الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
والأعمى إذا وجد من يكفيه مؤنة سفره ووجد زادا وراحلة لا يجب عليه الحج عند أبي حنيفة رحمه الله خلافا لهما ، وقد مر في كتاب الصلاة . وأما المقعد ، فعن أبي حنيفة رحمه الله . [ ص: 416 ] أنه يجب لأنه مستطيع بغيره فأشبه المستطيع بالراحلة . وعن محمد رحمه الله تعالى أنه لا يجب لأنه غير قادر على الأداء بنفسه ، بخلاف الأعمى لأنه لو هدى يؤدي بنفسه فأشبه الضال عنه ، ولا بد من القدرة على الزاد والراحلة ، وهو قدر ما يكتري به شق محمل أو رأس زاملة ، وقدر النفقة ذاهبا وجائيا ، [ ص: 417 ] { لأنه عليه الصلاة والسلام سئل عن السبيل إليه فقال : الزاد والراحلة } وإن أمكنه أن يكتري عقبة فلا شيء عليه ، لأنهما إذا كانا يتعاقبان لم توجد الراحلة في جميع السفر . ويشترط أن يكون فاضلا عن المسكن وعما [ ص: 418 ] لا بد منه كالخادم وأثاث البيت وثيابه ، لأن هذه الأشياء مشغولة بالحاجة الأصلية ، ويشترط أن يكون فاضلا عن نفقة عياله إلى حين عوده ، لأن النفقة حق مستحق للمرأة ، وحق العبد مقدم على حق الشرع بأمره . وليس من شرط الوجوب على أهل مكة ومن حولهم الراحلة ، لأنه لا تلحقهم مشقة زائدة في الأداء فأشبه السعي إلى الجمعة ولا بد من أمن الطريق لأن الاستطاعة لا تثبت دونه . ثم قيل : هو شرط الوجوب حتى لا يجب عليه الإيصاء [ ص: 419 ] وهو مروي عن أبي حنيفة رحمه الله . وقيل : هو شرط الأداء دون الوجوب ، لأن النبي عليه الصلاة والسلام فسر الاستطاعة بالزاد والراحلة لا غير .

التالي السابق


والأعمى إذا وجد من يكفيه مؤنة سفره وسفر قائده ففي المشهور عن أبي حنيفة لا يلزمه الحج . وذكر الحاكم الشهيد في المنتقى أنه يلزمه وعنهما فيه روايتان ، وذكر شيخ الإسلام أنه يلزمه عندهما على قياس الجمعة ، وإن لم يجد قائدا لا يجب عليه في قولهم ، وفي رواية أخرى : لا يلزمه فرقا على إحدى الروايتين بين الحج والجمعة بأن وجود القائد في الجمعة غير نادر بخلافه في الحج والمريض والمحبوس والخائف من السلطان الذي يمنع الناس من الخروج إلى الحج ، كذلك لا يجب الحج عليهم .

وفي التحفة : أن المقعد والزمن والمريض والمحبوس والخائف من السلطان الذي يمنع الناس من الخروج إلى الحج لا يجب عليهم الحج بأنفسهم لأنها عبادة بدنية ، ولا بد من القدرة بصحة البدن وزوال الموانع حتى تتوجه عليهم التكاليف ، [ ص: 416 ] ولكن يجب عليهم الإحجاج إذا ملكوا الزاد والراحلة ، وهو ظاهر في اختيار قولهما ، ثم قال : وأما الأعمى إذا وجد قائدا بطريق الملك أو استأجر هل عليه أن يحج ؟ ذكر في الأصل أنه لا يجب عليه أن يحج بنفسه ، ولكن يجب في ماله عند أبي حنيفة ، وروى الحسن عنه أنه يجب عليه أن يحج بنفسه ا هـ .

وهو خلاف ما ذكره غيره عن أبي حنيفة . وجه قولهما حديث الخثعمية { إن فريضة الحج أدركت أبي وهو شيخ كبير لا يستمسك على الراحلة أفأحج عنه ؟ قال : أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته عنه أكان يجزي عنه ؟ قالت نعم ، قال : فدين الله أحق } ولنا قوله تعالى { من استطاع إليه سبيلا } قيد الإيجاب به ، والعجز لازم مع هذه الأمور لا الاستطاعة .

فإن قيل : الاستطاعة ثابتة إذا قدروا على اتخاذ من يرفعهم ويضعهم ويقودهم بالملك أو الاستئجار . قلنا : ملاءمة القائد والخادم وحصول المقصود معه منهم من الرفق غير معلوم والعجز ثابت للحال . فلا يثبت الوجوب عليهم بالشك ، على أن الاستطاعة بالبدن هي الأصل والمتبادر من قولنا فلأن يستطيع عمل كذا فليكن محمل ما في النص ، إلا أن هذا قد يدفع بأن هذه العبادة تجري فيها النيابة عند العجز لا مطلقا توسطا بين المالية المحضة والبدنية المحضة ، لتوسطها بينهما على ما سيجيء تحقيقه في باب الحج عن الغير إن شاء الله تعالى .

والوجوب دائر مع فائدته على ما تحقق في الصوم فيثبت عند قدرة المال ليظهر أثره في الإحجاج والإيصاء .

ومن الفروع أنه لو تكلف هؤلاء الحج بأنفسهم سقط عنهم . ومعنى هذا أنهم لو صحوا بعد ذلك لا يجب عليهم الأداء ، لأن سقوط الوجوب عنهم لدفع الحرج فإذا تحملوه وقع عن حجة الإسلام كالفقير إذا حج . هذا وفي الفتاوى تكلموا في أن سلامة البدن في قول أبي حنيفة رحمه الله . وأمن الطريق . ووجود المحرم للمرأة من شرائط الوجوب أو الأداء ، فعلى قول من يجعلها من شرائط الوجوب إذا مات قبل الحج لا يلزمه الإيصاء ، وعلى قول من يجعلها من شرائط الأداء يلزمه ا هـ وهذا ظاهر في أن الروايتين عن أبي حنيفة رحمه الله لم يثبتا تنصيصا بل تخريجا ، أو أن كل طائفة من هؤلاء المشايخ اختاروا رواية .

وإذا آل الحال إلى اختلاف المشايخ في المختار من الروايتين أو تخريجهما فلنا نحن أيضا أن ننظر في ذلك . والذي يترجح كونها شروط الأداء بما قلناه آنفا إن هذه العبادة مما تتأدى بالنائب إلخ .

وعلى هذا فجعل عدم الحبس والخوف من السلطان شرط الأداء أولى ، ومن قدر حال صحته ولم يحج حتى أقعد أو زمن أو فلج أو قطعت رجلاه تقرر في ذمته بالاتفاق حتى يجب عليه الإحجاج ، وهنا قيد حسن ينبغي أن يحفظ ، وهو [ ص: 417 ] أن وجوب الإيصاء إنما يتعلق بمن لم يحج بعد الوجوب إذا لم يخرج إلى الحج حتى مات ، فأما من وجب عليه الحج فحج من عامه فمات في الطريق لا يجب عليه الإيصاء بالحج ، لأنه لم يؤخر بعد الإيجاب ، ذكره المصنف في التجنيس ( قوله لأنه عليه الصلاة والسلام سئل عن السبيل ) روى الحاكم عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أنس رضي الله عنه في { قوله تعالى { ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا } قيل : يا رسول الله ما السبيل ؟ قال : الزاد والراحلة } وقال : صحيح على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه ، وتابعه حماد بن سلمة عن قتادة ، ثم أخرجه كذلك ، وقال : صحيح على شرط مسلم .

وقد روي من طريق أخرى صحيحة عن الحسن مرسلا في سنن سعيد بن منصور : حدثنا هشام حدثنا يونس عن الحسن قال { لما نزلت { ولله على الناس حج البيت } قال رجل : يا رسول الله وما السبيل ؟ قالوا : زاد وراحلة } حدثنا هشيم حدثنا منصور عن الحسن مثله حدثنا خالد بن عبد الله عن يونس عن الحسن مثله .

ومن طرق عديدة مرفوعا من حديث ابن عمر وابن عباس وعائشة وجابر وعبد الله بن عمرو بن العاص وابن مسعود رضي الله عنهم . وحديث ابن عباس رواه ابن ماجه : حدثنا سويد بن سعيد عن هشام بن سليمان القرشي عن ابن جريج قال : وأخبرنيه أيضا عن عطاء عن عكرمة عن ابن عباس ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال { الزاد والراحلة } يعني قوله { من استطاع إليه سبيلا } قال في الإمام : وهشام بن سليمان بن عكرمة بن خالد بن العاص ، قال أبو حاتم : مضطرب الحديث ، ومحله الصدق ما أرى به بأسا .

وباقي الأحاديث بطرقها عمن ذكرنا من الصحابة عند الترمذي وابن ماجه والدارقطني وابن عدي في الكامل لا يسلم من ضعف ، فلو لم يكن للحديث طريق صحيح ارتفع بكثرتها إلى الحسن فكيف ومنها الصحيح . هذا وينبغي أن يكون قول المصنف شق محمل أو رأس زاملة على التوزيع ليكون الوجوب يتعلق بمن قدر على رأس زاملة بالنسبة إلى بعض الناس ، وبالنسبة إلى بعض آخرين لا يتعلق إلا بمن قدر على شق محمل هذا ، لأن حال الناس مختلف ضعفا وقوة وجلدا ورفاهية ، فالمرفه لا يجب عليه إذا قدر على رأس زاملة وهو الذي يقال له في عرفنا راكب مقتب ، لأنه لا يستطيع السفر كذلك بل قد يهلك بهذا الركوب فلا يجب في حق هذا لا إذا قدر على شق محمل ، ومثل هذا يتأتى في الزاد فليس كل من قدر على ما يكفيه من خبز وجبن دون لحم وطبيخ قادرا على الزاد ، بل ربما يهلك مرضا بمداومته ثلاثة أيام إذا كان مترفها معتاد اللحم والأغذية المرتفعة ، بل لا يجب على مثل هذا إلا إذا قدر على ما يصلح معه بدنه .

وقوله عليه الصلاة والسلام { الزاد والراحلة } ليس معناه إلا الزاد الذي يبلغه والراحلة كذلك ، وذلك يختلف بالنسبة إلى آحاد الناس ، فكان المراد ما يبلغ كل واحد ( قوله وإن أمكنه إلخ ) العقبة أن يكتري الاثنان راحلة يعتقبان عليها يركب أحدهما مرحلة والآخر مرحلة ، وليس يلزم لما في الكتاب ، وقد تقدم أن الشرط أن [ ص: 418 ] يملكها في أشهر الحج أو وقت خروج أهل بلده ، ونقلنا ما في الينابيع فارجع إليه ( قوله وليس من شرط الوجوب على أهل مكة ومن حولهم الراحلة ) قدمنا فائدة اقتصاره على الراحلة وكلام صاحب النهاية في الينابيع فارجع إليه ( قوله ولا بد من أمن الطريق ) أي وقت خروج أهل بلده وإن كان مخيفا في غيره ، وهو أن يكون الغالب فيه السلامة .

وما أفتى به أبو بكر الرازي من سقوط الحج عن أهل بغداد ، وقول أبي بكر الإسكاف : لا أقول الحج فريضة في زماننا قاله سنة ست وعشرين وثلاثمائة . وقول الثلجي : ليس على أهل خراسان حج منذ كذا وكذا سنة كان وقت غلبة النهب والخوف في الطريق ، وكذا أسقطه بعضهم من حين خرجت القرامطة وهم طائفة من الخوارج كانوا يستحلون قتل المسلمين وأخذ أموالهم ، وكانوا يغلبون على أماكن ويترصدون للحجاج ، وقد هجموا في بعض السنين على الحجيج في نفس مكة فقتلوا خلقا كثيرا في نفس الحرم ، وأخذو أموالهم ، ودخل كبيرهم بفرسه في المسجد الحرام ، ووقعت أمور شنيعة ، ولله الحمد على أن عافى منهم .

وقد سئل الكرخي عمن لا يحج خوفا منهم فقال : ما سلمت البادية من الآفات : أي لا تخلو عنها كقلة الماء ، وشدة الحر وهيجان السموم ، وهذا إيجاب منه رحمه الله ، ومحمله أنه رأى أن الغالب اندفاع شرهم عن الحاج ، ورأى الصفار عدمه فقال : لا أرى الحج فرضا منذ عشرين سنة من حين خرجت القرامطة ، وما ذكر سببا لذلك ، وهو أنه لا يتوصل إلى الحج إلا بإرشادهم فتكون الطاعة سبب المعصية ، فيه نظر ، بل إنما كان من شأنهم ما ذكرته ، ثم الإثم في مثله على الآخذ لا المعطي على ما عرف من تقسيم الرشوة في كتاب القضاء ، وكون المعصية منهم لا يترك الفرض لمعصية عاص .

والذي يظهر أن يعتبر مع غلبة السلامة عدم غلبة الخوف حتى إذا غلب الخوف على القلوب من المحاربين لوقوع النهب والغلبة منهم مرارا أو سمعوا أن طائفة تعرضت للطريق ولها شوكة والناس يستضعفون أنفسهم عنهم لا يجب . واختلف في سقوطه إذا لم يكن بد من ركوب البحر ، فقيل : البحر يمنع الوجوب .

وقال الكرماني : إن كان الغالب في البحر السلامة من موضع جرت العادة بركوبه يجب وإلا فلا ، وهو الأصح . وسيحون وجيحون والفرات والنيل أنهار لا بحار ( قوله ثم قيل هو ) أي أمن الطريق تقدم الكلام فيه ، والقائل بأنه شرط الوجوب حتى لا يجب الإيصاء ابن شجاع . وقد روي عن أبي حنيفة رحمه الله لأن [ ص: 419 ] الوصول بدونه لا يكون إلا بمشقة عظيمة ، فصار من الاستطاعة وهي شرط الوجوب . والقائل بأنه شرط الأداء فيجب الإيصاء القاضي أبو خازم ، لأنه عليه الصلاة والسلام إنما فسر الاستطاعة بالزاد والراحلة حين سئل عنها ، فلو كان أمن الطريق منها لذكره وإلا كان تأخيرا للبيان عن وقت الحاجة ، ولأنه مانع من العباد ولا يسقط العبادة الواجبة كالقيد من الظالم . واعلم أن الاختلاف في وجوب الإيصاء بالحج إذا مات قبل أمن الطريق ، فإن مات بعد حصول الأمن فالاتفاق على الوجوب تقدم لنا وجه آخر وهو المعول عليه يقتضي ترجيحه ، وأن عدم الخوف من السلطان والحبس من شروط الأداء أيضا فيجب على الخائف والمحبوس الإيصاء .

واعلم أن القدرة على الزاد والراحلة شرط الوجوب لا نعلم عن أحد خلافه . وقالوا لو تحمل العاجز عنهما فحج ماشيا يسقط عنه الفرض ، حتى لو استغنى لا يجب عليه أن يحج ، وهو معلل بأمرين : الأول أن عدمه عليه ليس لعدم الأهلية كالعبد ، بل للترفيه ودفع الحرج عنه ، فإذا تحمله وجب ثم يسقط كالمسافر إذا صام رمضان . الثاني : أن الفقير إذا وصل إلى المواقيت صار حكمه حكم أهل مكة ، فيجب عليه وإن لم يقدر على الراحلة ، فالثاني يستلزم عدم السقوط عنه لو أحرم قبل المواقيت كدويرة أهله لأن إحرامه لم ينعقد للواجب لعدم الوجوب قبل المواقيت ، فلا ينقلب له إلا بتجديد كالصبي إذا أحرم ثم بلغ ، ولا يمكنه التجديد لأن الإحرام انعقد لازما للنفل بخلاف الصبي على ما نذكر قريبا ، وبخلاف من أطلق النية فلم ينو الواجب لأن إحرامه حينئذ انعقد للواجب ، وإطلاق الجواب يخالفه ، والأول يقتضي عدم ثبوت الوجوب إلا بعد الفراغ ، لأن تحقق تحمله لا يتحقق إلا به لا بمجرد الإحرام .

ومع الفراغ لو ثبت الوجوب لم يكن أثره إلا في المستقبل لا في المنقضي إذ لا يسبق فعل الواجب الوجوب ، فمن أحرم قبل الميقات لا ينتهض في سقوط الحج عنه واحد من الوجهين ، بخلاف من أحرم منه فإنه إن لم ينتهض فيه الأول انتهض فيه الثاني ، وإنما خصصنا الإيراد بالفقير لأنا نرى أن سلامة الجوارح شرط الأداء لا الوجوب على ما بحثناه آنفا .




الخدمات العلمية