الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                          وقال شيخنا : ليس الجن كالإنس في الحد والحقيقة ، فلا يكون ما أمروا به وما نهوا عنه مساويا لما على الإنس في الحد والحقيقة ، لكنهم مشاركوهم في جنس التكليف بالأمر ، والنهي ، والتحليل ، والتحريم ، بلا نزاع أعلمه بين العلماء ، فقد يدل ذلك على مناكحتهم وغيرها ، وقد يقتضيه إطلاق أصحابنا .

                                                                                                          وفي المغني وغيره أن الوصية لا تصح لجني لأنه لا يملك بالتمليك كالهبة فيتوجه من انتفاء التمليك منع الوطء ، لأنه في مقابلة مال ، قال الله تعالى { والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا } وقال سبحانه { ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها } وقد ذكر أصحابنا هذا المعنى في شروط الكفاءة ، فهاهنا أولى ، ومنع منه غير واحد من متأخري الحنفية ، وبعض الشافعية ، وجوزه منهم ابن يونس في شرح الوجيز .

                                                                                                          وفي مسائل حرب باب مناكحة الجن ثم روي عن الحسن وقتادة والحكم وإسحاق كراهتها ، وروي من رواية ابن لهيعة ، عن يونس ، عن الزهري { نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن نكاح الجن } وعن زيد العجمي اللهم ارزقني جنية أتزوج بها تصاحبني حيثما كنت . ولم يذكر حرب عن أحمد شيئا . وفي كتاب الإلهام والوسوسة لأبي عمر سعيد بن العباس الرازي عن [ ص: 605 ] مالك لا بأس به في الدين ، ولكن أكره إذا وجدت امرأة حاملا فقيل من زوجك قالت : فلان من الجن فيكثر الفساد وعن أبي هريرة مرفوعا { أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر ليلة البدر ، والتي تليها على أضوإ كوكب دري في السماء ، لكل امرئ منهم زوجتان اثنتان ، يرى مخ سوقهما من وراء اللحم } رواه البخاري ومسلم وزاد { وما في الجنة أعزب } .

                                                                                                          ولأحمد عن أبي هريرة مرفوعا { للرجل من أهل الجنة زوجتان من حور العين } وهو لأحمد أيضا من حديث أبي سعيد لكنه من رواية عطية العوفي ، وهو ضعيف ، وقد روي من حديث عبد الله مرفوعا { لكل واحد منهم زوجتان من الحور العين } قال الحافظ الضياء هذا عندي على شرط الصحيح ، وقد روي من حديث أبي هريرة مرفوعا في حديث الصور ، وفيه { فيدخل رجل منهم على ثلاث وسبعين زوجة مما ينشئ الله ، وثنتين من ولد آدم } وهو حديث ضعيف ، فيه رجل مجهول وفيه إسماعيل بن رافع المدني ضعفه أحمد ويحيى وجماعة ، وتركه الدارقطني وغيره .

                                                                                                          وقال ابن عدي : أحاديثه كلها مما فيه نظر وللترمذي من رواية دراج أبي السمح وهو ضعيف عن أبي الهيثم عن أبي سعيد مرفوعا { أدنى أهل الجنة منزلة من له ثمانون ألف خادم ، واثنتان وسبعون زوجة } ولم أجد في الأخبار ذكر المؤمن من الجن الذكر والأنثى ، وقد احتج على دخولهم الجنة بقوله تعالى { لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان } الآية فإن دخلوها فظاهر الخبر أن الرجل منهم يتزوج كما يتزوج الآدمي ، لكن الآدمي كما يتزوج من الحور العين يتزوج من جنسه ، [ ص: 606 ] وأما المؤمن من الجن فيتزوج من الحور العين ويتزوج من جنسه على ظاهر الخبر ، لأنه ليس في الجنة أعزب لكن تزويجه بآدمية وتزويج الآدمي بجنية فيه نظر ، ورأيت من يقول ظاهر الخبر النفي ، ورأيت من يعكس ذلك ، فإن ثبت هذا في الجنة فهل يلزم جوازه في الدنيا ؟ فيه نظر ، ويأتي في آخر المحرمات في النكاح ، وفي حد اللوطي ما يتعلق بذلك ، والله أعلم ، وإن صح نكاح جنية فيتوجه أنها في حقوق الزوجية كالآدمية لظواهر الشرع ، إلا ما خصه الدليل ، وقد ظهر مما سبق أن نكاح الجني للآدمية كنكاح الآدمي للجنية ، وقد يتوجه القول بالمنع هنا ، وإن جاز عكسه لشرف جنس الآدمي ، وفيه نظر ، لمنع كون هذا الشرف له تأثير في منع النكاح . وقد يحتمل عكس هذا الاحتمال ، لأن الجني يتملك فيصح تمليكه للآدمية ، ويحتمل أن يقال ظاهر كلام من لم يذكر عدم صحة الوصية لجني صحة ذلك ، ولا يضر نصه في الهبة لتعتبر الوصية بها ، ولعل هذا أولى ، لأنه إذا صح تمليك المسلم الحربي فمؤمن الجن أولى ، وكافرهم كالحربي ، ولا دليل على المنع ، ويبايع ويشارى ، إن ملك بالتمليك وإلا فلا ، فأما تمليك بعضهم من بعض فمتوجه ، ومعلوم إن صح معاملتهم ومناكحتهم فلا بد من شروط صحة ذلك بطريق قاطع شرعي ، ويقطعه قاطع شرعي ، ويقبل قولهم أن ما بيدهم ملكهم مع إسلامهم ، وكافرهم كالحربي ويجري [ بينهم ] التوارث الشرعي ، وقد عرف مما سبق من كلام ابن حامد وأبي البقاء أنه يعتبر لصحة صلاته ما يعتبر لصحة صلاة الآدمي ، وظاهر كلام ابن حامد أنه في الزكاة كالآدمي ، وإذا ثبت دخولهم في بعض العمومات [ ص: 607 ] إجماعا كآية الوضوء وآية الصلاة فما الفرق ؟ وما وجه عدم الخصوص ، ولهذا روى أحمد ومسلم عن ابن مسعود { أن الجن لما سألوا النبي صلى الله عليه وسلم الزاد قال لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه ، يقع في أيديكم أوفر ما يكون لحما ، وكل بعرة علف لدوابكم فلا تستنجوا بهما ، فإنها طعام إخوانكم } وأنه في الصوم كالآدمي ، وأنه في الحج كذلك ، وظاهر كلامه وكلام غيره أنه يحرم عليهم ظلم الآدميين ، وظلم بعضهم لبعض ، كما هو ظاهر الأدلة ، وفي حديث أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه عز وجل أنه قال : { يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا } رواه مسلم . ومعلوم أن من ظلم وتعدى بمخالفة ما أوجبه الله تعالى فإنه يجب ردعه وزجره حسب الإمكان ، إذ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر متعين ، وكان شيخنا إذا أتي بالمصروع وعظ من صرعه ، وأمره ونهاه ، فإن انتهى وفارق المصروع أخذ عليه العهد أن لا يعود ، وإن لم يأتمر ولم ينته ولم يفارقه ، ضربه حتى يفارقه ، والضرب في الظاهر على المصروع ، وإنما يقع في الحقيقة على من صرعه ، ولهذا لم يتألم من صرعه به ويصيح ويخبر المصروع إذا أفاق أنه لم يشعر بشيء من ذلك . وأظن أني رأيت عن الإمام أحمد نحو فعل شيخنا ، والأثبت عن أحمد أنه أرسل إلى مصروع ففارقه ، وأنه عاود بعد موت أحمد فذهب أبو بكر المروذي بنعل أحمد وما قال له ، فلم يفارقه ، لم ينقل أن المروذي ضربه ليذهب ، فامتناعه لا يدل على [ ص: 608 ] عدم جوازه ، فلعله لم يرى المحل قابلا ، أو لم يتمكن من ذلك ، أو الوقت ضيق ، أو لم يعرف فيه سلفا ، فتورع عنه وهابه ، أو لم يستحضر مثل هذا الفعل ، ولا تنبيه عليه ، والله أعلم ، وإذا شرع ردع الظالم والمتعدي منهم عمل بالطريق الشرعي ، قال النبي صلى الله عليه وسلم { إن الله قد فرض فرائض فلا تضيعوها ، وحد حدودا فلا تعتدوها } { ولما عرض ذلك الشيطان للنبي صلى الله عليه وسلم بالنار في صلاته قال ألعنك بلعنة الله ، وخنقه } والخبر مشهور في صحيح مسلم ، ومن المعلوم أن كل من دخل في عمومات الشرع عمه كلام المكلف العام ، إلا أن يمنع منه مانع ، لكن الأصل عدمه ، فعل مدعيه الدليل ، وهذا واضح ، وقد احتج القاضي في العدة على العموم بأن لفظة ( من ) إذا استعملت في الاستفهام كقوله : من عندك ، ومن كلمت ؟ صح أن يجيب بذكر كل عاقل ، فثبت أن اللفظ يتناول الجميع ، وكذلك إذا استعملت ( من ) في المجازاة كقوله من دخل داري أكرمته صلح أن يستثنى أي عاقل ، فلولا أن اللفظ يتناول الجميع لما صلح استثناؤهم ، لأن الاستثناء يخرج من اللفظ ما لولاه لكان داخلا فيه ، ألا تراه لما لم يتناول غير العقلاء لم يصح استثناؤهم ، فإن قيل : لا نسلم أن صيغة ( من ) لكل من يعقل ، لأن من يعقل من الجن والملائكة لا يدخلون فيه قيل : الصيغة تناولت كل هؤلاء ، وإنما خرج ذلك بدليل ، لأنه إنما سأله عمن يجوز أن يكون عنده ، وعمن يجوز دخوله ، كذا قال ، وتحرير الجواب أن الواحد من هؤلاء لا يخطر ببال السائل والمتكلم ، ولا يتوهمه ، فلا يصح تفسيره به حتى لو كان من يخطر [ ص: 609 ] بباله لم يخالطهم ، أو كان القائل أحدهم جاز ، وصح ، لعدم المانع ، ومراد القاضي لا يخالف هذا ، وكذا أبو الخطاب لما قيل له : لو كان الاستثناء لا يخرج إلا ما لولاه لوجب دخوله فيه لحسن أن يقول : من دخل داري ضربته إلا الملائكة والجن ، لأنهم لا يدخلون تحت لفظة ( من ) قيل : قد ذكرنا أنه يصح ، وإذا قلنا ، لا يصح : فالمنع من دخولهم تحت اللفظ هو علمنا أن المتكلم قبل الاستثناء لم يردهم ولا عناهم ، فلم يكن في الاستثناء فائدة ، كذا قال ، ويتوجه أن استثناء المتكلم دليل على أنه عناهم وأرادهم ، لئلا يقع الكلام غير مفيد ، وحمله على الصحة متعين ، قال أبو الخطاب : جواب آخر أنه يلزمهم مثل هذا الاستثناء لو أخرج ما لولاه لصح دخوله لوجب إذا استثناء الملائكة والجن أن يصح لأن دخولهم في قوله من دخل داري ضربته يصح ويصلح ، فكل ما يلزمنا يلزمهم مثله . وتقدم في الاستطابة كلام أبي المعالي أن كشف العورة خاليا هي مسألة سترها عن الملائكة والجن . وكلام صاحب المحرر وظاهر كلامهم يجب عن الجن ، لأنهم مكلفون أجانب ، وكذا عن الملائكة مع عدم تكليفهم ، لأن الآدمي مكلف ، وقد أمر الشرع في خبر بهز بن حكيم { يحفظها من كل أحد إلا من زوجته وأمته } وهذا مع العلم بحضورهم ، فلا يرد الخبر المشهور { إن للماء سكانا } ، وتقدم هل يلزم الغسل بجماع جني امرأة ؟ ويأتي : هل [ يسقط ] فرض غسل ميت بغسلهم ، ويتوجه مثله فرض كل كفاية ، إلا الآذان فيتوجه سقوطه ، لقبول خبر صادق فيه ، ولا مانع ، لا سيما إذا سقط بصبي ، ويتوجه في حل ذبيحته كذلك ، بل تحل لوجود [ ص: 610 ] المقتضي وعدم المانع ، ولعدم اعتبار التكليف فيه ، وذكر ابن الجوزي في الموضوعات الخبر { أنه عليه السلام نهى عن ذبائح الجن } فقال : وقيل معناه : أنهم إذا اشتروا دارا ، أو استخرجوا عينا ذبحوا لها ذبيحة لئلا يصيبهم أذى من الجن ، والله أعلم . وقال ابن مسعود : { وذكر عند النبي صلى الله عليه وسلم رجل نام ليلة حتى أصبح ، قال ذلك رجل بال الشيطان في أذنه } متفق عليه ، خص الأذن لأنها حاسة الانتباه قال إبراهيم الحربي : ظهر عليه وسخر منه ، ويتوجه احتمال أنه على ظاهره ، وقاله بعض العلماء ، ولهذا لما سمى ذلك الرجل في أثناء طعامه قاء الشيطان كل شيء أكله رواه أبو داود والنسائي ، وصححه الحاكم ، فيكون بوله وقيؤه طاهرا ، وهذا غريب ، قد يعايا بها ، والله أعلم .

                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                          الخدمات العلمية