الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
[فصل]

في صفة السجود

اعلم أن الساجد للتلاوة له حالان:

1 – أحدهما: أن يكون خارج الصلاة.

2 – والثاني: أن يكون فيها.

أما الأول: فإذا أراد السجود نوى سجود التلاوة ، وكبر للإحرام، ورفع يديه حذو منكبيه، كما يفعل في تكبيرة الإحرام للصلاة، ثم يكبر تكبيرة أخرى للهوي إلى السجود، ولا يرفع فيها اليد، وهذه التكبيرة الثانية مستحبة ليست بشرط كتكبيرة سجدة الصلاة.

وأما التكبيرة الأولى تكبيرة الإحرام ففيها ثلاثة أوجه لأصحابنا:

[ ص: 149 ] 1 – أظهرها: وهو قول الأكثرين منهم أنها ركن، ولا يصح السجود إلا بها.

2 – والثاني: أنها مستحبة، ولو تركت صح السجود، وهذا قول الشيخ أبي محمد الجويني .

3 – والثالث: ليست مستحبة، والله أعلم.

ثم إن كان الذي يريد السجود قائما كبر للإحرام في حال قيامه، ثم يكبر للسجود في انحطاطه إلى السجود، وإن كان جالسا فقد قال جماعات من أصحابنا: يستحب له أن يقوم فيكبر للإحرام قائما، ثم يهوي للسجود، كما إذا كان في الابتداء قائما، ودليل هذا القياس على الإحرام والسجود في الصلاة.

وممن نص على هذا وجزم به من أئمة أصحابنا: الشيخ أبو محمد الجويني ، والقاضي حسين وصاحباه صاحب "التتمة" و"التهذيب" والإمام المحقق أبو القاسم الرافعي ، وحكاه إمام الحرمين عن والده الشيخ أبي محمد ، ثم أنكره، وقال: لم أر لهذا أصلا ولا ذكرا.

وهذا الذي قاله إمام الحرمين ظاهر، فلم يثبت فيه شيء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا عمن يقتدى به من السلف، ولا تعرض له الجمهور من أصحابنا، والله أعلم.

[ ص: 150 ] ثم إذا سجد فينبغي أن يراعي آداب السجود في الهيئة والتسبيح:

أما الهيئة فينبغي أن يضع يديه حذو منكبيه على الأرض، ويضم أصابعه وينشرها إلى جهة القبلة، ويخرجها من كمه، ويباشر المصلى بها، ويجافي مرفقيه عن جنبيه، ويرفع بطنه عن فخذيه إن كان رجلا، فإن كانت امرأة أو خنثى لم يجاف، ويرفع الساجد أسافله على رأسه، ويمكن جبهته وأنفه من المصلى، ويطمئن في سجوده.

[ ص: 151 ] وأما التسبيح في السجود فقال أصحابنا: يسبح بما يسبح به في سجود الصلاة، فيقول ثلاث مرات: (سبحان ربي الأعلى) ثم يقول: اللهم لك سجدت، وبك آمنت، ولك أسلمت، سجد وجهي للذي خلقه وصوره، وشق سمعه وبصره بحوله وقوته، تبارك الله أحسن الخالقين.

ويقول: سبوح قدوس رب الملائكة والروح.

فهذا كله مما يقوله المصلي في سجود الصلاة.

قالوا: ويستحب أن يقول: اللهم اكتب لي بها عندك أجرا، واجعلها لي عندك ذخرا، وضع عني وزرا، واقبلها مني كما قبلتها من عبدك داود صلى الله عليه وسلم.

وهذا الدعاء خصيص بهذا السجود، فينبغي أن يحافظ عليه.

وذكر الأستاذ إسماعيل الضرير في كتابه "التفسير" أن اختيار الشافعي - رضي الله عنه - في دعاء سجود التلاوة أن يقول: سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا وهذا النقل عن الشافعي غريب جدا، وهو حسن؛ فإن ظاهر القرآن يقتضي مدح قائله في السجود، فيستحب أن يجمع بين هذه الأذكار كلها، ويدعو بما يريد من أمور الآخرة والدنيا.

وإن اقتصر على بعضها حصل أصل التسبيح، ولو لم يسبح بشيء أصلا حصل السجود كسجود الصلاة.

[ ص: 152 ] ثم إذا فرغ من التسبيح والدعاء رفع رأسه مكبرا، وهل يفتقر إلى السلام؟ فيه قولان منصوصان للشافعي مشهوران:

1 – أصحهما: عند جماهير أصحابه أنه يفتقر لافتقاره إلى الإحرام، ويصير كصلاة الجنازة، ويؤيد هذا ما رواه ابن أبي داود بإسناده الصحيح، عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - أنه كان إذا قرأ السجدة سجد ثم سلم .

2 - والثاني: لا يفتقر، كسجود التلاوة في الصلاة؛ ولأنه لم ينقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك.

فعلى الأول هل يفتقر إلى التشهد؟ فيه وجهان:

أصحهما: لا يفتقر، كما لا يفتقر إلى القيام.

وبعض أصحابنا يجمع بين المسألتين، ويقول في التشهد والسلام ثلاثة أوجه:

1 - أصحها: أنه لا بد من السلام دون التشهد.

2 - والثاني: لا يحتاج إلى واحد منهما.

3 - والثالث: لا بد منهما.

وممن قال من السلف يسلم: محمد بن سيرين ، وأبو عبد الرحمن السلمي ، وأبو الأحوص ، وأبو قلابة ، وإسحاق بن راهويه .

وممن قال لا يسلم: الحسن البصري ، وسعيد بن جبير ، وإبراهيم النخعي ، ويحيى بن وثاب ، وأحمد .

[ ص: 153 ] وهذا كله في الحال الأول وهو السجود خارج الصلاة.

والحال الثاني أن يسجد للتلاوة في الصلاة ، فلا يكبر للإحرام، ويستحب أن يكبر للسجود، ولا يرفع يديه، ويكبر للرفع من السجود، هذا هو الصحيح المشهور الذي قاله الجمهور.

وقال أبو علي بن أبي هريرة من أصحابنا: لا يكبر للسجود ولا للرفع، والمعروف الأول.

وأما الآداب في هيئة السجود والتسبيح فعلى ما تقدم في السجود خارج الصلاة، إلا أنه إذا كان الساجد إماما فينبغي أن لا يطول التسبيح إلا أن يعلم من حال المأمومين أنهم يؤثرون التطويل.

ثم إذا رفع من السجود قام ولا يجلس للاستراحة بلا خلاف، وهذه مسألة غريبة، قل من نص عليها، وممن نص عليها القاضي حسين ، والبغوي ، والرافعي .

هذا بخلاف سجود الصلاة؛ فإن القول الصحيح المنصوص للشافعي المختار الذي جاءت به الأحاديث الصحيحة في البخاري وغيره - استحباب جلسة للاستراحة عقيب السجدة الثانية من الركعة الأولى في كل الصلوات، ومن الثالثة في الرباعيات.

ثم إذا رفع من سجدة التلاوة فلا بد من الانتصاب قائما، والمستحب إذا انتصب أن يقرأ شيئا، ثم يركع، فإن انتصب ثم ركع من غير قراءة جاز.

التالي السابق


الخدمات العلمية