الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            قصة إبليس - لعنه الله - وابتداء أمره - فأولهم ، وإمامهم ، ورئيسهم إبليس . وكان الله تعالى قد حسن خلقه ، وشرفه ، وملكه على سماء الدنيا والأرض فيما ذكر ، وجعله مع ذلك خازنا من خزان الجنة ، فاستكبر على ربه ، وادعى الربوبية ، ودعا من كان تحت يده إلى عبادته ، فمسخه الله تعالى شيطانا رجيما ، وشوه خلقه ، وسلبه ما كان خوله ، ولعنه ، وطرده عن سماواته في العاجل ، ثم جعل مسكنه ، ومسكن أتباعه في الآخرة نار جهنم ، نعوذ بالله تعالى من نار جهنم ، ونعوذ بالله تعالى من غضبه ، ومن الحور بعد الكور . هل كان إبليس من الجن أو من الملائكة

            واختلف العلماء ، هل كان من الجن أو من الملائكة على قولين .

            أحدهما: أنه كان من الملائكة وأعظمهم قبيلة . وإن من الملائكة قبيلة يقال لهم الجن ، وكان منهم ، وكان [له] سلطان سماء الدنيا ، وكان له سلطان الأرض يسوس ما بين السماء والأرض ، فعصى فمسخه الله شيطانا رجيما .

            وروى الضحاك ، عن ابن عباس ، قال: كان إبليس من حي من أحياء الملائكة يقال له الجن خلق من نار السموم من بين الملائكة ، وخلق الملائكة كلهم من نور غير هذا الحي ، وخلق الجن الذين ذكروا في القرآن من مارج من نار ، وأول من سكن الأرض الجن فأفسدوا فيها وسفكوا الدماء ، وقتل بعضهم بعضا ، فبعث الله -عز وجل- إليهم إبليس في جند من الملائكة يقال لهم الجن ، فقتلهم إبليس ومن معه حتى ألحقهم بجزائر البحور وأطراف الجبال ، فلما فعل ذلك اغتر في نفسه ، فقال: لقد صنعت شيئا لم يصنعه أحد .

            وقال السدي ، عن أشياخه: كان إبليس على ملك السماء الدنيا ، وكان [مع] ملكه خازنا ، فوقع في صدره كبر ، وقال: ما أعطانا الله هذا إلا لمزية على الملائكة .

            وحكى أبو جعفر الطبري أن إبليس بعث حكما يقضي بين الجن في الأرض فقضى بينهم بالحق ألف سنة فسمي حكما ، فدخله الكبر فألقي بين الذين كان حكم بينهم العداوة والبغضاء حتى اقتتلوا ، فبعث الله -عز وجل- عليهم [نارا] فأحرقتهم ، فعرج السماء ، وأقام عند الملائكة يعبد الله إلى أن خلق آدم .

            والقول الثاني: إنه كان من الجن . قال الحسن : لم يكن إبليس من الملائكة قط .

            وقال شهر بن حوشب : كان إبليس من الجن الذين طردتهم الملائكة ، فأسره بعض الملائكة فذهب به إلى السماء .

            وقال سعد بن مسعود : كانت الملائكة تقاتل الجن فسبي إبليس ، وكان صغيرا ، وكان مع الملائكة يتعبد معها ، فلما أمروا أن يسجدوا سجدوا وأبى إبليس .

            وروى سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال: كان إبليس اسمه عزازيل ، ثم إبليس بعد .

            وقال ابن جريج : كان اسم إبليس في السماء الحارث .

            وقد روى ثور بن يزيد ، عن خالد بن معدان ، قال: خلق الله إبليس من مارج من نار ، فلما خلق علق في الهواء ، فقال: يا هواء إن كنت فوقي فارفعني إليك ، وإن كنت أسفل مني فأهبطني إليك . فنودي: إن الله بكل مكان ومع كل إنس وجان ، فاصطكت أسنانه ، وخرج من فيه شرر خلق من كل شررة شيطان مخلد .

            وعن سفيان ، قال: أوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام إن أول من مات إبليس ، وذلك أنه أول من عصاني ، وأنا أعد من عصاني من الموتى .

            وعن قتادة ، قال: لما أهبط إبليس ، قال: يا رب قد لعنته فما عمله؟ قال: السحر ، قال: فما قرآنه ، قال: الشعر ، قال: فما كتابه؟ قال: الوشم ، قال: فما طعامه؟ قال: كل ميتة وما لم يذكر اسم الله ، قال: فما شرابه؟ قال: كل مسكر ، قال: فأين مسكنه؟ قال: الحمام ، قال: فأين مجلسه؟ قال: الأسواق ، قال: فما مؤذنه؟ قال: المزمار ، قال: فما مصائده؟ قال: النساء .

            قال القرشي: بسنده عن مجاهد ، قال: لإبليس خمسة من ولده قد جعل كل واحد منهم على شيء من أمره ، ثم سماهم فذكر بترو ، والأعور ، ومسوط ، وداسم ، وزلنبور .

            فأما بتر فهو صاحب المصيبات الذي يأمر بشق الجيوب ، ولطم الخدود ، ودعوى الجاهلية . وأما الأعور فهو صاحب الزنا ، يأمر به ويزينه . وأما مسوط فهو صاحب الكذب الذي يسمع فيلقي فيخبره بالخبر فيذهب الرجل إلى القوم فيقول لهم: قد رأيت رجلا أعرف وجهه ، وما أدري ما اسمه حدثني بكذا وكذا ، وما هو الأمر .

            وأما داسم فهو الذي يدخل إلى أهله يريه العيب فيهم ويبغضه عليهم .

            وأما زلنبور فهو صاحب السرقى الذي يركز رايته في السوق ، ولا يزالون ملتطمين .

            وقال حوشب بن سيف ، قال: اسم الشيطان الذي يفتن الناس في الأسواق فنحواص .

            وقد روى سيف ، عن مجاهد أن إبليس نكح نفسه فباض خمس بيضات ، فهم أولاده . وهذا من أبعد الأقوال .

            وقال عكرمة : من أولاد إبليس القعقاع .

            وعن أبي ، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ، قال: "للوضوء شيطان يقال له الولهان ، فاتقوه - أو قال: فاحذروه" .

            قال أبو الحسين بن المنادي : وقد قيل إن أحد الشياطين يجيء في صورة طائر يقال له القرقصية يخفق بجناحه على عين الرجل الذي يقر على أهله الفاحشة فلا ينكر بعد ذلك عليها . والمقصود أن الجان خلقوا من النار ، وهم كبني آدم يأكلون ويشربون ويتناسلون ، ومنهم المؤمنون ومنهم الكافرون كما أخبر تعالى عنهم في سورة الجن ، وفي قوله تعالى : وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض وليس له من دونه أولياء أولئك في ضلال مبين [ الأحقاف : 29 - 32 ] . وقال تعالى : قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا وأنه تعالى جد ربنا ما اتخذ صاحبة ولا ولدا وأنه كان يقول سفيهنا على الله شططا وأنا ظننا أن لن تقول الإنس والجن على الله كذبا وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا وأنهم ظنوا كما ظننتم أن لن يبعث الله أحدا وأنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرسا شديدا وشهبا وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا وأنا منا الصالحون ومنا دون ذلك كنا طرائق قددا وأنا ظننا أن لن نعجز الله في الأرض ولن نعجزه هربا وأنا لما سمعنا الهدى آمنا به فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخسا ولا رهقا وأنا منا المسلمون ومنا القاسطون فمن أسلم فأولئك تحروا رشدا وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا لنفتنهم فيه ومن يعرض عن ذكر ربه يسلكه عذابا صعدا [ الجن : 1 - 17 ] . وفي بعض الآثار من جن بصرى ، وأنهم مروا برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قائم يصلي بأصحابه ببطن نخلة من أرض مكة فوقفوا فاستمعوا لقراءته ، ثم اجتمع بهم النبي صلى الله عليه وسلم ليلة كاملة فسألوه عن أشياء أمرهم بها ونهاهم عنها ، وسألوه الزاد فقال : لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه تجدونه أوفر ما يكون لحما ، وكل روثة علف لدوابكم ، ونهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يستنجى بهما . وقال : إنهما زاد إخوانكم الجن . ونهى عن البول في السرب ; لأنها مساكن الجن ، وقرأ عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة " الرحمن " فما جعل يمر فيها بآية : فبأي آلاء ربكما تكذبان . إلا قالوا : ولا بشيء من آلائك ربنا نكذب ، فلك الحمد . وقد أثنى عليهم النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك لما قرأ هذه السورة على الناس فسكتوا فقال : الجن كانوا أحسن منكم ردا ما قرأت عليهم فبأي آلاء ربكما تكذبان إلا قالوا : ولا بشيء من آلائك ربنا نكذب ، فلك الحمد . رواه الترمذي ، عن جابر ، وابن جرير ، والبزار ، عن ابن عمر .

            وقد اختلف العلماء في مؤمني الجن هل يدخلون الجنة أو يكون جزاء طائعهم أن لا يعذب بالنار فقط ؟ على قولين ; الصحيح : أنهم يدخلون الجنة لعموم القرآن ، ولعموم قوله تعالى : ولمن خاف مقام ربه جنتان فبأي آلاء ربكما تكذبان [ الرحمن : 46 - 47 ] . فامتن تعالى عليهم بذلك فلولا أنهم ينالونه لما ذكره ، وعده عليهم من النعم ، وهذا وحده دليل مستقل كاف في المسألة ، والله أعلم .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية