الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : وأنذر عشيرتك الأقربين .

                                                                                                                                                                                                                                      أخرج أحمد ، وعبد بن حميد ، والبخاري ، ومسلم ، والترمذي ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، والبيهقي في "شعب الإيمان"، وفي "الدلائل"، عن أبي هريرة قال : لما نزلت هذه الآية : وأنذر عشيرتك الأقربين دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشا، وعم وخص، فقال : «يا معشر قريش، أنقذوا أنفسكم من النار، فإني لا أملك لكم ضرا ولا نفعا، يا معشر بني كعب بن لؤي، أنقذوا أنفسكم من النار، فإني لا أملك لكم ضرا ولا نفعا، يا معشر بني قصي، أنقذوا أنفسكم من النار، فإني لا أملك لكم ضرا ولا نفعا، يا معشر بني عبد مناف، أنقذوا أنفسكم من النار، فإني لا أملك لكم ضرا ولا نفعا، يا بني عبد المطلب، أنقذوا أنفسكم من النار، فإني لا أملك لكم ضرا ولا نفعا، يا فاطمة بنت محمد، أنقذي نفسك من النار، فإني لا أملك لك ضرا ولا نفعا، إلا أن لكم رحما وسأبلها ببلالها» .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج أحمد ، ومسلم ، والترمذي ، وابن جرير ، وابن مردويه ، عن عائشة [ ص: 304 ] قالت : لما نزلت : وأنذر عشيرتك الأقربين قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : «يا فاطمة ابنة محمد، يا صفية ابنة عبد المطلب، يا بني عبد المطلب، لا أملك لكم من الله شيئا، سلوني من مالي ما شئتم» .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن مردويه ، عن عروة مرسلا، مثله .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج مسدد، ومسلم ، والنسائي ، وابن جرير ، والبغوي في "معجمه"، والباوردي، والطحاوي ، وأبو عوانة، وابن قانع، والطبراني ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، والبيهقي في "الدلائل"، عن قبيصة بن مخارق، وزهير بن عمرو قالا : لما نزلت : وأنذر عشيرتك الأقربين انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رضمة من جبل، فعلا أعلاها حجرا، ثم قال : «يا بني عبد منافاه، إني نذير، إنما مثلي ومثلكم كمثل رجل رأى العدو فانطلق يربأ أهله، فخشي أن يسبقوه إلى أهله، فجعل يهتف : يا صباحاه، [ ص: 305 ] يا صباحاه، أتيتم، أتيتم» .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج عبد بن حميد ، والترمذي ، وابن جرير ، وابن مردويه ، عن أبي موسى، الأشعري قال : لما نزلت : وأنذر عشيرتك الأقربين وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم إصبعيه في أذنيه، ورفع صوته وقال : «يا بني عبد مناف، يا صباحاه» .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن مردويه ، عن أنس قال : لما نزلت : وأنذر عشيرتك الأقربين . بكى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم جمع أهله فقال : «يا بني عبد مناف، أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد المطلب، أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني هاشم، أنقذوا أنفسكم من النار» . ثم التفت إلى فاطمة فقال : «يا فاطمة بنت محمد، أنقذي نفسك من النار؛ فإني لا أغني عنكم من الله شيئا غير أن لكم رحما سأبلها ببلالها» .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن مردويه عن البراء قال : لما نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم : وأنذر عشيرتك الأقربين صعد النبي صلى الله عليه وسلم رضمة من جبل، فنادى : «يا صباحاه» . فاجتمعوا فحذرهم وأنذرهم، ثم قال : «لا أملك لكم من الله شيئا، يا فاطمة بنت محمد، أنقذي نفسك من النار، فإني لا أملك لك من الله شيئا» .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 306 ] وأخرج ابن مردويه عن الزبير بن العوام قال : لما نزلت : وأنذر عشيرتك الأقربين صاح على أبي قبيس : «يا آل عبد مناف، إني نذير» . فجاءته قريش فحذرهم وأنذرهم .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن مردويه ، عن عدي بن حاتم، أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر قريشا فقال : « وأنذر عشيرتك الأقربين يعني : قومي» .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج عبد بن حميد ، وابن مردويه ، عن ابن عباس قال : لما نزلت : وأنذر عشيرتك الأقربين جعل يدعوهم قبائل قبائل .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج سعيد بن منصور ، والبخاري ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، عن ابن عباس قال : لما نزلت : (وأنذر عشيرتك الأقربين ورهطك منهم المخلصين) . خرج النبي صلى الله عليه وسلم حتى صعد على الصفا، فنادى : «يا صباحاه» . فقالوا : من هذا الذي يهتف؟ قالوا : محمد . فاجتمعوا إليه، فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولا لينظر ما هو، فجاء أبو لهب وقريش، فقال : «أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي تريد أن تغير عليكم، أكنتم مصدقي؟» . قالوا : نعم، ما جربنا عليك إلا صدقا . قال : «فإني نذير لكم [ ص: 307 ] بين يدي عذاب شديد» . فقال أبو لهب : تبا لك سائر اليوم، ألهذا جمعتنا! فنزلت : تبت يدا أبي لهب وتب [المسد : 1] .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج عبد بن حميد عن قتادة : وأنذر عشيرتك الأقربين قال : ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم نادى على الصفا بأفخاذ عشيرته، فخذا فخذا، يدعوهم إلى الله، فقال في ذلك المشركون : لقد بات هذا الرجل يهوت منذ الليلة . قال : وقال الحسن : جمع نبي الله صلى الله عليه وسلم أهل بيته قبل موته، فقال : «ألا إن لي عملي ولكم عملكم، ألا إني لا أغني عنكم من الله شيئا، ألا إن أوليائي منكم المتقون، ألا لا أعرفنكم يوم القيامة تأتون بالدنيا تحملونها على رقابكم، ويأتي الناس يحملون الآخرة، يا صفية بنت عبد المطلب، يا فاطمة بنت محمد، اعملا؛ فإني لا أغني عنكما من الله شيئا» .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج عبد بن حميد عن عكرمة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «يا بني هاشم، ويا صفية عمة رسول الله، إني لا أغني عنكم من الله شيئا، إياكم أن يأتين الناس يحملون الآخرة، وتأتون أنتم تحملون الدنيا، وإنكم تردون على الحوض ذات الشمال وذات اليمين، فيقول القائل منكم : يا رسول الله، أنا فلان بن فلان . فأعرف الحسب وأنكر الوصف، فإياكم أن يأتي أحدكم يوم القيامة وهو [ ص: 308 ] يحمل على ظهره فرسا ذات حمحمة، أبو بعيرا له رغاء، أو شاة لها ثغاء، أو يحمل قشعا من أدم، فتختلجون من دوني، ويقال لي : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك . فاطيبوا نفسي، وإياكم أن ترجعوا القهقرى من بعدي» . قال عكرمة : إنما قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا القول حيث أنزل الله عليه : وأنذر عشيرتك الأقربين .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج الطبراني ، وابن مردويه ، عن أبي أمامة قال : لما نزلت : وأنذر عشيرتك الأقربين جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بني هاشم فأجلسهم على الباب، وجمع نساءه وأهله فأجلسهم في البيت، ثم اطلع عليهم فقال : «يا بني هاشم، اشتروا أنفسكم من النار، واسعوا في فكاك رقابكم، أو افتكوا أنفسكم من الله، فإني لا أملك لكم من الله شيئا» . ثم أقبل على أهل بيته، فقال : «يا عائشة بنت أبي بكر، ويا حفصة بنت عمر، ويا أم سلمة، ويا فاطمة بنت محمد، ويا أم الزبير عمة رسول الله، اشتروا أنفسكم من الله، واسعوا في فكاك رقابكم؛ فإني لا أملك لكم من الله شيئا ولا أغني» . فبكت عائشة وقالت : وهل يكون ذلك، يوم لا تغني عنا شئيا؟ قال : «نعم، في ثلاثة مواطن؛ يقول الله : ونضع الموازين القسط ليوم القيامة الآيتين [الأنبياء : 47] . فعند ذلك لا أغني عنكم من الله شيئا، ولا أملك لكم من الله شيئا، وعند النور، من شاء [ ص: 309 ] الله أتم له نوره، ومن شاء أكبه في الظلمات يغمه فيها، فلا أملك لكم من الله شيئا، ولا أغني عنكم، من الله شيئا، وعند الصراط، من شاء الله سلمه، ومن شاء أجازه، ومن شاء كبكبه في النار» . قالت عائشة : قد علمنا الموازين، هي الكفتان، فيوضع في هذه اليسرى، فترجح إحداهما وتخف الأخرى، وقد علمنا ما النور وما الظلمة، فما الصراط؟ قال : «طريق بين الجنة والنار، يجوز الناس عليها، وهو مثل حد الموسى، والملائكة صافة يمينا وشمالا، يخطفونهم بالكلاليب مثل شوك السعدان وهم يقولون : رب سلم سلم . وأفئدتهم هواء، فمن شاء الله سلمه، ومن شاء كبكبه فيها» .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن إسحاق ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، وأبو نعيم ، والبيهقي ، معا في "الدلائل"، من طرق عن علي قال : لما نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم : وأنذر عشيرتك الأقربين دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : «يا علي، إن الله أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين، فضقت بذلك ذرعا، وعرفت أني مهما أبادئهم بهذا الأمر أرى منهم ما أكره، فصمت عليها حتى جاء جبريل فقال : يا محمد، إنك إن لم تفعل ما تؤمر به يعذبك ربك فاصنع [ ص: 310 ] لي صاعا من طعام، واجعل عليه رجل شاة، واجعل لنا عسا من لبن، ثم اجمع لي بني عبد المطلب حتى أكلمهم وأبلغ ما أمرت به» . ففعلت ما أمرني به، ثم دعوتهم له، وهم يومئذ أربعون رجلا، يزيدون رجلا أو ينقصونه، فيهم أعمامه أبو طالب، وحمزة، والعباس وأبو لهب . فلما اجتمعوا إليه دعاني بالطعام الذي صنعت لهم، فجئت به، فلما وضعته تناول النبي صلى الله عليه وسلم حذية من اللحم فشقها بأسنانه ثم ألقاها في نواحي الصحفة، ثم قال : «كلوا باسم الله» . فأكل القوم حتى نهلوا عنه، ما نرى إلا آثار أصابعهم، والله إن كان الرجل الواحد ليأكل ما قدمت لجميعهم، ثم قال : «اسق القوم يا علي» . فجئتهم بذلك العس، فشربوا منه حتى رووا جميعا . وايم الله، إن كان الرجل منهم ليشرب مثله، فلما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يكلمهم بدره أبو لهب إلى الكلام، فقال : لقد سحركم صاحبكم . فتفرق القوم ولم يكلمهم النبي صلى الله عليه وسلم . فلما كان الغد، قال : «يا علي، إن هذا الرجل قد سبقني إلى ما سمعت من القول، فتفرق القوم قبل أن أكلمهم، فعد لنا بمثل الذي صنعت بالأمس من [ ص: 311 ] الطعام والشراب، ثم اجمعهم لي» . ففعلت، ثم جمعتهم، ثم دعاني بالطعام فقربته، ففعل كما فعل بالأمس، فأكلوا وشربوا حتى نهلوا، ثم تكلم النبي صلى الله عليه وسلم فقال : «يا بني عبد المطلب، إني والله ما أعلم شابا في العرب جاء قومه بأفضل مما جئتكم به، إني قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة، وقد أمرني الله أن أدعوكم إليه، فأيكم يؤازرني على أمري هذا؟» . فقلت وأنا أحدثهم سنا : أنا . فقام القوم يضحكون .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن مردويه عن البراء بن عازب قال : لما نزلت هذه الآية : وأنذر عشيرتك الأقربين جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بني عبد المطلب وهم يومئذ أربعون رجلا، منهم العشرة يأكلون المسنة ويشربون العس، فأمر عليا برجل شاة فصنعها لهم، ثم قربها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ منها بضعة فأكل منها، ثم تتبع بها جوانب القصعة، ثم قال : «ادنوا باسم الله» . فدنا القوم عشرة عشرة، فأكلوا حتى صدروا، ثم دعا بقعب من لبن فجرع منها جرعة فناولهم [ ص: 312 ] فقال : «اشربوا باسم الله» . فشربوا حتى رووا عن آخرهم، فقطع كلامهم رجل، فقال : لهد ما سحركم مثل هذا الرجل! فأسكت النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ فلم يتكلم . ثم دعاهم من الغد على مثل ذلك من الطعام والشراب، ثم بدرهم بالكلام فقال : «يا بني عبد المطلب، إني أنا النذير إليكم من الله والبشير، قد جئتكم بما لم يجئ به أحد، جئتكم بالدنيا والآخرة، فأسلموا تسلموا، وأطيعوا تهتدوا» .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن مردويه ، عن ابن عباس في قوله : وأنذر عشيرتك الأقربين قال : أمر الله محمدا صلى الله عليه وسلم أن ينذر قومه، ويبدأ بأهل بيته وفصيلته، قال : وكذب به قومك وهو الحق [الأنعام : 66] .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن جرير ، عن عمرو بن مرة، أنه كان يقرأ : (وأنذر عشيرتك الأقربين ورهطك منهم المخلصين) .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن مردويه ، وابن عساكر ، والديلمي عن عبد الواحد الدمشقي قال : رأيت أبا الدرداء يحدث الناس ويفتيهم، وولده وأهل بيته جلوس في جانب يتحدثون، فقيل له : يا أبا الدرداء، ما بال الناس يرغبون فيما عندك من [ ص: 313 ] العلم، وأهل بيتك جلوس لاهين؟ فقال : إني سمعت نبي الله صلى الله عليه وسلم يقول : «إن أزهد الناس في الأنبياء، وأشدهم عليهم، الأقربون، وذلك فيما أنزل الله : وأنذر عشيرتك الأقربين » . إلى آخر الآية، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إن أزهد الناس في العالم أهله حتى يفارقهم، وإنه ليشفع في أهل داره وجيرانه، فإذا مات خلا عنهم من مردة الشياطين أكثر من عدد ربيعة ومضر قد كانوا مشتغلين به، فأكثروا التعوذ بالله منهم» .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن عساكر ، عن محمد بن جحادة، أن كعبا لقي أبا مسلم الخولاني فقال : كيف كرامتك على قومك؟ قال : إني عليهم لكريم . قال : إني أجد في التوراة غير ما تقول . قال : وما هو؟ قال : وجدت في التوراة، أنه لم يكن حكيم في قوم إلا كان أزهدهم فيه قومه، ثم الأقرب فالأقرب، فإن كان في حسبه شيء عيروه به، وإن كان عمل برهة من دهره ذنبا عيروه به .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج البيهقي في "المدخل"، عن كعب، أنه قال لأبي مسلم : كيف تجد قومك لك؟ قال : مكرمين مطيعين . قال : ما صدقتني التوراة إذن، ما كان رجل حكيم في قوم إلا بغوا عليه وحسدوه .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية