الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( فرض ) سنة تسع وإنما أخره عليه الصلاة والسلام لعشر لعذر مع علمه ببقاء حياته ليكمل التبليغ ( مرة ) لأن سببه البيت وهو واحد والزيارة تطوع وقد تجب كما إذا جاوز الميقات بلا إحرام [ ص: 456 ] فإنه كما سيجيء يجب عليه أحد النسكين فإن اختار الحج اتصف بالوجوب وقد يتصف بالحرمة كالحج بمال حرام ، وبالكراهة كالحج بلا إذن ممن يجب استئذانه وفي النوازل : لو كان الابن صبيا فللأب منعه حتى يلتحي ( على الفور ) في العام الأول عند الثاني [ ص: 457 ] وأصح الروايتين عن الإمام ومالك وأحمد فيفسق وترد شهادته بتأخيره أي سنينا لأن تأخيره صغيرة وبارتكابه مرة لا يفسق إلا بالإصرار بحر ووجهه أن الفورية ظنية لأن دليل الاحتياط ظني ، ولذا أجمعوا أنه لو تراخى كان أداء وإن أثم بموته قبله وقالوا لو لم يحج حتى أتلف ماله وسعه أن يستقرض ويحج ولو غير قادر على وفائه ويرجى أن لا يؤاخذه الله بذلك ، أي لو ناويا وفاء إذا قدر كما قيده في الظهيرية .

التالي السابق


( قوله لعذر ) إما لأن الآية نزلت بعد فوات الوقت ، أو لخوف من المشركين على أهل المدينة ، أو خوفه على نفسه صلى الله عليه وسلم أو كره مخالطة المشركين في نسكهم إذ كان لهم عهد في ذلك الوقت زيلعي .

وقدم الأول لما في حاشيته للشلبي عن الهدي لابن القيم أن الصحيح أن الحج فرض في أواخر سنة تسع ، وأن آية فرضه هي قوله تعالى - { ولله على الناس حج البيت } - وهي نزلت عام الوفود أواخر سنة تسع وأنه صلى الله عليه وسلم لم يؤخر الحج بعد فرضه عاما واحدا ، وهذا هو اللائق بهديه وحاله صلى الله عليه وسلم وليس بيد من ادعى تقدم فرض الحج سنة ست أو سبع أو ثمان أو تسع دليل واحد ، وغاية ما احتج به من قال سنة ست أن فيها نزل قوله تعالى - { وأتموا الحج والعمرة لله } - وهذا ليس فيه ابتداء فرض الحج وإنما فيه الأمر بإتمامه إذا شرع فيه فأين هذا من وجوب ابتدائه . ا هـ . ( قوله مع علمه إلخ ) جواب آخر غير متوقف على وجود العذر .

وحاصله أن وجوبه على الفور للاحتياط فإن في تأخيره تعريضا للفوات ، وهو منتف في حقه صلى الله عليه وسلم لأنه كان يعلم بقاء حياته إلى أن يعلم الناس مناسكهم تكميلا للتبليغ - لقوله تعالى { لقد صدق الله رسوله الرؤيا } الآية - فهذا أرقى في التعليل ولذا جعل الأول تابعا له فهو كقولك : أكرم زيدا لأنه محسن إليك مع أنه أبوك ( قوله لأن سببه البيت ) بدليل الإضافة في قوله تعالى - { ولله على الناس حج البيت } - فإن الأصل إضافة الأحكام إلى أسبابها كما تقرر في الأصول ولا يتكرر الواجب إذا لم يتكرر سببه ولحديث مسلم " { يا أيها الناس قد فرض عليكم الحج فحجوا فقال رجل أكل عام يا رسول الله فسكت حتى قالها ثلاثا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم } " قال في النهر والآية وإن كانت كافية في الاستدلال على نفي التكرار لأن الأمر لا يحتمله إلا أن إثبات النفي بمقتضى النفي أولى ( قوله وقد يجب ) أي الحج وهذا عطف على قوله فرض ( قوله كما إذا جاوز الميقات بلا إحرام ) أي فإنه يجب عليه أن يعود إلى الميقات ويلبي منه ، وكذا يجب عليه قبل المجاوزة قال في الهداية ثم الآفاقي إذا انتهى إلى المواقيت على قصد دخول مكة عليه أن يحرم قصد الحج أو العمرة عندنا أو لم يقصد لقوله صلى الله عليه وسلم " { لا يجاوز أحد الميقات إلا محرما ولو لتجارة } " ولأن وجوب الإحرام لتعظيم هذه البقعة الشريفة ، فيستوي فيه التاجر والمعتمر وغيرهما ا هـ .

قال ح : فتحصل من هذا أن الحج والعمرة لا يكونان نفلا من الآفاقي وإنما يكونان نفلا من البستاني والحرمي . ا هـ .

[ ص: 456 ] قلت : وفيه نظر فإن حرمة مجاوزته بدون إحرام لا تدل على أن الإحرام لا يكون إلا واجبا من الآفاقي لأن الواجب كونه متلبسا بالإحرام وقت المجاوزة ، سواء كان الإحرام بحج نفل أو غيره لأن الإحرام شرط لحل المجاوزة والشرط لا يلزم تحصيله مقصودا كما مر في الاعتكاف ، ونظيره أيضا أن الجنب لا يحل له دخول المسجد ، حتى يغتسل فإذا اغتسل لسنة الجمعة مثلا ثم دخل جاز ، مع أنه إنما نوى الغسل المسنون ، وإنما يجب إذا أراد الدخول ، ولم يغتسل لغيره وهنا إذا أراد مجاوزة الميقات وكان قاصدا للنسك وأحرم بنسك فرض أو منذور أو نفل كفاه لحصول المقصود في تعظيم البقعة فإن لم يكن قاصدا لذلك بأن قصد الدخول لتجارة مثلا فحينئذ يكون إحرامه واجبا ونظيره تحية المسجد تندرج في أي صلاة صلاها ، فإن لم يصل فلا بد في تحصيل السنة من صلاتها على الخصوص ، هذا ما ظهر لي وعن هذا والله تعالى أعلم فرض الشارح تبعا للبحر والنهر تصوير الوجوب بما إذا جاوز الميقات بلا إحرام فإنه يجب عليه العود إلى الميقات ويلبي منه ، ويكون إحرامه حينئذ واجبا إذا كان لأجل المجاوزة أما لو أحرم قبلها بنسك فرض ، أو نذر أو نفل فهو على ما نوى من فرض أو غيره ولا يجب عليه إحرام خاص لأجل المجاوزة ، وحينئذ فلا حزازة في عبارته فافهم ( قوله كما سيجيء ) أي قبيل فصل الإحرام وكذا قبيل فصل الإحصار ( قوله فإن اختار الحج اتصف بالوجوب ) فيكون من قبيل الواجب المخير أي وإن اختار العمرة اتصف بالوجوب ، وإنما تركه لعدم اقتضاء المقام إياه . ا هـ . ح .

مطلب فيمن حج بمال حرام

( قوله كالحج بمال حرام ) كذا في البحر والأولى التمثيل بالحج رياء وسمعة ، فقد يقال إن الحج نفسه الذي هو زيارة مكان مخصوص إلخ ليس حراما بل الحرام هو إنفاق المال الحرام ، ولا تلازم بينهما ، كما أن الصلاة في الأرض المغصوبة تقع فرضا ، وإنما الحرام شغل المكان المغصوب لا من حيث كون الفعل صلاة لأن الفرض لا يمكن اتصافه بالحرمة ، وهنا كذلك فإن الحج في نفسه مأمور به ، وإنما يحرم من حيث الإنفاق ، وكأنه أطلق عليه الحرمة لأن للمال دخلا فيه ، فإن الحج عبادة مركبة من عمل البدن والمال كما قدمناه ، ولذا قال في البحر ويجتهد في تحصيل نفقة حلال ، فإنه لا يقبل بالنفقة الحرام كما ورد في الحديث ، مع أنه يسقط الفرض عنه معها ولا تنافي بين سقوطه ، وعدم قبوله فلا يثاب لعدم القبول ، ولا يعاقب عقاب تارك الحج . ا هـ .

أي لأن عدم الترك يبتنى على الصحة : وهي الإتيان بالشرائط ، والأركان والقبول المترتب عليه الثواب يبتنى على أشياء كحل المال والإخلاص كما لو صلى مرائيا أو صام واغتاب فإن الفعل صحيح لكنه بلا ثواب والله تعالى أعلم ( قوله ممن يجب استئذانه ) كأحد أبويه المحتاج إلى خدمته والأجداد والجدات كالأبوين عند فقدهما ، وكذا الغريم لمديون لا مال له يقضي به ، والكفيل لو بالإذن ، فيكره خروجه بلا إذنهم كما في الفتح ، وظاهره أن الكراهة تحريمية ولذا عبر الشارح بالوجوب ، وزاد في البحر عن السير وكذا إن كرهت خروجه زوجته ومن عليه نفقته . ا هـ . والظاهر أن هذا إذا لم يكن له ما يدفعه للنفقة في غيبته قال في البحر : وهذا كله في حج الفرض .

أما حج النفل فطاعة الوالدين أولى مطلقا كما صرح به في الملتقط ( قوله حتى يلتحي ) وإن كان الطريق مخوفا لا يخرج وإن التحى بحر عن النوازل ( قوله على الفور ) هو الإتيان [ ص: 457 ] به في أول أوقات الإمكان ويقابله قول محمد إنه على التراخي وليس معناه تعين التأخير بل بمعنى عدم لزوم الفور ( قوله وأصح الروايتين ) لا يصلح عطفه على الثاني ، فهو خبر مبتدإ محذوف وقوله عند الثاني : خبر مبتدإ محذوف أي هذا عند الثاني فقوله وأصح عطف عليه فافهم ( قوله ومالك وأحمد ) عطف على الإمام فيفيد اختلاف الرواية عنهما أيضا ، وعبارة شرح درر البحار تفيده أيضا حيث قال : وهو أصح الروايات عن أبي حنيفة ومالك وأحمد فافهم .

( قوله أي سنينا إلخ ) ذكره في البحر بحثا وأتى بسنين منونا لأنه قد يجري مجرى حين ، وهو عند قوم مطرد ( قوله إلا بالإصرار ) أي لكن بالإصرار ، فهو استثناء منقطع لعدم دخول الإصرار تحت المرة ح ثم لا يخفى أنه لا يلزم من عدم الفسق عدم الإثم فإنه يأثم ولو بمرة وفي شرح المنار لابن نجيم عن التقرير للأكمل أن حد الإصرار أن تتكرر منه تكررا يشعر بقلة المبالاة بدينه إشعار ارتكاب الكبيرة بذلك ا هـ ومقتضاه أنه غير مقدر بعدد بل مفوض إلى الرأي والعرف والظاهر أنه بمرتين لا يكون إصرارا ولذا قال : أي سنينا فقوله في شرح الملتقى ، فيفسق وترد شهادته بالتأخير عن العام الأول بلا عذر غير محرر لأن مقتضاه حصوله بمرة واحدة فضلا عن المرتين فافهم ( قوله ووجهه إلخ ) أي وجه كون التأخير صغيرة أن الفورية واجبة لأنها ظنية لظنية دليلها وهو الاحتياط لأن في تأخيره تعريضا له للفوات ، وهو غير قطعي فيكون التأخير مكروها تحريما لا حراما لأن الحرمة لا تثبت إلا بقطعي كمقابلها ، وهو الفرضية وما ذكره مبني على ما قاله صاحب البحر في رسالته المؤلفة في بيان المعاصي أن كل ما كره عندنا تحريما فهو من الصغائر لكنه عد فيها من الصغائر ما هو ثابت بقطعي كوطء المظاهر منها قبل التكفير والبيع عند أذان الجمعة تأمل ( قوله كان أداء ) أي ويسقط عنه الإثم اتفاقا كما في البحر قيل : المراد إثم تفويت الحج لا إثم التأخير .

قلت : لا يخفى ما فيه بل الظاهر أن الصواب إثم التأخير إذ بعد الأداء لا تفويت وفي الفتح : ويأثم بالتأخير عن أول سني الإمكان فلو حج بعده ارتفع الإثم ا هـ وفي القهستاني : فيأثم عند الشيخين بالتأخير إلى غيره بلا عذر إلا إذا أدى ولو في آخر عمره فإنه رافع للإثم بلا خلاف ( قوله وإن أثم بموته قبله ) أي بالإجماع كما في الزيلعي ، أما على قولهما فظاهر ، وأما على قول محمد فإنه وإن لم يأثم بالتأخير عنده لكن بشرط الأداء قبل الموت فإذا مات قبله ظهر أنه آثم قيل من السنة الأولى وقيل من الأخيرة من سنة رأى في نفسه الضعف ، وقيل : يأثم في الجملة غير محكوم بمعين بل علمه إلى الله تعالى كما في الفتح ( قوله وسعه أن يستقرض إلخ ) أي جاز له ذلك وقيل يلزمه الاستقراض كما في لباب المناسك قال منلا على القاري في شرحه عليه ، وهو رواية عن أبي يوسف وضعفه ظاهر فإن تحمل حقوق الله تعالى أخف من ثقل حقوق العباد ا هـ .

قلت : وهذا يرد على القول الأول أيضا إن كان المراد بقوله ولو غير قادر على وفائه أن يعلم أنه ليس له جهة وفاء أصلا أما لو علم أنه غير قادر في الحال وغلب على ظنه أنه لو اجتهد قدر على الوفاء فلا يرد .

والظاهر أن هذا هو المراد أخذ مما ذكره في الظهيرية أيضا في الزكاة حيث قال إن لم يكن عنده مال وأراد أن يستقرض لأداء الزكاة فإن كان في أكبر رأيه أنه إذا اجتهد بقضاء دينه قدر كان الأفضل أن يستقرض فإن استقرض وأدى ولم [ ص: 458 ] يقدر على قضائه حتى مات يرجى أن يقضي الله تبارك وتعالى دينه في الآخرة وإن كان أكبر رأيه أنه لو استقرض لا يقدر على قضائه كان الأفضل له عدمه ا هـ وإذا كان هذا في الزكاة المتعلق بها حق الفقراء ففي الحج أولى .




الخدمات العلمية