الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 18 ] ( وكل سجدة وجبت في الصلاة فلم يسجدها فيها لم تقض خارج الصلاة ) ; لأنها صلاتية ولها مزية الصلاة ، فلا تتأدى بالناقص

التالي السابق


( قوله : وكل سجدة وجبت في الصلاة ) أي بتلاوة الصلاة على من في تلك الصلاة . ( قوله : ولها مزية ) أي للصلوية مزية لتأديها في حرمة الصلاة ، فوجوب تأديها في إحرام الصلاة هو المستلزم لتأدية ما وجب ؟ كاملا ناقصا ؟ ، وهو علة عدم قضائها خارجها بالتحقيق لا مجرد تسميتها صلوية ، ومقتضى هذا جواز تأخيرها من ركعة إلى ركعة بعد أن لا يخلي الصلاة عنها ، وقد يستأنس له بما قدمناه في سجود السهو من أنه لو تذكر سجدة التلاوة في ركن فسجد لها لا يعيده ، وما تقدم من أنه لو أخرها بعد التذكر إلى آخر الصلاة أجزأه ; لأن الصلاة واحدة لا يستلزم جواز التأخير ، بل المراد أجزأته السجدة آخر الصلاة ، لكن صرح في البدائع بأنها واجبة على الفور في فصل بيان وقت أدائها ، وأنه إذا أخرها حتى طالت التلاوة تصير قضاء ويأثم ; لأن هذه السجدة صارت من أفعال الصلاة ملحقة بنفس التلاوة فلذا فعلت فيها مع أنها ليست من أصل الصلاة بل زائدة ، بخلاف غير الصلوية ، فإنها واجبة على التراخي على ما هو المختار ، وقيل بل على الفور أيضا .

فإن قيل : كيف يتحقق عدم السجود وسجدة التلاوة تتأدى في ضمن سجدة الصلاة نوى أو لم ينو كما ذكره في فتاوى قاضي خان وكذا تتأدى في ضمن الركوع ؟ قلنا : مراده إذا سجد للصلاة بعد الركوع على الفور ، وما نحن فيه إذا لم يسجد على الفور حتى لو قرأ ثلاث آيات وركع أو سجد صلبية ينوي بها التلاوة لم تجز ; لأن السجدة صارت دينا عليه ; لفوات وقتها فلا تتأدى في ضمن الغير ، ويعرف ذلك من سوق عبارته . قال : رجل قرأ آية سجدة في الصلاة ، فإن كانت السجدة في آخر السورة أو قريبا من آخرها بعدها آية أو آيتان إلى آخرها فهو بالخيار إن شاء ركع بها ينوي التلاوة ، وإن شاء سجد ثم يعود إلى القيام فيختم السورة ، وإن وصل بها سورة أخرى كان أفضل ، فإن لم يسجد للتلاوة على الفور حتى ختم السورة ثم ركع وسجد لصلاته تسقط عنه سجدة التلاوة ; لأن بهذا القدر من القراءة لا ينقطع الفور ، ولو ركع لصلاته على الفور وسجد تسقط عنه سجدة التلاوة نوى في السجدة السجدة للتلاوة أو لم ينو ، ولذا إذا قرأ بعدها آيتين أجمعوا أن سجدة التلاوة تتأدى بسجدة الصلاة ، وإن لم ينو .

واختلفوا في الركوع ، قال شيخ الإسلام المعروف بخواهر زاده : لا بد للركوع من النية حتى ينوب عن سجدة التلاوة نص عليه محمد ، وإن قرأ بعد السجدة ثلاث آيات وركع لسجدة التلاوة قال شيخ الإسلام : ينقطع الفور ولا ينوب الركوع عن السجدة ، وقال الحلواني : لا ينقطع ما لم يقرأ أكثر من ثلاث آيات ا هـ . فظهر أن ذلك مقيد بأن يسجد للصلاة بعد الركوع على الفور ، وقد صرحوا [ ص: 19 ] بأنه إذا لم يسجد ولم يركع حتى طالت القراءة ثم ركع ونوى السجدة لم يجز ، وكذا إذا نواها في السجدة الصلبية ; لأنها صارت دينا عليه ، والدين يقضى بما له لا بما عليه ، والركوع والسجود عليه كذا في البدائع في فصل كيفية وجوبها ، وسيظهر أن قول الحلواني هو الرواية إن شاء الله تعالى . هذا وما ذكر من الإجماع على عدم الاحتياج إلى النية في سجدة الصلاة حالة الفور في البدائع ما يفيد خلافه من ثبوت الخلاف . قال : ثم إذا ركع قبل أن تطول القراءة هل تشترط النية لقيام الركوع مقام سجدة التلاوة ؟ .

فقياس ما ذكرنا من النكتة أن لا يحتاج ; لأن الحاجة إلى تحصيل التعظيم في هذه الحالة ، وقد وجد نوى أو لم ينو كالمعتكف في رمضان إذا لم ينو بصيامه عن الاعتكاف ، والذي دخل المسجد إذا اشتغل بالفرض غير ناو أن يقوم مقام تحية المسجد ، ومن مشايخنا من قال : يحتاج إلى النية ويدعي أن محمدا أشار إليه ، فإنه قال : إذا تذكر سجدة تلاوة في الركوع يخر ساجدا فيسجد كما تذكر ثم يقوم فيعود إلى الركوع ، ولم يفصل بين أن يكون الركوع الذي تذكر فيه عقيب التلاوة بلا فصل أو به ، فلو كان الركوع مما ينوب عن السجدة من غير نية لكان لا يأمره بأن يسجد للتلاوة بل قام نفس الركوع مقام التلاوة ، ثم اشتغل رحمه الله بدفع دلالة المروي عن محمد بما لا يقوى ، ثم طالبه بالفرق بين هذا وصوم المعتكف في رمضان والصلاة ، وذكر جواب القائل عنه بأن الواجب الأصلي هنا هو السجود ، إلا أن الركوع أقيم مقامه من حيث المعنى وبينهما من حيث الصورة فرق ، فلموافقة المعنى تتأدى السجدة بالركوع إذا نوى ، ولمخالفة الصورة لا تتأدى إذا لم ينو ، بخلاف صوم الشهر فإن بينه وبين صوم الاعتكاف موافقة من جميع الوجوه ، وكذا في الصلاة ثم قال : لكن هذا غير سديد ; لأن المخالفة من حيث الصورة إن كان بها عبرة فلا يتأدى الواجب به ، وإن نوى ، فإن من نوى إقامة غير ما وجب عليه مقام ما وجب لا يقوم إذا كان بينهما تفاوت .

وإن لم يكن بها عبرة فلا حاجة له إلى النية كما في الصوم والصلاة ، وعذر الصوم ليس بمستقيم ; لأن بين الصومين مخالفة من حيث سبب الوجوب فكانا جنسين مختلفين ، ولهذا قال هذا القائل إنه لو لم ينو بالركوع أن يكون قائما مقام سجدة التلاوة ، ولم يقم يحتاج في السجدة الصلبية إلى أن ينوي أيضا ; لأن بينهما مخالفة لاختلاف سببي وجوبهما . انتهى . فهذا يصرح بوجوب النية في إيقاع السجدة الصلبية عن التلاوة فيما إذا لم تطل القراءة على ما هو أصل الصورة كما نقلناه في صدر هذا المنقول فلم يصح ما تقدم من نقل الإجماع على عدم اشتراطها ، وإنما أوردنا تمام عبارته لإفادة ما تضمنته من الفوائد ; ثم قال : هذا كله إذا ركع وسجد على الفور ، فإن لم يفعل حتى طالت القراءة ثم ركع ينويها أو لم ينوها في الركوع ونواها في السجود لم تجزه ; لأنها صارت دينا في ذمته لفواتها عن محلها ; لأنها لوجوبها بما هو من أفعال الصلاة التحقت بأفعال الصلاة شرعا بدليل وجوب أدائها في الصلاة من غير نقص فيها . وتحصيل ما ليس من الصلاة فيها إن لم يوجب فسادها يوجب نقصانها ، وكذا لا تؤدى بعد الفراغ ; لأنها صارت جزءا من الصلاة فلا تؤدى إلا بتحريمة الصلاة كسائر أفعالها ، ومبنى الأفعال أن يؤدى كل فعل في محله المخصوص ، فكذا هذه فإذا لم تؤد في محلها حتى فات صارت دينا ، والدين يقضى بما له لا بما عليه والركوع والسجود عليه فلا يتأدى به الدين ، بخلاف ما إذا لم تصر دينا ; لأن الحاجة هناك إلى التعظيم عند تلك التلاوة وقد وجد في ضمنهما فكفى ، كداخل المسجد [ ص: 20 ] إذا صلى الفرض كفى عن تحية المسجد لحصول تعظيم المسجد ، غير أن الركوع لم يعرف قربة في الشرع منفردا عن الصلاة فلذا تتأدى به السجدة إذا تلا في الصلاة لا خارجها .

فإن قلت : قد قالوا : إن تأديها في ضمن الركوع هو القياس والاستحسان عدمه ، والقياس هنا مقدم على الاستحسان فأسعفني بكشف هذا المقام . فالجواب أن مرادهم من الاستحسان ما خفي من المعاني التي يناط بها الحكم ومن القياس ما كان ظاهرا متبادرا فظهر من هذا أن الاستحسان لا يقابل القياس المحدود في الأصول بل هو أعم منه ، قد يكون الاستحسان بالنص وقد يكون بالضرورة وقد يكون بالقياس إذا كان لقياس آخر متبادر وذلك خفي وهو القياس الصحيح ، فيسمى الخفي استحسانا بالنسبة إلى ذلك المتبادر فثبت به أن مسمى الاستحسان في بعض الصور هو القياس الصحيح ، ويسمى مقابله قياسا باعتبار الشبه وبسبب كون القياس المقابل ما ظهر بالنسبة إلى الاستحسان ظن محمد بن سلمة أن الصلبية هي التي تقوم مقام سجدة التلاوة لا الركوع ، وكان القياس على قوله أن تقوم الصلبية ، وفي الاستحسان لا تقوم بل الركوع ; لأن سقوط السجدة بالسجدة أمر ظاهر فكان هو القياس ، وفي الاستحسان لا يجوز ; لأن هذه السجدة قائمة مقام نفسها فلا تقوم مقام غيرها ، كصوم يوم من رمضان لا يقوم عن نفسه وعن قضاء يوم آخر ، فصح أن القياس وهو الأمر الظاهر هنا مقدم على الاستحسان ، بخلاف قيام الركوع مقامها وأن القياس يأبى الجواز ; لأنه الظاهر ، وفي الاستحسان يجوز وهو الخفي فكان حينئذ من تقديم الاستحسان لا القياس ، لكن عامة المشايخ على أن الركوع هو القائم مقامها ، كذا ذكره محمد رحمه الله في الكتاب ، فإنه قال : قلت فإن أراد أن يركع بالسجدة نفسها هل يجزئه ذلك ؟ قال : أما في القياس فالركوع في ذلك والسجدة سواء ; لأن كل ذلك صلاة ، وأما في الاستحسان فينبغي له أن يسجد ، وبالقياس نأخذ وهذا لفظ محمد .

وجه القياس على ما ذكر محمد أن معنى التعظيم فيهما واحد . فكانا في حصول التعظيم فيهما جنسا واحدا ، والحاجة إلى تعظيم الله إما اقتداء بمن عظم ، وإما مخالفة لمن استكبر ، فكان الظاهر هو الجواز . وجه الاستحسان أن الواجب هو التعظيم بجهة مخصوصة وهي السجود بدليل أنه لو لم يركع على الفور حتى طالت القراءة ثم نوى بالركوع أن يقع عن السجدة لا يجوز ، ثم أخذوا بالقياس لقوة دليله وذلك لما روي عن ابن مسعود وابن عمر أنهما كانا أجازا أن يركع عن السجود في الصلاة ، ولم يرو عن غيرهما خلافه فلذا قدم القياس ، فإنه لا ترجيح للخفي لخفائه ولا للظاهر لظهوره ، بل يرجع في الترجيح إلى ما اقترن بهما من المعاني ، فمتى قوي الخفي أخذوا به ، أو الظاهر أخذوا به ، غير أن استقراءهم أوجب قلة قوة الظاهر المتبادر بالنسبة إلى الخفي المعارض له ، فلذا حصروا مواضع تقديم القياس على الاستحسان في بضعة عشر موضعا تعرف في الأصول هذا أحدها ولا حصر لمقابله .

ثم النص عن أبي حنيفة رضي الله عنه أن السجود بها أفضل هكذا مطلقا في البدائع ، وجهه أنه إذا سجد ثم قام وركع حصل قربتين ، بخلاف ما إذا ركع ، ولأنه بالسجود مؤد للواجب بصورته ومعناه ، وأما بالركوع فبمعناه ولا شك أن الأول أفضل ، وهو خلاف ما في بعض المواضع من أنها إذا كانت آخر السورة فالأفضل أن يركع بها ، ثم إذا سجد لها ، وقام فركع كما رفع رأسه دون قراءة كره له ذلك سواء كانت الآية في وسط السورة أو ختمها أو بقي إلى الختم آيتان أو ثلاث ; لأنه يصير بانيا الركوع على السجود فينبغي أن يقرأ ثم يركع ، فإن كانت في وسط السورة فينبغي أن يختمها إذا رفع ثم يركع ، وإن كان ختمها ينبغي أن يقرأ آية من سورة أخرى ثم يركع ، وإن كان بقي منها آيتان أو ثلاثة كسورة بني إسرائيل والانشقاق [ ص: 21 ] كان له أن يركع بها في الآيتين بلا خلاف نعلمه ، وفي الثلاث اختلفوا : قيل لا يجزئ الركوع بها لانقطاع الفور بالثلاث ، وقيل لا ينقطع بالثلاث وهو الأحق .

وفي البدائع الأوجه أن يفوض إلى رأي المجتهد أو يعتبر ما يعد طويلا على أن جعل ثلاث آيات قاطعة للفور خلاف الرواية ، فإن محمدا ذكر في كتاب الصلاة : قلت أرأيت الرجل يقرأ السجدة وهو في الصلاة ، والسجدة في آخر السورة ، إلا آيات بقيت من السورة بعد آية السجدة ، قال : هو بالخيار إن شاء ركع بها ، وإن شاء سجد بها . قلت : فإن أراد أن يركع بها ختم السورة ثم ركع بها ؟ قال : نعم ، قلت : فإن أراد أن يسجد بها عند الفراغ من السجدة ثم يقوم فيتلو ما بعدها من السورة وهو آيتان أو ثلاث ثم يركع ، قال نعم : إن شاء ، وإن شاء وصل بها سورة أخرى . وهذا نص على أن الثلاث ليست قاطعة للفور ولا مدخلة للسجدة في حيز القضاء ، ثم لو سجد بها ينبغي أن يقرأ باقي السورة ثم يركع ، ثم علل في البدائع أفضلية وصل السورة بما يقتضي قصره على ما إذا كان الباقي آيتين وهو قوله : لأن الباقي من خاتمة السورة دون ثلاث آيات فكان الأولى أن يقرأ ثلاث آيات كي لا يصير بانيا للركوع على السجود ، وهو خلاف ما جعله حكما لهذا التعليل حيث قال : وإن كان بقي إلى الختم قدر آيتين أو ثلاث .




الخدمات العلمية