الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
( قال ) : وإذا قال لها : إذا وضعت ما في بطنك فأنت طالق فولدت ولدين في بطن واحد وقع الطلاق بآخرهما ، وعليها العدة ; لأن حرف " ما " يوجب التعميم ، فشرط وقوع الطلاق أن تضع جميع ما في بطنها ، وذلك لا يحصل إلا بالولد الثاني ، وعلى هذا لو قال : إن كان حملك هذا جارية فأنت طالق واحدة ، وإن كان غلاما فأنت طالق اثنتين فولدت غلاما وجارية لم يقع عليها شيء ; لأن الحمل اسم لجميع ما في بطنها قال الله تعالى : { أجلهن أن يضعن حملهن } ، ولا تنقضي عدتها إلا بوضع جميع ما في بطنها .

فالشرط أن يكون جميع حملها غلاما أو جارية ، ولم يوجد ذلك حين ولدت غلاما وجارية في بطن واحد ألا ترى أنه لو كان قال : إن كان ما في هذا الجوالق حنطة فامرأته طالق ، وإن كان ما فيه شعيرا فعبده حر ، فإذا فيه شعير وحنطة لم يلزمه طلاق ولا عتق .

ونظير هذه المسألة امتحن أبو حنيفة رحمه الله تعالى فطنة الحسن بن زياد رضي الله عنه قال : ما تقول في عنز ولدت ولدين لا ذكرين ولا أنثيين ، ولا أسودين ولا أبيضين ؟ كيف يكون هذا ؟ فتأمل ساعة ثم قال : أحدهما ذكر [ ص: 110 ] والآخر أنثى ، وأحدهما أسود ، والآخر أبيض فتعجب من فطنته .

وإن قال لها : كلما حبلت فأنت طالق فولدت بعد هذا القول من حبل حادث فقد وقعت عليها تطليقة كما حبلت لوجود الشرط ، وانقضت عدتها بالولادة ، ولو كان جامعها بعد الحبل قبل أن تلد منه كان ذلك منه رجعة ; لأن الواقع بهذا اللفظ كان رجعيا ، والوطء في العدة من طلاق رجعي يكون رجعة ، فإن حبلت مرة أخرى ، طلقت ; لأنه عقد يمينه بكلمة كلما ، وكذلك في الحكم الثالث ، وإن قال : أنت طالق ما لم تلدي فهي طالق حين سكت ; لأنه جعلها طالقا في وقت لا تلد فيه بعد اليمين ، وكما سكت فقد وجد ذلك في قوله ما لم تحبلي ، وفي قوله ما لم تحيضي إلا أن يكون ذلك منها مع سكوته فحينئذ لا يقع ، وهذا ; لأن وقوع الطلاق بحيض بزمان ، وهو ما بعد كلامه وقد جعلها طالقا إلى غاية وهو أن تحيض أو تحبل أو تلد .

فإذا وجدت الغاية متصلا بسكوته فقد انعدم الزمان الذي أوقع فيه الطلاق ; لأن الشيء لا يكون غاية لنفسه فلا تطلق ، فإذا لم يوجد ذلك مع سكوته فقد وجد الزمان الذي أوقع فيه الطلاق فتطلق .

ولو قال : أنت طالق ما لم تحبلي ، أو ما لم تحيضي وهي حائض فهي طالق كما سكت ; لأن صيغة كلامه لحبل وحيض حادث ، يقال حبلت المرأة وحاضت عند ابتداء ذلك ولم يوجد ذلك متصلا بسكوته فلهذا تطلق ، فإن كان يعني ما فيه من الحبل والحيض دين فيما بينه وبين الله تعالى ; لأن استدامة الحيض بخروج الدم منها ساعة فساعة وما يبرز منها حادث من وجه فيجوز أن يطلق عليه اسم ابتداء الحيض مجازا ، ولكنه خلاف الظاهر فلا يدين في القضاء ويدين فيما بينه وبين الله تعالى .

وأما في الحبل فلا يدين في القضاء ولا فيما بينه وبين الله تعالى ; لأنه لا يتجدد الحبل في مدته ساعة فساعة فلا يكون لاستدامته اسم الابتداء لا حقيقة ولا مجازا ألا ترى أنه يقال : حاضت عشرة أيام ، ولا يقال : حبلت تسعة أشهر إنما يقال حبلت ووضعت لتسعة أشهر .

وإن قال لامرأته : قد طلقتك قبل أن أتزوجك ، فهذا باطل ; لأن ما ثبت بإقراره كالثابت بالمعاينة ; ولأنه أضاف الطلاق إلى وقت لم يكن مالكا للإيقاع عليها في ذلك الوقت فكان نافيا للوقوع عليها لا مثبتا ; كما لو قال : أنت طالق قبل أن تولدي ، أو تخلقي ، أو قبل أن أولد أو أن أخلق .

وكذلك لو قال : قد طلقتك أمس ، وإنما تزوجها اليوم لأنه أضاف الطلاق إلى وقت لم يكن مالكا للإيقاع في ذلك الوقت وإن كان تزوجها قبل أمس طلقت للحال ; لأنه أضاف إلى وقت كان مالكا للإيقاع في ذلك الوقت فكان كلامه معتبرا [ ص: 111 ] في الإيقاع ثم إنه وصفها بالطلاق في الحال مستندا إلى أمس ، وهو يملك الإيقاع عليها في الحال ، ولكن لا يملك الإسناد فلهذا تطلق في الحال .

التالي السابق


الخدمات العلمية