الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  295 6 - حدثنا قبيصة قال : حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن إبراهيم ، عن الأسود عن عائشة قالت : كنت أغتسل أنا والنبي صلى الله عليه وسلم من إناء واحد ، كلانا جنب ، وكان يأمرني فأتزر فيباشرني وأنا حائض ، وكان يخرج رأسه إلي وهو معتكف ، فأغسله وأنا حائض .

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقة الحديث للترجمة في قولها : ( فيباشرني ) .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر رجاله ) : وهم ستة : قبيصة بفتح القاف وكسر الباء الموحدة وسكون الياء آخر الحروف وفتح الصاد المهملة ، وفي آخره تاء ، ابن عقبة أبو عامر الكوفي وسفيان الثوري ومنصور بن المعتمر وإبراهيم النخعي وخالد الأسود بن يزيد ، كلهم تقدموا في باب علامة المنافق .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر لطائف إسناده ) :

                                                                                                                                                                                  فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين ، وفيه العنعنة في أربعة مواضع ، وفيه أن رواته كلهم إلى عائشة كوفيون ، وفيه رواية التابعي عن التابعي عن الصحابية . فإن قلت : إبراهيم هل أدرك أحدا من الصحابة أو سمع من أحد منهم ، قلت : ذكر العجلي إبراهيم النخعي لم يحدث عن أحد من الصحابة ، وقد أدرك منهم جماعة ، وقد رأى عائشة رضي الله تعالى عنها ، ويقال : رأى أبا جحيفة وزيد بن أرقم وابن أبي أوفى ، ولم يسمع منهم ، وعن ابن حبان : أنه سمع المغيرة ، والله تعالى أعلم .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره ) :

                                                                                                                                                                                  أخرجه البخاري أيضا في آخر الصوم عن محمد بن يوسف الفريابي ، وأخرجه مسلم في الطهارة عن أبي بكر بن أبي شيبة وزهير بن حرب وإسحاق بن إبراهيم ، ثلاثتهم عن جرير عن منصور به ، وأخرجه أبو داود فيه عن مسلم بن إبراهيم عن شعبة ، وأخرجه الترمذي فيه عن بندار عن ابن مهدي عن سفيان به ، وأخرجه النسائي فيه عن إسحاق بن إبراهيم به ، وفي عشرة النساء عن محمود بن غيلان عن وكيع عن سفيان به ، وعن إسماعيل بن مسعود ، وأخرجه ابن ماجه في الطهارة عن أبي بكر بن أبي شيبة به .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر معناه وإعرابه ) :

                                                                                                                                                                                  قولها ( أنا والنبي ) النبي بالرفع والنصب ، أما الرفع فبالعطف على الضمير المرفوع في "كنت" ، وأما النصب فعلى أن الواو بمعنى المصاحبة ، وقولها ( أنا ) ذكر لأن في عطف الظاهر على الضمير المرفوع المستكن بدون التأكيد خلافا ، كما ذكر في موضعه .

                                                                                                                                                                                  قولها ( كلانا جنب ) وقع حالا ، وإنما لم تقل : كلانا جنبان ; لأنها اختارت اللغة الفصيحة ، وقد ذكرنا أن الجنب يستوي فيه الواحد والمثنى والجمع في اللغة الفصحى ، وإن كان يقال : جنبان وجنبون .

                                                                                                                                                                                  قولها : ( وكان يأمرني ) أي وكان النبي صلى الله عليه وسلم يأمرني بالاتزار ، قولها ( فأتزر ) بفتح الهمزة وتشديد التاء المثناة من فوق ، وأصله أئتزر بالهمزتين أولاهما مفتوحة والثانية ساكنة ; لأن أصله من أزر ، فنقل إلى باب افتعل فصار اتزر يتزر ، وكذا استعمل من غير إدغام في حديث آخر ، وهو : كان النبي صلى الله عليه وسلم يباشر بعض نسائه وهي مؤتزرة في حالة الحيض .

                                                                                                                                                                                  وقال ابن الأثير : وقد جاء في بعض الروايات : وهي متزرة ، وهو خطأ لأن الهمزة لا تدغم في التاء .

                                                                                                                                                                                  قلت : فعلى هذا ينبغي أن يقرأ ، "فآتزر" بالمد ; لأن الهمزتين إذا اجتمعتا ، وكانت الأولى متحركة والثانية ساكنة أبدلت الثانية حرف علة من جنس حركة الأولى فتبدل ألفا بعد الفتحة ، فكذلك هاهنا ; لأن أصله "أأتزر" بهمزتين الأولى متحركة والثانية ساكنة ، فأبدلت الثانية ألفا ، فصارت آتزر بالمد . وقال ابن هشام : وعوام المحدثين يحرفونه فيقرؤونه بألف وتاء مشددة ، ولا وجه له لأنه افتعل من الإزار ، ففاؤه همزة ساكنة بعد همزة المضارعة المفتوحة ، وكذا الزمخشري أنكر الإدغام . وقال الكرماني : فإن قلت : لا يجوز الإدغام فيه عند التصريفي ، قال صاحب المفصل : قول من قال "أتزر" خطأ ، قلت : قول عائشة وهي من فصحاء العرب حجة في جوازه ، فالمخطئ مخطئ ، قلت : إنما يصح ما ادعاه إذا ثبت عن عائشة أنها قالت بالإدغام ، فلم لا يجوز أن يكون [ ص: 266 ] هذا خطأ مثل ما قال معظم أئمة هذا الشأن ، ويكون الخطأ من بعض الرواة أو من عوام المحدثين ، لا من عائشة رضي الله تعالى عنها .

                                                                                                                                                                                  قولها : وأنا حائض في الموضعين جملة حالية ، وكذلك قولها : ( وهو معتكف ) الاعتكاف في اللغة مجرد اللبث ، وفي الشريعة لبث في المسجد مع الصوم والاعتكاف من باب الافتعال ، من عكف يعكف عكوفا إذا أقام ، وعكفه عكفا إذا حبس .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر استنباط الأحكام ) :

                                                                                                                                                                                  منها جواز اغتسال الرجل مع امرأته من إناء واحد ، وقد مر الكلام فيه مستوفى . ومنها جواز مباشرة الحائض ، وهي الملامسة من لمس بشرة الرجل بشرة المرأة ، وقد ترد المباشرة بمعنى الجماع ، والمراد ها هنا المعنى الأول بالإجماع .

                                                                                                                                                                                  ثم اعلم أن مباشرة الحائض على أقسام : أحدها حرام بالإجماع ، ولو اعتقد حله يكفر ، وهو أن يباشرها في الفرج عامدا ، فإن فعله غير مستحل يستغفر الله تعالى ، ولا يعود إليه ، وهل يجب عليه الكفارة أو لا فيه خلاف ; فذهب جماعة إلى وجوب الكفارة منهم قتادة والأوزاعي وأحمد وإسحاق والشافعي في القديم . وقال في الجديد : لا شيء عليه ، ولا ينكر أن يكون فيه كفارة ; لأنه وطء محظور كالوطء في رمضان . وقال أكثر العلماء : لا شيء عليه سوى الاستغفار ، وهو قول أصحابنا أيضا . وقال النووي : ولو فعله غير معتقد حله فإن كان ناسيا أو جاهلا بوجود الحيض أو جاهلا تحريمه أو مكرها ، فلا إثم عليه ولا كفارة ، وإن كان عالما بالحيض وبالتحريم مختارا عامدا ، فقد ارتكب معصية . نص الشافعي على أنها كبيرة ، ويجب عليه التوبة ، وفي وجوب الكفارة قولان أصحهما ، وهو قول الأئمة الثلاثة : لا كفارة عليه .

                                                                                                                                                                                  ثم اختلفوا في الكفارة ; فقيل : عتق رقبة ، وقيل : دينار ونصف دينار على اختلاف بينهم هل الدينار في أول الدم ونصفه في آخره ؟ أو الدينار في زمن الدم ونصفه بعد انقطاعه ؟ فإن قلت : روى أبو داود عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم في الذي يأتي امرأته وهي حائض قال : يتصدق بدينار أو بنصف دينار ، ورواه بقية الأربعة . قلت : رواه البيهقي ، وأعله بأشياء :

                                                                                                                                                                                  منها أن جماعة رووه عن شعبة موقوفا على ابن عباس ، وأن شعبة رجع عن رفعه . ومنها أنه روي مرسلا . ومنها أنه روي معضلا ، وهو رواية الأوزاعي ، عن يزيد بن أبي مالك ، عن عبد الحميد بن عبد الرحمن ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : " آمره أن يتصدق بخمسي دينار " ، والمعضل نوع خاص من المنقطع ; فكل معضل منقطع ، وليس كل منقطع معضلا ، وقوم يسمونه مرسلا . ومنها أن في متنه اضطرابا ; لأنه روي بدينار أو نصف دينار على الشك ، وروي : يتصدق بدينار ، فإن لم يجد ، فبنصف دينار ، وروي : يتصدق بنصف دينار ، وروي إن كان دما أحمر فدينار ، وإن كان أصفر فنصف دينار ، وروي : إن كان الدم عبيطا فليتصدق بدينار ، وإن كان صفرة فنصف دينار .

                                                                                                                                                                                  قلت : هذا الحديث صححه الحاكم وابن القطان ، وذكر الخلال عن أبي داود أن أحمد قال : ما أحسن حديث عبد الحميد ، وهو أحد رواة هذا الحديث ، وهو من رجال الصحيحين ، وهو عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب بن نفيل القرشي الهاشمي العدوي ، عامل عمر بن عبد العزيز على الكوفة ، رأى عبد الله بن عباس ، وسأله ، وروى عن حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم . وقيل لأحمد : تذهب إليه ؟ قال : نعم ، إنما هو كفارة ، ثم إن شعبة إن كان رجع عن رفعه فإن غيره رواه مرفوعا ، وهو عمرو بن قيس الملائي ، وهو ثقة ، ومن طريقه أخرجه النسائي ، وكذا رواه قتادة مرفوعا ، وأسقطا في روايتهما عبد الحميد ، ومقتضى القواعد أن رواية الرفع أشبه بالصواب ; لأنه زيادة ثقة ، وأما ما روي فيه من خمسي دينار أو عتق نسمة وغير ذلك فما منها شيء يعول عليه ، ثم إن الذين ذهبوا إلى عدم وجوب الصدقة أجابوا أن قوله صلى الله عليه وسلم : يتصدق ، محمول على الاستحباب إن شاء تصدق ، وإلا لا ، وعن الحسن أنه قال : عليه ما على من واقع أهله في رمضان .

                                                                                                                                                                                  النوع الثاني من المباشرة المباشرة فيما فوق السرة وتحت الركبة بالذكر أو بالقبلة أو المعانقة أو اللمس أو غير ذلك ، فهذا حلال بالإجماع إلا ما حكي عن عبيدة السلماني وغيره من أنه لا يباشر شيئا منها ، فهو شاذ منكر مردود بالأحاديث الصحيحة المذكورة في الصحيحين وغيرهما في مباشرة النبي صلى الله عليه وسلم فوق الإزار .

                                                                                                                                                                                  النوع الثالث : المباشرة فيما بين السرة والركبة في غير القبل والدبر ; فعند أبي حنيفة حرام ، وهو رواية عن أبي يوسف ، وهو الوجه الصحيح للشافعية ، وهو قول مالك ، وقول أكثر العلماء ; منهم سعيد بن المسيب ، وشريح ، وطاوس ، وعطاء ، وسليمان بن يسار ، وقتادة ، وعند محمد بن الحسن ، وأبي يوسف في رواية يتجنب شعار الدم [ ص: 267 ] فقط ، وممن ذهب إليه عكرمة ومجاهد والشعبي والنخعي والحكم والثوري والأوزاعي وأحمد وأصبغ وإسحاق بن راهويه وأبو ثور وابن المنذر وداود ، وهذا أقوى دليلا ; لحديث أنس رضي الله تعالى عنه : ( اصنعوا كل شيء إلا النكاح ) ، واقتصار النبي صلى الله عليه وسلم في مباشرته على ما فوق الإزار محمول على الاستحباب ، وقول محمد هو المنقول عن علي وابن عباس وأبي طلحة رضي الله تعالى عنهم ، وذكر القرطبي عن مجاهد : كانوا في الجاهلية يتجنبون النساء في الحيض ، ويأتونهن في أدبارهن في مدته ، والنصارى كانوا يجامعونهن في فروجهن ، واليهود والمجوس كانوا يبالغون في هجرانهن وتجنبهن ، فيعتزلونهن بعد انقطاع الدم وارتفاعه سبعة أيام ، ويزعمون أن ذلك في كتابهم .

                                                                                                                                                                                  ومنها جواز استخدام الزوجات . ومنها أن فيه طهارة عرق الحائض . ومنها أن إخراج الرأس من المسجد لا يبطل الاعتكاف .




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية