الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                                                                                          1630 - مسألة : ومن وهب هبة سالمة من شرط الثواب ، أو غيره ، أو أعطى عطية كذلك ، أو تصدق بصدقة كذلك ، فقد تمت باللفظ - ولا معنى لحيازتها ، ولا لقبضها - ولا يبطلها تملك الواهب لها ، أو المتصدق بها . [ ص: 63 ]

                                                                                                                                                                                          وسواء بإذن الموهوب له ، أو المتصدق عليه كان ذلك أم بغير إذنه ، سواء تملكها إلى أن مات ، أو مدة يسيرة أو كثيرة - على ولد صغير كانت أو على كبير ، أو على أجنبي - إلا أنه يلزمه رد ما استغل منها كالغصب سواء سواء في حياته ، ومن رأس ماله بعد وفاته - وهو قول أبي سليمان ، وأصحابنا .

                                                                                                                                                                                          وقال أبو حنيفة : من وهب أو تصدق على أجنبي ، أو قريب صغير ، أو كبير - ولد أو غيره - فليس ذلك بشيء ، ولا يلزمه حكم هبة ، ولا صدقة ، ولا يحكم عليه بأن يدفعها إلى الذي تصدق بها عليه ، ولا إلى الذي وهبها له ، فإن دفع ذلك مختارا ، فحينئذ تمت الهبة والصدقة ، وصح ملك الموهوب أو المتصدق عليه ، فلو قبضها الموهوب له أو المتصدق عليه بغير إذن الواهب والمتصدق لم يصح له بذلك ملك ، وقضي عليه بردها إلى الواهب أو المتصدق إلا الصغير ، فإن أباه أو وصيه يقبضان له .

                                                                                                                                                                                          قال : فإن مات الواهب ، أو المتصدق ، أو الموهوب له ، أو المتصدق عليه - : بطلت الصدقة والهبة .

                                                                                                                                                                                          وقال مالك : من وهب أو تصدق على ابن له صغير فذلك جائز - وهو الحائز للصغير الذكر حتى يبلغ ، وللأنثى تنكح وترشد .

                                                                                                                                                                                          فإن وهب أو تصدق على ولد كبير ، أو على أجنبي - : أجبر على دفع ذلك إليهما فإن قبضاه بغير إذنه فهو قبض صحيح ، فإن غفل عن ذلك حتى مات ، والهبة أو الصدقة في يده واعتماره - : بطلت الصدقة والهبة وعادت ميراثا - فإن دفع البعض واعتمر البعض - فإن كان الذي اعتمر لنفسه أكثر من الثلث - : بطل الجميع - وإن كان الثلث فأقل - : صحت الهبة والصدقة في الجميع فيما اعتمر وفيما لم يعتمر .

                                                                                                                                                                                          وقال الشافعي في الهبات والعطايا والصدقات المطلقة بقول أبي حنيفة ، وفي الأحباس - فقط - بالقول الذي ذكرنا عن أصحابنا .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : احتج من لم يجز الهبة ، والصدقة إلا بالقبض - : بما روينا من طريق شعبة عن قتادة عن مطرف بن عبد الله بن الشخير عن أبيه قال : لما نزلت { ألهاكم التكاثر } قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { يقول ابن آدم : مالي مالي ، وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت ، أو لبست فأبليت أو أعطيت فأمضيت . } [ ص: 64 ]

                                                                                                                                                                                          ومن طريق أبي داود الطيالسي نا هشام هو الدستوائي - عن قتادة { عن مطرف بن عبد الله بن الشخير عن أبيه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ { ألهاكم التكاثر } ويقول : يقول ابن آدم : مالي مالي ، وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت ، أو لبست فأبليت ، أو تصدقت فأمضيت . }

                                                                                                                                                                                          قالوا : فشرط عليه الصلاة والسلام في العطية والصدقة الإمضاء ، وهو الإقباض - وقالوا : قسنا ذلك على القرض ، والعارية ، فلا يصحان إلا مقبوضين ، بعلة أن كل ذلك بر ومعروف ، وعلى الوصية ، فلا تصح باللفظ وحده ، لكن بمعنى آخر مقترن إليه وهو الموت .

                                                                                                                                                                                          وذكروا أيضا - ما رويناه من طريق مالك أن ابن شهاب أخبره عن عروة بن الزبير عن عائشة أم المؤمنين " أن أبا بكر لما حضرته الوفاة قال لها : إني كنت نحلتك جداد عشرين وسقا ، فلو كنت جددتيه واحتزتيه لكان لك فإذ لم تفعلي فإنما هو مال الوارث ، وذكر الخبر ، وفيه : أنها قالت " والله يا أبت لو كان كذا وكذا لرددته " .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة أم المؤمنين قالت : لما حضرت أبا بكر الوفاة ، قال لها : إني كنت نحلتك جداد عشرين وسقا من أرضي التي بالغابة ، وإنك لو كنت احتزتيه لكان لك ، فإذا لم تفعلي ، فإنما هو مال الوارث .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن عروة أخبرني المسور بن مخرمة ، وعبد الرحمن بن عبد القاري : أنهما سمعا عمر بن الخطاب يقول : ما بال أقوام ينحلون أولادهم فإذ مات الابن قال الأب : مالي وفي يدي ، وإذا مات الأب قال : قد كنت نحلت ابني كذا وكذا ; لا نحل إلا لمن حازه وقبضه عن أبيه .

                                                                                                                                                                                          قال الزهري : فأخبرني سعيد بن المسيب قال : فلما كان عثمان شكي ذلك إليه ، فقال عثمان : نظرنا في هذه النحول فرأينا أحق من يحوز على الصبي أبوه - فهذه أصح رواية في هذا ، وصح أنهما مختلفان كما أوردنا .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق مالك عن الزهري عن عروة عن عبد الرحمن بن عبد القاري عن عمر بن الخطاب أنه قال : ما بال رجال ينحلون أبناءهم نحلا ثم يمسكونها ، فإن مات [ ص: 65 ] ابن أحدهم قال : مالي بيدي لم أعطه أحدا ، وإن مات قال : لابني قد كنت أعطيته إياه ، من نحل نحلة لم يحزها الذي نحلها حتى تكون لوارثه إن مات فهي باطل .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق ابن وهب عن مالك عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن عثمان بن عفان أنه قال : من نحل ولدا صغيرا له لم يبلغ أن يحوز نحلة فأعلن بها ، وأشهد عليها فهي جائزة وإن وليها أبوه .

                                                                                                                                                                                          قال ابن وهب : وأخبرني رجال من أهل العلم عن عمر بن الخطاب ، وعمر بن عبد العزيز ، وشريح ، والزهري وربيعة ، وبكير بن الأشج : من هذا .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق ابن وهب عن الحارث بن نبهان عن محمد بن عبيد الله هو العرزمي - عن عمرو بن شعيب ، وابن أبي مليكة ، وعطاء بن أبي رباح قال عمرو عن سعيد بن المسيب ، ثم اتفق سعيد وعطاء ، وابن أبي مليكة أن أبا بكر ، وعمر ، وعثمان ، وابن عباس ، وابن عمر ، قالوا : لا تجوز صدقة حتى تقبض .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن جابر الجعفي عن القاسم بن عبد الرحمن : كان معاذ بن جبل لا يجيز الصدقة حتى تقبض .

                                                                                                                                                                                          ورويناه من طريق وكيع عن سفيان بإسناده ، وزاد فيه : إلا الصبي بين أبويه .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق سعيد بن منصور نا هشيم أنا مجالد عن الشعبي : أن شريحا ومسروقا ، كانا لا يجيزان صدقة إلا مقبوضة - وكان الشعبي يقضي بذلك .

                                                                                                                                                                                          قال هشيم : وأخبرني مطرف هو ابن طريف - عن الشعبي قال : الواهب أحق بهبته ما كانت في يده فإذا أمضاها فقبضت ، فهي للموهوب له .

                                                                                                                                                                                          قال علي : هذا كل ما احتجوا به ، ما نعلم لهم شيئا غير هذا ، وكله لا حجة لهم في شيء منه ، فأما قول رسول الله : { إلا ما تصدقت ، أو أعطيت فأمضيت } فلم يقل عليه السلام : إن الإمضاء هو شيء آخر غير التصدق ، والإعطاء ، ولا جاء ذلك قط في لغة ، بل كل تصدق وإعطاء إعطاء ، فاللفظ بهما إمضاء لهما ، وإخراج لهما عن ملكه ، كما أن الأكل نفسه هو الإفناء ، واللباس هو الإبلاء ; لأن لكل لبسة حظها من الإبلاء ، فإذا تردد اللباس ظهر الإبلاء - فبطل تعلقهم بهذا الخبر . [ ص: 66 ]

                                                                                                                                                                                          وأيضا - فإن من قال : ما لي هذا صدقة على فلان ، أو قال : قد تصدقت عليك بهذا الشيء ، أو قال : مالي هذا هبة لفلان ، أو قال : قد وهبته لفلان - : فلا يختلف اثنان ممن يحسن اللغة العربية في أنه يقال : قد تصدق فلان بكذا على فلان ، وقد وهب له كذا فلو لم تكن الصدقة كاملة تامة باللفظ ، لكان المخبر عنه بأنه تصدق ، أو وهب كاذبا - فوجب حمل الحكم على ما توجبه اللغة ، ما لم يأت نص بحكم زائد لا تقتضيه اللغة فيوقف عنده ويعمل به .

                                                                                                                                                                                          ويسأل المالكيون خاصة عمن قال : قد وهبت هذا الشيء لك ، أو قال : هذا الشيء هبة لك ، أو قال : قد تصدقت عليك بهذا ، أو قال : هذا صدقة عليك - أتصدق ، ووهب بذلك الشيء أم لم يتصدق به ولا وهبه ؟ ولا ثالث لهذا التقسيم .

                                                                                                                                                                                          فإن قالوا : نعم ، قد تصدق به ووهبه ؟ قلنا : فإذ قد تصدق به ووهبه فقد تمت الصدقة والهبة وصحت ، فما يضرهما ترك الحيازة والقبض ، إذا لم يوجب ذلك نص ؟ فإن قالوا : لم يهب ولا تصدق ؟ قلنا : فمن أين استحللتم إجباره والحكم عليه بدفع مال من ماله لم يتصدق به عليه ، ولا وهبه إلى من لم يهبه له ولا تصدق به عليه ؟ هذا عين الظلم والباطل ، ولا مخلص لهم من أحدهما .

                                                                                                                                                                                          وأما من دون الصحابة فلا حجة في أحد دون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، لا سيما والخلاف قد ورد في ذلك من الصحابة رضي الله عنهم .

                                                                                                                                                                                          وأيضا - فأكثر تلك الأخبار إما لا تصح ، وإما قد جاءت بخلاف ما تعلقوا به من ألفاظها ، وإما قد خالفوا أولئك الصحابة فيما جاء عنهم ، كمجيء هذه الروايات ، أو بأصح على ما نبين بعد هذا إن شاء الله تعالى .

                                                                                                                                                                                          وأما قياسهم الهبة ، والصدقة على القرض ، والوصية ، والعارية - : فالقياس كله باطل ، ثم لو صح لكان هذا منه عين الباطل - : أما القرض : فقد أبطلوا - وهو لازم باللفظ ومحكوم به ولا بد - إذ لم يأت نص بخلاف هذا ، وإنما يبطل من القرض بعدم الإقباض مثل ما يبطل من الهبة ، والصدقة ، [ ص: 67 ] سواء سواء ، وليس ذلك إلا ما كان في غير معين ، مثل أن يقول : قد أقرضتك عشرة دنانير من مالي ، أو تصدقت عليك بعشرة دنانير من مالي ، أو وهبتك عشرة دنانير من مالي - : فهذا كله لا يلزم لما ذكرنا قبل : من أن كل ذلك لا يجوز ، إلا في معين ، وإلا فليس واهبا لشيء ، ولا متصدقا بشيء ، ولا مقرضا لشيء .

                                                                                                                                                                                          والقول في العارية كالقول فيما ذكرنا سواء سواء ، ولو صح هذا القياس لكان حجة عليهم .

                                                                                                                                                                                          وأيضا - فإن القرض يرجع فيه متى أحب ، والعارية كذلك ، ولا يرجع عندنا في الهبة ولا في الصدقة ، وأيضا - فإن الصدقة والهبة تمليك للرقبة بغير عوض ، والقرض تمليك للرقبة بعوض ، والعارية ليست تمليكا للرقبة أصلا - : فبطل قياس بعض ذلك على بعض لاختلاف أحكامها .

                                                                                                                                                                                          وليس قول من قال : اتفاق جميعها في أنها بر ومعروف فأنا أقيس بعضها على بعض بأولى ممن قال افتراقها في أحكامها يوجب أن لا يقاس بعضها على بعض ، وإذا كان الاتفاق يوجب القياس ، فالافتراق يبطل القياس ، وإلا فقد تحكموا بالدعوى بلا برهان .

                                                                                                                                                                                          ويقال لهم : هلا قستم كل ذلك على النذر الواجب عندكم باللفظ وإن لم يقبض ، فهو أشبه بالصدقة والهبة من العارية والقرض ؟ وأما الوصية : فقد كفونا مؤنة قياسهم عليها ، لأنهم لا يوجبون فيها الصحة بالقبض أصلا ، بل هي واجبة بالموت فقط .

                                                                                                                                                                                          وقولهم : لا تجب باللفظ دون معنى آخر - وهو الموت - فتمويه بارد فاسد ; لأن الموصي لم يوجب الوصية قط بلفظه ، بل إنما أوجبها بعد الموت فحينئذ وجبت بما أوجبها به فقط دون معنى آخر - : فظهر فساد قياسهم وبرده وغثاثته ، ومخالفته للحق - والحمد لله رب العالمين .

                                                                                                                                                                                          وأما الرواية عن الصحابة رضي الله عنهم فنبدأ بخبر أبي بكر ، وعائشة رضي الله عنهما فنقول - وبالله تعالى التوفيق - : [ ص: 68 ] لما نص الحديث أنه نحلها جداد عشرين وسقا من ماله بالغابة ، فلا يخلو ضرورة من أحد أمرين لا ثالث لهما - : إما أن يكون أراد نخلا تجد منها عشرين وسقا .

                                                                                                                                                                                          وإما أن يكون أراد تمرا يكون عشرين وسقا مجدودة ، لا بد من أحدهما وأي الأمرين كان فإنما هي عدة ؟ ولا يلزم هذه القضية عندهم ولا عندنا ; لأنها ليست في معين من النخل ، ولا معين من التمر ، وقد تجد عشرين وسقا من أربعين نخلة ، وقد تجد من مائتي نخلة ، وقد لا تجد من نخلة بالغابة عشرين وسقا لعاهة تصيب الثمرة ، فهذا لا يتم إلا حتى يعين النخل أو الأوساق في نخلة ، فيتم حينئذ بالجداد والحيازة ، فليست هذه القصة من الهبة المعروفة المحدودة ، ولا من الصدقة المعلومة المتميزة في ورد ولا صدر ، ولكنهم قوم يوهمون في الأخبار ما ليس فيها .

                                                                                                                                                                                          وأيضا - فقد روى هذا الخبر من هو أجل من عروة ، وآخر هو مثل عروة بخلاف ما رواه عروة - : كما روينا من طريق عبد الرزاق عن ابن جريج : أخبرني ابن أبي مليكة : أن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق أخبره أن أبا بكر الصديق قال لعائشة أم المؤمنين : يا بنية ، إني نحلتك نخلا من خيبر ، وإني أخاف أن أكون آثرتك على ولدي ، وأنك لم تكوني احتزتيه فرديه على ولدي ؟ فقالت : يا أبتاه ، لو كانت لي خيبر بجدادها لرددتها .

                                                                                                                                                                                          فالقاسم ليس دون عروة ، وابن أبي مليكة ليس دون ابن شهاب ; لأنه أدرك من الصحابة من لم يأخذ الزهري عنهم ، كأسماء وابن عمر وغيرهما - وابن جريج ليس دون مالك .

                                                                                                                                                                                          وهذه السياقة موافقة لقولنا لا لقولهم .

                                                                                                                                                                                          فمن الباطل أن يكون ما رووه مما لا يوافق قولهم ، بل يخالفه : حجة لما لا يوافقه ، ولا يكون ما رويناه موافقا لقولنا : حجة لما يوافقه هذه سواء سواء ممن أطلقها .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق ابن الجهم نا إبراهيم الحربي نا ابن نمير هو محمد بن عبد الله بن نمير - نا أبي عن الأعمش عن شقيق أبي وائل عن مسروق عن عائشة أم المؤمنين ، قالت : قال لي أبو بكر حين أحضر : إني قد كنت أبنتك بنحل فإن شئت أن تأخذي منه قطاعا أو قطاعين ثم تردينه إلى الميراث ؟ قالت : قد فعلت . [ ص: 69 ]

                                                                                                                                                                                          ولا خلاف من أن مسروقا أجل من عروة ; لأنه أفتى في خلافة عمر وكان أخص الناس بأم المؤمنين - وشقيق أجل من الزهري ; لأنه أدرك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وإن كان لم يره ، وصحب الصحابة من بعد موته عليه الصلاة والسلام الأكابر الأكابر .

                                                                                                                                                                                          والأعمش إنما يعارض به شيوخ مالك ; لأنه قد أدرك أنسا ورآه ، فهو من التابعين من القرن الثاني ، وإنما فيه كما ترى بأنه إنما استرده بإذنها ، لا بأنه لم يتم باللفظ .

                                                                                                                                                                                          ورويناه أيضا مرسلا كذلك ، من طريق وكيع عن إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي - فبطل تعلقهم بخبر أبي بكر جملة وعاد حجة عليهم - ولله تعالى الحمد ، وصح أنهما رأيا الهبة جائزة بغير قبض .

                                                                                                                                                                                          وأما الرواية عن أبي بكر ، وعمر ، وعثمان ، وابن عباس ، وابن عمر : لا تجوز صدقة حتى تقبض فباطل ; لأن راويها محمد بن عبيد الله العرزمي - وهو هالك مطرح . وأما الرواية عن عمر الموافقة للرواية عن عثمان فلا شيء ; لأن ابن وهب لم يسم من أخبره بها - والرواية عن معاذ فيها جابر الجعفي ، وبقية الرواية عن عمر ، وعثمان ، فهي حجة إلا أنهما اختلفا - : فعمر عم كل موهوب ، وعثمان خص من ذلك صغار الولد ، وإنما هي رأي من رأيهما اختلفا فيه ، لا تقوم به حجة على أحد - وقد صح عن أبي بكر ، وعائشة خلاف ذلك ، كما أوردنا .

                                                                                                                                                                                          وأيضا - فإنما هو عن عمر ، وعثمان في النحل خاصة ، لا في الصدقة .

                                                                                                                                                                                          وقد روينا من طريق الحجاج بن المنهال نا المعتمر بن سليمان التيمي قال : سمعت عيسى بن المسيب يحدث : أنه سمع القاسم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود يحدث عن أبيه عن جده عبد الله بن مسعود قال : الصدقة جائزة ، قبضت أو لم تقبض .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن جابر الجعفي عن القاسم بن عبد الرحمن قال كان علي بن أبي طالب ، وابن مسعود : يجيزان الصدقة - وإن لم تقبض - فهذا إسناد كإسناد حديث معاذ ، وتلك المنقطعات .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق ابن أبي شيبة نا وكيع عن همام عن قتادة [ عن الحسن البصري ] عن [ ص: 70 ] النضر بن أنس بن مالك قال : نحلني أبي نصف داره ، فقال أبو بردة : إن سرك أن تحوز ذلك فاقبضه ، فإن عمر قضى في الأنحال : ما قبض منه فهو جائز ، وما لم يقبض منه فهو ميراث - فهذا أنس بأصح سند لا يرى الحرز شيئا .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق سعيد بن منصور نا هشيم أنا يونس عن الحسن عن رجل وهب لامرأته قال : هي جائزة لها ، وإن لم تقبضها .

                                                                                                                                                                                          وكم قصة خالفوا فيها عمر ، وعثمان ، كقضائهما بولد المستحقة رقيقا لسيد أمهم ، وقضائهما في ولد العربي من الأمة بخمس من الإبل ، وكإباحتهما الاشتراط في الحج .

                                                                                                                                                                                          وما روي عن أبي بكر ، وعمر ، من إبطال هبة المجهول .

                                                                                                                                                                                          وككلام عمر ، وعثمان ، يوم الجمعة في الخطبة بحضرة المهاجرين والأنصار ، إذ ذكر له عمر غسل الجمعة ، وكإيجابهما القصاص من الوكزة واللطمة ، وسجودهما في الخطبة ، إذ قرآ السجدة بحضرة الصحابة دون مخالف وقولهما : من أشعر لزمته الحدود - ولا مخالف لهما من الصحابة ، وكتخييرهما المفقود إذا قدم امرأته بينها وبين الصداق - وغير ذلك كثير جدا ، فمرة هما حجة ومرة ليسا حجة .

                                                                                                                                                                                          وأما تقسيم مالك فيمن اعتمر مما تصدق به أو وهب الثلث فما فوقه ، أو ما دون الثلث ، فقول لا يعرف عن أحد قبله مع تناقضه هاهنا ، فجعل الثلث في حيز الكثير ، وجعله فيما تحكم فيه المرأة من مالها في حيز القليل - وهذا عجب جدا مع أنه خلاف مجرد للرواية عن عمر ، وعثمان وكل من روي عنه في ذلك من الصحابة لفظة ; لأن جميعهم إما مبطل للهبة فيما لم يجز جملة ، أو في الصدقة كذلك ، أو مجيز له جملة .

                                                                                                                                                                                          وأما قول أبي حنيفة : إن قبضها الموهوب له أو المتصدق عليه بغير إذن الواهب أو المتصدق فليس قبضا - فلا يعرف عن أحد قبله ، وهو مخالف للرواية عن عمر .

                                                                                                                                                                                          وعثمان في ذلك ; لأنهما رضي الله عنهما لم يقولا حتى يقبض بإذنه ، لكن قالا : حتى يقبض ، فإن كان قولهما حجة وإجماعا فقد خالف الحنفيون ، والمالكيون الحجة والإجماع بإقرارهم على أنفسهم وإن لم يكن قولهما حجة ولا إجماعا فلا معنى لاحتجاجهم به - فبطل تعلقهم بكل ما تعلقوا به من ذلك . [ ص: 71 ]

                                                                                                                                                                                          وأما قول الشافعي : فإننا روينا عن إبراهيم النخعي أن الصدقة جملة تتم بلا حيازة - واحتجوا : بأن الصدقة لا تكون إلا لله تعالى .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد ، وهذا ليس بشيء ; لأن الهبة إذا لم تكن لله تعالى ، فهي باطل ، فلو عملنا ذلك لما أجزناها ، إذ كل عمل عمل لغير الله تعالى فهو باطل ، ونبطل قوله في الهبة بما أبطلنا به قول أبي حنيفة ، ومالك - وبالله تعالى التوفيق .

                                                                                                                                                                                          واحتج أصحاب الشافعي : بأن الهبات والصدقات المطلقة يملكها أربابها ، فاحتاجوا إلى القبض - وأما الحبس فلا مالك لها إلا الله تعالى ، وكل شيء في قبضته عز وجل ، فلا قابض لها دونه .

                                                                                                                                                                                          قال علي : الأرض كلها وكل شيء لله تعالى ، لم يخرج شيء عن ملكه فيرد إليه ، وقد بطل قوله في الهبة والصدقة بما يبطل به قول مالك ، وأبي حنيفة - وبالله تعالى التوفيق .

                                                                                                                                                                                          فإذا بطل كل ما احتجوا به ، فالحجة لقولنا : قول الله تعالى : { أوفوا بالعقود } ، وهذا مكان الاحتجاج بهذه الآية ، لا حيث احتجوا بها مما بينت السنن أنه لا مدخل له فيها .

                                                                                                                                                                                          وكذلك قوله تعالى : { ولا تبطلوا أعمالكم } .

                                                                                                                                                                                          ومن تلفظ بالهبة أو الصدقة فقد عمل عملا ، وعقد عقدا لزمه الوفاء به ، ولا يحل لأحد إبطاله إلا بنص ، ولا نص في إبطاله - وبالله تعالى التوفيق .

                                                                                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                                                                                          الخدمات العلمية