الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 389 ] باب الاعتكاف قال ( الاعتكاف مستحب ) والصحيح أنه سنة مؤكدة ، لأن النبي عليه الصلاة والسلام واظب عليه [ ص: 390 ] العشر الأواخر من رمضان والمواظبة دليل السنة ( وهو اللبث في المسجد مع الصوم ونية الاعتكاف ) أما اللبث فركنه لأنه ينبئ عنه فكان وجوده به ، والصوم من شرطه عندنا خلافا للشافعي رحمه الله ، والنية شرط في سائر العبادات ، هو يقول : إن الصوم عبادة وهو أصل بنفسه فلا يكون شرطا لغيره . ولنا قوله عليه الصلاة والسلام { لا اعتكاف إلا بالصوم } والقياس في مقابلة النص المنقول غير مقبول ، [ ص: 391 ] ثم الصوم شرط لصحة الواجب منه رواية واحدة ، ولصحة التطوع فيما روى الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى [ ص: 392 ] لظاهر ما روينا وعلى هذه الرواية لا يكون أقل من يوم . [ ص: 393 ] وفي رواية الأصل . وهو قول محمد رحمه الله تعالى أقله ساعة فيكون من غير صوم . لأن مبنى النفل على المساهلة ألا ترى أنه يقعد في صلاة النفل مع القدرة على القيام . ولو شرع فيه ثم قطعه لا يلزمه القضاء في رواية الأصل لأنه غير مقدر فلم يكن القطع إبطالا . وفي رواية الحسن : يلزمه لأنه مقدر باليوم كالصوم .

[ ص: 389 ]

التالي السابق


[ ص: 389 ] باب الاعتكاف )

قال القدوري ( الاعتكاف مستحب ) قال المصنف ( والصحيح أنه سنة مؤكدة ) والحق خلاف كل من الطريقين ، بل الحق أن يقال : الاعتكاف ينقسم إلى واجب وهو المنذور تنجيزا أو تعليقا ، وإلى سنة مؤكدة وهو اعتكاف العشر الأواخر من رمضان ، وإلى مستحب وهو ما سواهما .

ودليل السنة حديث عائشة رضي الله عنها في الصحيحين وغيرهما { أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله تعالى ، ثم اعتكف أزواجه بعده } فهذه المواظبة المقرونة بعدم الترك مرة لما اقترنت بعدم الإنكار على من لم يفعله من الصحابة كانت دليل السنية ، وإلا كانت تكون دليل الوجوب . أو نقول : اللفظ وإن دل على عدم الترك ظاهرا لكن وجدنا صريحا ما يدل على الترك وهو ما في الصحيحين وغيرهما { كان عليه الصلاة والسلام يعتكف في كل رمضان ، فإذا صلى الغداة جاء إلى مكانه الذي اعتكف فيه ، فاستأذنته عائشة رضي الله عنها أن تعتكف فأذن لها فضربت فيه قبة ، فسمعت بها حفصة فضربت فيه قبة أخرى ، فسمعت زينب فضربت فيه قبة أخرى ، فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغداة أبصر أربع قباب فقال : ما هذا ؟ فأخبر خبرهن ، فقال : ما حملهن على هذا ؟ آلبر ؟ انزعوها فلا أراها فنزعت ، فلم يعتكف في رمضان حتى اعتكف في آخر العشر من شوال وفي رواية فأمر بخبائه فقوض وترك الاعتكاف في شهر رمضان حتى اعتكف العشر الأول من شوال } هذا .

وأما اعتكاف العشر الأوسط فقد ورد { أنه عليه الصلاة والسلام اعتكفه ، فلما فرغ أتاه جبريل عليه السلام فقال : إن الذي تطلب أمامك يعني ليلة القدر فاعتكف العشر الآخر } وعن هذا ذهب الأكثر إلى أنها في العشر الآخر من رمضان ، فمنهم من قال : في ليلة إحدى وعشرين ، ومنهم من قال : في ليلة سبع وعشرين وقيل : غير ذلك . وورد في الصحيح أنه عليه الصلاة والسلام قال { التمسوها في العشر الأواخر ، والتمسوها في كل وتر } وعن أبي حنيفة : أنها في رمضان فلا يدرى أية ليلة هي ، وقد تتقدم وقد تتأخر ، وعندهما كذلك إلا [ ص: 390 ] أنها معينة لا تتقدم ولا تتأخر ، هكذا النقل عنهم في المنظومة والشروح . وفي فتاوى قاضي خان قال : وفي المشهور عنه أنها تدور في السنة تكون في رمضان وتكون في غيره فجعل ذلك رواية ، وثمرة الاختلاف تظهر فيمن قال : أنت حر أو أنت طالق ليلة القدر ، فإن قال : قبل دخول رمضان عتق وطلقت إذا انسلخ ، وإن قال بعد ليلة منه فصاعدا لم يعتق حتى ينسلخ رمضان العام القابل عنده ، وعندهما إذا جاء مثل تلك الليلة من رمضان الآتي وليس ذكر هذه المسألة لازما من التقرير ، وإنما ذكرناها لأنها مما أغفلها المصنف رحمه الله ، ولا ينبغي إغفالها من مثل هذا الكتاب لشهرتها فأوردناها على وجه الاختصار تتميما لأمر الكتاب .

وفيها أقوال أخر : قيل هي أول ليلة من رمضان . وقال الحسن رحمه الله : ليلة سبعة عشر ، وقيل تسعة عشر ، وعن زيد بن ثابت ليلة أربع وعشرين .

وقال عكرمة : ليلة خمس وعشرين . وأجاب أبو حنيفة رحمه الله عن الأدلة المفيدة لكونها في العشر الأواخر : بأن المراد في ذلك الرمضان الذي كان عليه الصلاة والسلام التمسها فيه ، والسياقات تدل عليه لمن تأمل طرق الأحاديث وألفاظها كقوله { إن الذي تطلب أمامك } وإنما كان يطلب ليلة القدر من تلك السنة ، وغير ذلك مما يطلع عليه الاستقراء . ومن علاماتها أنها بلجة ساكنة ، لا حارة ولا قارة ، تطلع الشمس صبيحتها بلا شعاع كأنها طست ، كذا قالوا ، وإنما أخفيت ليجتهد في طلبها فينال بذلك أجر المجتهدين في العبادة ، كما أخفى الله سبحانه الساعة ليكونوا على وجل من قيامها بغتة ، والله سبحانه وتعالى أعلم .

( قوله وهو اللبث في المسجد مع الصوم ونية الاعتكاف ) هذا مفهومه عندنا ، وفيه معنى اللغة إذ هو لغة مطلق الإقامة في أي مكان على أي غرض كان ، قال تعالى { ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون } .

ثم بين أن ركنه اللبث بشرط الصوم والنية ، وكذا المسجد من الشروط أي كونه فيه ، وهذا التعريف على رواية اشتراط الصوم له مطلقا لا على اشتراطه للواجب منه فقط ، مع أن ظاهر الرواية أنه ليس شرطا للنفل منه ، وعلى هذا أيضا إطلاق قوله : والصوم من شرطه عندنا خلافا للشافعي ، إنما هو على تلك الرواية وهي رواية الحسن ، وليس هو على ما ينبغي لأنه إن ادعى انتهاض دليله على الشافعي لزمه ترجيح هذه على ظاهر الرواية وليس كذلك .

( قوله : ولنا قوله عليه الصلاة والسلام إلخ ) روى الدارقطني والبيهقي عن سويد بن عبد العزيز عن سفيان بن الحسين عن الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { لا اعتكاف إلا بصوم } قال البيهقي : هذا وهم من سفيان بن حسين ، أو من سويد ، وضعف [ ص: 391 ] سويدا ، لكن قال في الإكمال : قال علي بن حجر : سألت هشيما عنه فأثنى عليه خيرا ، فقد اختلف فيه .

وأخرج أبو داود عن عبد الرحمن بن إسحاق عن الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت { السنة على المعتكف أن لا يعود مريضا ، ولا يشهد جنازة ، ولا يمس امرأة ولا يباشرها ، ولا يخرج لحاجة إلا لما لا بد منه ، ولا اعتكاف إلا بصوم ، ولا اعتكاف إلا في مسجد جامع } قال أبو داود : غير عبد الرحمن بن إسحاق لا يقول فيه قالت : السنة .

وعبد الرحمن بن إسحاق وإن تكلم فيه بعضهم فقد أخرج له مسلم ، ووثقه ابن معين وأثنى عليه غيره . وأخرج أبو داود والنسائي عن عبد الله بن بديل عن عمرو بن دينار عن ابن عمر { أن عمر رضي الله عنه جعل عليه أن يعتكف في الجاهلية ليلة أو يوما عند الكعبة فسأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال : اعتكف وصم وفي لفظ للنسائي فأمره أن يعتكف ويصوم } قال الدارقطني : تفرد به عبد الله بن ورقاء الخزاعي عن عمرو ، وهو ضعيف الحديث ، والثقات من أصحاب عمرو لم يذكروا الصوم منهم ابن جريج ، وابن عيينة ، وحماد بن سلمة ، وحماد بن زيد وغيرهم ، والحديث في الصحيحين ليس فيه ذكر الصوم ، بل { إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف في المسجد الحرام ليلة فقال عليه الصلاة والسلام : أوف بنذرك } وفيهما أيضا { عن عمر رضي الله عنه أنه جعل على نفسه أن يعتكف يوما فقال : أوف بنذرك } والجمع بينهما أن المراد الليلة مع يومها أو اليوم مع ليلته ، وغاية ما فيه أنه سكت عن ذكر الصوم في هذه الرواية ، وقد رويت برواية الثقة وتأيدت بمؤيد فيجب قبولها فالثقة ابن بديل قال فيه ابن معين : صالح .

وذكره ابن حبان في الثقات ، والمؤيد ما تقدم من حديث عائشة رضي الله عنها الصحيح السند ، فإن رفعه زيادة ثقة .

وما أخرج البيهقي عن أسيد عن عاصم : حدثنا الحسين بن حفص عن سفيان عن ابن جريج عن عطاء عن " ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم أنهما قالا : المعتكف يصوم " فقول ابن عمر رضي الله عنه بلزومه مع أنه راوي واقعة أبيه يقوي ظن صحة تلك الزيادة في حديث أبيه ، وما رواه الحاكم عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { ليس على المعتكف صيام إلا أن يجعله على نفسه } وصححه لم يتم له ذلك .

ففيه عبد الله بن محمد الرملي وهو مجهول ، ومع جهالته لم يرفعه غيره ، بل يقفونه على ابن عباس رضي الله عنهما ، ويؤيد الوقف ما ذكره البيهقي بعد ذكره تفرد الرملي حيث قال : وقد [ ص: 392 ] رواه أبو بكر الحميدي عن عبد العزيز بن محمد عن أبي سهيل بن مالك قال : اجتمعت أنا وابن شهاب عند عمر بن عبد العزيز وكان على امرأته اعتكاف نذر في المسجد الحرام فقال ابن شهاب : لا يكون اعتكاف إلا بصوم ، فقال عمر بن عبد العزيز : أمن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا ، قال : فمن أبي بكر ؟ قال لا . قال : فمن عمر ؟ قال لا ، قال أبو سهيل : فانصرفت فوجدت طاوسا وعطاء ، فسألتهما عن ذلك ، فقال طاوس : كان ابن عباس رضي الله عنهما لا يرى على المعتكف صياما إلا أن يجعله على نفسه ، وقال عطاء : ذلك رأي صحيح ا هـ

. فلو كان ابن عباس رضي الله عنهما يرفعه لم يقصره طاوس عليه إذ لم يكن يخف عليه خصوصا في مثل هذه القصة ، وقول عطاء بحضوره ذلك رأي صحيح فعن ذلك اعترف البيهقي بأن رفعه وهم ثم لم يسلم الموقوف عن المعارض ، إذ قد ذكرنا رواية البيهقي عن ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهما أنهما قالا : المعتكف يصوم ، فتعارض عن عباس .

وقال عبد الرزاق : أخبرنا الثوري عن ابن أبي ليلى عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : من اعتكف فعليه الصوم . ودفع المعارضة عنه بأن يجعل مرجع الضمير في قوله " إلا أن يجعله " الاعتكاف فيكون دليل اشتراط الصوم في الاعتكاف المنذور دون النفل ، ويخص حديث عبد الرزاق عنه به .

وكذا حديث عمر إنما هو دليل على اشتراطه في المنذور ، والمعمم لاشتراطه حديث عائشة المتقدم المرفوع ، وما أخرج عبد الرزاق عنها موقوفا قالت : من اعتكف فعليه الصوم .

وأخرج أيضا عن الزهري وعروة قالا : لا اعتكاف إلا بالصوم ، وفي موطأ مالك أنه بلغه عن القاسم بن محمد ونافع مولى ابن عمر رضي الله عنهما قالا : لا اعتكاف إلا بالصوم لقوله تعالى { ثم أتموا الصيام إلى الليل ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد } فذكر الله تعالى الاعتكاف مع الصيام .

قال يحيى : قال مالك : والأمر على ذلك عندنا أنه لا اعتكاف إلا بصيام ، وكذا حديث عائشة المتقدم أولا من رواية سويد ، فهذه كلها تؤيد إطلاق الاشتراط ، وهو رواية الحسن ، وفي رواية الأصل وهو قول محمد أقل الاعتكاف النفل ساعة فيكون من غير صوم ، وجعل رواية عدم اشتراطه في النفل ظاهر الرواية جماعة ، ولا يحضرني متمسك لذلك في السنة سوى حديث القباب المتقدم أول الباب في الرواية القائلة { حتى اعتكف العشر الأول من شوال } فإنه ظاهر في اعتكاف يوم الفطر ولا صوم فيه .

وفرعوا على هذه الرواية أنه إذا شرع ساعة ثم تركه لا يكون إبطالا للاعتكاف بل إنهاء له فلا يلزمه القضاء . وعلى رواية الحسن يلزمه ، وحقق بعضهم أن لزوم القضاء على رواية الحسن إنما هو للزوم القضاء في شرطه الصوم لا أن يكون الاعتكاف التطوع لازما في نفسه ، وأنه يجوز ليلا فقط ، وعلى تلك الرواية لا يجوز إلا أن يكون الليل تبعا للنهار فيجوز حينئذ .

واعلم أن المنقول من مستند إثبات هذه الرواية الظاهرة هو قوله في الأصل : إذا دخل المسجد بنية الاعتكاف فهو معتكف ما أقام تارك له إذا خرج وفيه نظر ، إذ لا يمتنع عند العقل القول بصحته ساعة مع اشتراط الصوم له وإن كان الصوم لا يكون أقل من يوم . وحاصله أن من أراد أن يعتكف فليصم سواء كان يريد اعتكاف يوم أو دونه ، ولا مانع من اعتبار شرط يكون أطول من مشروطه ، ومن ادعاه فهو بلا دليل ، فهذا الاستنباط غير صحيح بلا موجب ، إذ الاعتكاف لم يقدر شرعا بكمية لا يصح دونها كالصوم ، بل كل جزء منه لا يفتقر في كونه عبادة إلى [ ص: 393 ] الجزء الآخر ولم يستلزم تقدير شرطه تقديره لما قلنا .

وقول من حقق الوجه إنما ذلك للزوم القضاء في شرطه بعيد عن التحقيق بحسب ظاهره . فإن إفساد الاعتكاف لا يستلزم إفساد الصوم ليلزم قضاؤه لجواز كونه بما لا يفسد الصوم كالخروج من المسجد . وغاية ما يصحح بأن يراد أنه لما فسد وجب قضاؤه فيجب لذلك استئناف صوم آخر ضرورة اشتراط الصوم له . وهذا لا يقتضي أن لزوم القضاء للزومه في الصوم بل بالعكس ، فلا يلزم القضاء إلا في منذور أفسده قبل إتمامه ، ومقتضى النظر أنه لو شرع في المسنون أعني العشر الأواخر بنيته ثم أفسده أن يجب قضاؤه تخريجا على قول أبي يوسف في الشروع في نفل الصلاة ناويا أربعا لا على قولهما .

ومن التفريعات أنه لو أصبح صائما متطوعا أو غير ناو للصوم ثم قال : لله علي أن أعتكف هذا اليوم لا يصح . وإن كان في وقت يصح منه نية الصوم لعدم استيعاب النهار ، وعند أبي يوسف رحمه الله : أقله أكثر النهار فإن كان قاله قبل نصف النهار لزمه فإن لم يعتكفه قضاه . وهذا أوجه فيجب التعويل عليه والمصير إليه لما ذكرنا بقليل تأمل .

( قوله وفي رواية الأصل إلخ ) ذكر وجهه من المعنى وذكرنا آنفا وجهه من السنة ، وحمل صاحب التنقيح إياه على أنه اعتكف من ثاني الفطر دعوى بلا دليل . وما تمسك به من أنه جاء مصرحا في حديث { فلما أفطر اعتكف } عليه لا له ، لأن مدخول لما ملزوم لما بعده فاقتضى أنه حين أفطر اعتكف بلا تراخ .




الخدمات العلمية