الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( ولا بأس بالكحل ودهن الشارب ) لأنه نوع [ ص: 346 ] ارتفاق وهو ليس من محظورات الصوم ، وقد ندب النبي صلى الله عليه وسلم إلى الاكتحال يوم عاشوراء وإلى [ ص: 347 ] الصوم فيه ، ولا بأس بالاكتحال للرجال إذا قصد به التداوي دون الزينة ، ويستحسن دهن الشارب إذا لم يكن من قصده الزينة لأنه يعمل عمل الخضاب ، ولا يفعل لتطويل اللحية إذا كانت بقدر المسنون وهو القبضة .

التالي السابق


( قوله : ودهن الشارب ) بفتح الدال على أنه مصدر وبضمها على إقامة اسم العين مقام المصدر ، وفي الأمثلة : عجبت من دهنك [ ص: 346 ] لحيتك بضم الدال وفتح التاء على هذه الإقامة ( قوله : ندب النبي إلى الاكتحال إلخ ) أما ندبه إلى صوم عاشوراء فأشهر من أن يبدى ، وقد ذكرنا من ذلك في أول كتاب الصوم أحاديث ، وأما ندبه إلى الكحل فيه ففي حديثين روى أحدهما البيهقي عن الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما قال { من اكتحل بالإثمد يوم عاشوراء لم ير رمدا أبدا } وضعفه بجويبر والضحاك لم يلق ابن عباس رضي الله عنهما ، ومن طريق آخر رواه ابن الجوزي في الموضوعات عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { من اكتحل يوم عاشوراء لم ترمد عينه تلك السنة } وقال : في رجاله من ينسب إلى التغفيل ، وقد روى الترمذي عن أبي عاتكة عن أنس قال { جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال : اشتكت عيني أفأكتحل وأنا صائم ؟ قال نعم } قال الترمذي : وإسناده ليس بالقوي ، ولا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب شيء وأبو عاتكة مجمع على ضعفه .

وأخرج ابن ماجه عن بقية : حدثنا الزبيدي عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت { اكتحل النبي صلى الله عليه وسلم وهو صائم } وظن بعض العلماء أن الزبيدي في مسند ابن ماجه هو محمد بن الوليد الثقة الثبت ، وهو وهم ، وإنما هو سعيد بن أبي سعيد الزبيدي الحمصي كما هو مصرح به في مسند البيهقي ، ولكن الراوي دلسه ، قال في التنقيح : ليس هو بمجهول ، كما قاله ابن عدي والبيهقي بل هو سعيد بن عبد الجبار الزبيدي الحمصي وهو مشهور ، ولكنه مجمع على ضعفه . وابن عدي في كتابه فرق بين سعيد بن أبي سعيد وسعيد بن عبد الجبار وهما واحد ، وأخرجه البيهقي عن محمد بن عبيد الله بن أبي رافع قال : وليس بالقوي عن أبيه عن جده { أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكتحل وهو صائم } وأخرج أبو داود موقوفا على أنس عن عتبة بن أبي معاذ عن عبيد الله بن أبي بكر بن أنس بن مالك " أنه كان يكتحل ، وهو صائم " قال في التنقيح : إسناده مقارب قال أبو حاتم عتبة بن حميد الضبي : أبو معاذ البصري صالح الحديث ، فهذه عدة طرق إن لم يحتج بواحد منها فالمجموع يحتج به لتعدد الطرق ، وأما ما في أبي داود عن عبد الرحمن بن النعمان بن معبد بن هودة عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم { أنه أمر بالإثمد عند النوم ، وقال : ليتقه الصائم } فقال أبو داود : قال لي يحيى بن معين : هذا حديث منكر .

قال صاحب التنقيح : ومعبد وابنه النعمان كالمجهولين إذ لا يعرف لهما غير هذا الحديث . وعبد الرحمن بن النعمان قال : ابن معين ضعيف ، وقال أبو حاتم : صدوق . ولا تعارض بين [ ص: 347 ] كلاميهما إذ الصدق لا ينفي سائر وجوه الضعف ( قوله : دون الزينة ) لأنه معروف من زينة النساء ثم قيد دهن الشارب بذلك أيضا ، وليس فيه ذلك ، وفي الكافي : يستحب دهن شعر الوجه إذا لم يكن من قصده الزينة به وردت السنة فقيد بانتفاء هذا القصد ، فكأنه ، والله أعلم لأنه تبرج بالزينة . وقد روى أبو داود والنسائي عن ابن مسعود { كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكره عشر خلال ذكر منها التبرج بالزينة لغير محلها } وسنورده بتمامه إن شاء الله تعالى في كتاب الكراهية .

وما في الموطإ عن { أبي قتادة قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم إن لي جمة أفأرجلها ؟ قال : نعم ، وأكرمها } فكان أبو قتادة ربما دهنها في اليوم مرتين من أجل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم { نعم ، وأكرمها } فإنما هو مبالغة من أبي قتادة في قصد الامتثال لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لا لحظ النفس الطالبة للزينة الظاهرة ، وذلك لأن الإكرام والجمال المطلوب يتحقق مع دون هذا المقدار ، وفي سنن النسائي أن رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقال له عبيد قال { : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينهى عن كثير من الإرفاه } فسئل ابن بريدة عن الإرفاه قال : الترجيل ، والمراد ، والله أعلم الترجيل الزائد الذي يخرج إلى حد الزينة لا ما كان لقصد دفع أذى الشعر والشعث ، هذا ولا تلازم بين قصد الجمال ، وقصد الزينة ، فالقصد الأول لدفع الشين وإقامة ما به الوقار وإظهار النعمة شكرا لا فخرا ، وهو أثر أدب النفس وشهامتها ، والثاني أثر ضعفها ، وقالوا : بالخضاب وردت السنة ، ولم يكن لقصد الزينة ثم بعد ذلك إن حصلت زينة فقد حصلت في ضمن قصده مطلوب فلا يضره إذا لم يكن ملتفتا إليه ( قوله : وهو ) أي القدر المسنون في اللحية ( القبضة ) بضم القاف ، قال في النهاية : وما وراء ذلك يجب قطعه هكذا عن { رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يأخذ من اللحية من طولها وعرضها } أورده أبو عيسى يعني الترمذي في جامعه ، رواه من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص .

فإن قلت : يعارضه ما في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما عنه عليه الصلاة والسلام { أحفوا الشوارب وأعفوا اللحية } فالجواب : أنه قد صح عن ابن عمر راوي هذا الحديث أنه كان يأخذ الفاضل عن القبضة ، قال محمد بن الحسن في كتاب الآثار : أخبرنا أبو حنيفة عن أبي الهيثم عن ابن عمر رضي الله عنهما " أنه كان يقبض على لحيته ثم يقص ما تحت القبضة " ورواه أبو داود والنسائي في كتاب الصوم عن علي بن الحسن بن شقيق عن الحسن بن واقد عن مروان بن سالم المقنع قال : رأيت ابن عمر رضي الله عنه يقبض على لحيته فيقطع ما زاد على الكف وقال : { كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أفطر قال : ذهب الظمأ وابتلت العروق وثبت الأجر إن شاء الله تعالى } وذكره البخاري تعليقا فقال : " وكان ابن عمر رضي الله عنه إذا حج أو اعتمر قبض على لحيته فما فضل أخذه " وقد روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أيضا أسنده ابن أبي شيبة عنه : حدثنا أبو أسامة عن شعبة عن عمر بن أيوب من ولد جرير عن أبي زرعة قال " كان أبو هريرة رضي الله عنه يقبض على لحيته [ ص: 348 ] فيأخذ ما فضل عن القبضة " فأقل ما في الباب إن لم يحمل على النسخ كما هو أصلنا في عمل الراوي على خلاف مرويه مع أنه روي عن غير الراوي .

وعن النبي صلى الله عليه وسلم يحمل الإعفاء على إعفائها من أن يأخذ غالبها أو كلها ، كما هو فعل مجوس الأعاجم من حلق لحاهم كما يشاهد في الهنود وبعض أجناس الفرنج ، فيقع بذلك الجمع بين الروايات ، ويؤيد إرادة هذا ما في مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي عليه الصلاة والسلام : { جزوا الشوارب وأعفوا اللحى خالفوا المجوس } فهذه الجملة واقعة موقع التعليل . وأما الأخذ منها وهي دون ذلك كما يفعله بعض المغاربة ومخنثة الرجال فلم يبحه أحد




الخدمات العلمية