس به لمن أراد التنظيف ولا بأس بتركه لمن أراد دهنه وترجيله . هذا كلام الغزالي ، وكلام غيره من أصحابنا في معناه ، وقال أحمد بن حنبل - رحمه الله - : لا بأس بقصه بالمقراض ، وعنه في كراهة حلقه روايتان ، والمختار أن لا كراهة فيه ولكن السنة تركه فلم يصح أن النبي صلى الله عليه وسلم حلقه إلا في الحج والعمرة ، ولم يصح تصريح بالنهي عنه . ومن الدليل على جواز الحلق وأنه لا كراهة فيه حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال : " { رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم صبيا قد حلق بعض شعره وترك بعضه فنهاهم عن ذلك وقال : احلقوه كله أو اتركوه كله } " رواه أبو داود بإسناد صحيح على شرط البخاري ومسلم ، وعن عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما : " { أن النبي صلى الله عليه وسلم أمهل آل جعفر ثلاثا ثم أتاهم فقال : لا تبكوا على أخي بعد اليوم ، ثم قال : ادعوا لي بني أخي فجيء بنا كأنا أفرخ فقال : ادعوا لي الحلاق فأمره فحلق رءوسنا } " حديث صحيح رواه أبو داود بإسناد صحيح على شرط البخاري ومسلم



                                      ( فرع ) يحرم وصل الشعر بشعر على الرجل والمرأة ، وكذلك الوشم للأحاديث الصحيحة في لعن الواصلة والمستوصلة والواشمة والمستوشمة والواشرة إلى آخرهن ، وسنوضح المسألة إن شاء الله تعالى في باب طهارة البدن عند وصل العظم حيث ذكرها الأصحاب ، ونذكر هناك جملا من الفروع المتعلقة بها إن شاء الله تعالى .



                                      ( فرع ) له تعلق بما تقدم يكره لمن عرض عليه طيب أو ريحان رده لحديث أبي هريرة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " { من عرض عليه طيب فلا يرده } " رواه مسلم ، وعن أنس : " { كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يرد الطيب } " رواه البخاري




                                      الخدمات العلمية