الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  41 1 - (حدثنا عمرو بن خالد قال: حدثنا زهير قال: حدثنا أبو إسحاق عن البراء أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أول ما قدم المدينة نزل على أجداده أو قال أخواله من الأنصار، وأنه صلى قبل بيت المقدس ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا، وكان يعجبه أن تكون قبلته قبل البيت، وأنه صلى أول صلاة صلاها صلاة العصر وصلى معه قوم، فخرج رجل ممن صلى معه فمر على أهل مسجد وهم راكعون فقال: أشهد بالله لقد صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مكة، فداروا كما هم قبل البيت، وكانت اليهود قد أعجبهم إذ كان يصلي قبل بيت المقدس وأهل الكتاب، فلما ولى وجهه قبل البيت أنكروا ذلك).

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقة الحديث للآية التي هي إحدى الترجمتين ظاهرة ولكن لا تطابق لصدر الحديث الذي هو إحدى روايتي زهير عن أبي إسحاق لقول صلى الله عليه وسلم: (الصلاة من الإيمان)، وقول النووي في الحديث فوائد منها ما ترجم له وهو كون الصلاة من الإيمان إشارة إلى آخر الحديث الذي هو الرواية الثانية لزهير عن أبي إسحاق.

                                                                                                                                                                                  (بيان رجاله) وهم أربعة: أبو الحسن عمرو وبفتح العين وسكون الميم ابن خالد بن فروخ بن سعيد بن عبد الرحمن بن واقد بن ليث بن واقد ابن عبد الله الحنظلي الجزري الحراني سكن مصر، وروى عن الليث وأبي لهيعة وغيرهما، وروى عنه البخاري وانفرد به وأبو زرعة وغيرهما، وروى ابن ماجه عن رجل عنه، قال أبو حاتم: صدوق، وقال العجلي: مصري ثبت ثقة، مات بمصر سنة تسع وعشرين ومائتين، ووقع في رواية القابسي عن عبدوس عن ابن زيد المروزي، وفي رواية أبي ذر عن الكشميهني عمر بن خالد بضم العين وفتح الميم وهو تصحيف نبه عليه أبو علي الغساني وغيره، وليس في شيوخ البخاري من اسمه عمر بن خالد ولا في رجاله كلهم، بل ولا رجال الكتب الستة ولهم عمرو بن خالد الواسطي المتروك أخرج له ابن ماجه وحده وعمرو بن خالد الكوفي منكر الحديث.

                                                                                                                                                                                  الثاني: زهير بصيغة التصغير بن معاوية بن حديج بضم الحاء وفتح الدال المهملتين وبالجيم بن الرحيل بضم الراء وفتح الحاء المهملة ابن زهير بن خيثمة بفتح الخاء المعجمة وسكون الياء آخر الحروف وفتح الثاء المثلثة، ويكنى بأبي خيثمة الجعفي الكوفي سكن الجزيرة، سمع السبيعي وحميدا الطويل وغيرهما من التابعين وخلقا من غيرهم، وعنه يحيى القطان وجمع من الأئمة واتفقوا على جلالته وحسن لفظه وإتقانه; قال أبو زرعة: هو ثقة إلا أنه سمع من أبي إسحاق بعد الاختلاط توفي سنة اثنتين أو ثلاث وسبعين ومائة وكان قد فلج قبله بسنة ونصف أو نحوها، روى له الجماعة.

                                                                                                                                                                                  الثالث: أبو إسحاق عمرو بن عبد الله بن علي، وقيل عمرو بن عبد الله بن ذي يحمد الهمداني السبيعي الكوفي التابعي الجليل الكبير المتفق على جلالته وتوثيقه، ولد لسنتين بقيتا من خلافة عثمان رضي الله عنه، ورأى عليا وأسامة والمغيرة رضي الله عنهم، ولم يصح سماعه منهم، وسمع ابن عباس وابن عمر وابن الزبير ومعاوية وخلقا من الصحابة وآخرين من التابعين، وعنه التيمي وقتادة والأعمش وهم من التابعين والثوري وهو أثبت الناس فيه وخلق من الأئمة، قال العجلي: سمع ثمانية وثلاثين من الصحابة، وقال ابن المديني: روى عن سبعين أو ثمانين لم يرو عنهم غيره، مات سنة ست، وقيل سبع، وقيل ثمان، وقيل تسع وعشرين ومائة، روى له الجماعة.

                                                                                                                                                                                  الرابع: البراء بتخفيف الراء وبالمد على المشهور وقيل بالقصر، وهو أبو عمارة بضم العين، ويقال: أبو عمرو، ويقال: أبو الطفيل بن عازب بن الحارث بن عدي بن جشم بن مجدعة بن الحارثة بن الحارث بن الخزرج بن عمر بن مالك بن أوس الأنصاري الأوسي، روي له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثمائة حديث وخمسة أحاديث [ ص: 242 ] اتفقا منها على اثنين وعشرين، وانفرد البخاري بخمسة عشر ومسلم بستة، استصغر يوم أحد مع ابن عمر ثم شهد الخندق والمشاهد كلها وافتتح الري سنة أربع وعشرين صلحا أو عنوة وشهد مع أبي موسى غزوة تستر، وشهد مع علي رضي الله عنه مشاهده، توفي أيام مصعب بن الزبير بالكوفة، روى له الجماعة وأبوه عازب صحابي أيضا ذكره ابن سعد في (طبقاته)، وليس في الصحابة عازب غيره ولا فيهم البراء بن عازب سوى ولده.

                                                                                                                                                                                  (بيان الأنساب): الحنظلي نسبة إلى حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم، وفي جعفي أيضا حنظلة بطن وهو ابن كعب بن عوف بن حريم بن جعفي والجزري نسبة إلى الجزيرة ما بين الفرات ودجلة، قيل لها الجزيرة لأنها مثل الجزيرة من جزائر البحر والحراني نسبة إلى حران مدينة في ديار بكر واليوم خراب; والجعفي بضم الجيم نسبة إلى جعفة بن سعد بن العشيرة بن مالك، ومالك هو جماع مذحج والهمداني بفتح الهاء وسكون الميم وبالدال المهملة نسبة إلى همدان وهو أوسلة بن مالك بن زيد بن أوسلة بن ربيعة بن الخيار بالخاء المعجمة المكسورة ابن ملكان بكسر الميم، ضبطه ابن حبيب، وقيل: مالك بن زيد بن كهلان والسبيعي بفتح السين المهملة وكسر الباء الموحدة نسبة إلى السبيع جد القبيلة وهو السبيع بن الصعب بن معاوية بن كبير بن مالك بن حاشد بن جشم بن خيوان بن نوف بن همدان، وأبعد من قال عرف أبو إسحاق بذلك لنزوله فيهم، وأغرب المزي حيث ذكره في الألقاب.

                                                                                                                                                                                  (بيان لطائف إسناده) منها أن فيه التحديث والعنعنة، ومنها أن رواته أئمة أجلاء، ومنها أنهم أربعة فقط فإن قيل هذا معلول بعلتين: الأولى أن زهيرا لم يسمع من أبي إسحاق إلا بعد الاختلاط، قاله أبو زرعة ، وقال أحمد : ثبت بخ بخ، لكن في حديثه عن أبي إسحاق لين، سمع منه بآخره الثانية أبو إسحاق مدلس ولم يصرح بالسماع، قلت: الجواب عن الأولى أنه لو لم يثبت سماع زهير منه قبل الاختلاط عند البخاري لما أودعه في صحيحه على أنه تابعه عليه عند البخاري إسرائيل بن يونس حفيده وغيره، وعن الثانية أن البخاري روى في التفسير من طريق الثوري عن أبي إسحاق سمعت البراء فحصل الأمن من ذلك، فافهم.

                                                                                                                                                                                  (بيان تعدد موضعه ومن أخرجه غيره) أخرجه البخاري ههنا عن عمرو بن خالد، وأخرجه أيضا في التفسير عن أبي نعيم، وأخرجه أيضا في التفسير، ومسلم أيضا في الصلاة عن محمد بن المثنى وأبي بكر بن خلاد، والنسائي أيضا فيهما عن محمد بن بشار ثلاثتهم عن يحيى بن سعيد عن الثوري عن أبي إسحاق عنه وأخرجه النسائي أيضا في الصلاة، وفي التفسير عن محمد بن حاتم عن أبي نعيم عن حبان بن موسى عن عبد الله بن المبارك عن شريك بن عبد الله عن أبي إسحاق عنه، وأخرجه الترمذي في الصلاة، وفي التفسير عن هناد عن وكيع عن إسرائيل بن يونس عن جده أبي إسحاق عنه، وقال: حسن صحيح، وأخرجه البخاري أيضا في الصلاة عن عبد الله بن رجاء، وفي خبر الواحد عن يحيى عن وكيع كلاهما عنه به، وأخرجه النسائي أيضا في الصلاة، وفي التفسير عن محمد بن إسماعيل عن إبراهيم عن إسحاق بن يوسف عن المازري عن زكريا بن أبي زائدة عن أبي إسحاق عنه.

                                                                                                                                                                                  (بيان اللغات); قوله " المدينة " أراد بها مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، واشتقاقها إما من مدن بالمكان إذا قام به على وزن فعيلة ويجمع على مدائن بالهمزة، وإما من دان أي أطاع أو من دين أي ملك، فعلى هذا يجمع على مداين بلا همز كمعايش، ولها أسماء كثيرة: يثرب وطيبة بفتح الطاء وسكون الياء آخر الحروف وطابة، والطيب إما لخلوصها من الشرك أو لطيبها لساكنيها لأمنهم ودعتهم، وقيل لطيب عيشهم فيها، وتسمى الدار أيضا للاستقرار بها; قوله " قبل بيت المقدس " بكسر القاف وفتح الباء الموحدة أي نحو بيت المقدس وجهته، والمقدس بفتح الميم وسكون القاف وكسر الدال مصدر ميمي كالمرجع أو اسم مكان من القدس وهو الطهر، أي المكان الذي يطهر فيه العابد من الذنوب أو تطهر العبادة من الأصنام، وجاء فيه ضم الميم وفتح القاف والدال المشددة، وهو اسم مفعول من التقديس أي التطهير، وقد جاء بصيغة اسم الفاعل أيضا لأنه يقدس العابد فيه من الآثام، وفي (العباب): القدس، والقدس مثال خلق، وخلق الطهر اسم مصدر ومنه حظيرة القدس وروح القدس جبريل عليه السلام; قال الله تعالى: وأيدناه بروح القدس وقيل له روح القدس لأنه خلق من [ ص: 243 ] الطهارة، والقدس البيت المقدس; قوله " أشهد بالله " قال الجوهري: أشهد بالله أي أحلف به.

                                                                                                                                                                                  (بيان الإعراب); قوله " كان أول ما قدم المدينة " هذه الجملة خبر إن في محل الرفع و" أول " نصب على الظرف و "ما " مصدرية تقديره في أول قدومه المدينة عند الهجرة من مكة، وقدم بكسر الدال مضارعه يقدم بالضم ومصدره قدوم، وأما قدم بالفتح فمضارعه يقدم بالضم أيضا ومصدره قدوم بضم القاف; قال تعالى: يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار وأما قدم بالضم فمضارعه يقدم بالضم أيضا ومصدره قدم بكسر القاف وفتح الدال فهو قديم، وانتصاب المدينة كانتصاب الدار في قولك دخلت الدار والظروف يتوسع فيها; قوله " نزل " جملة في محل النصب على أنها خبر كان; قوله " من الأنصار " كلمة " من " فيه بيانية; قوله " وأنه " بفتح الهمزة عطف على قوله " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "; قوله " صلى " جملة في محل الرفع على أنها خبر أن; قوله " قبل بيت المقدس " نصب على الحال بمعنى متوجها إليه; قوله " وكان " أي النبي صلى الله عليه وسلم; قوله " يعجبه " خبر كان; قوله " أن يكون " في محل الرفع على أنه فاعل يعجبه وأن مصدرية تقديره وكان يعجبه كون قبلته جهة البيت أي كان يحب ذلك; قوله " وأنه " بفتح الهمزة أيضا عطف على أنه المذكورة قبلها; قوله " صلى " جملة من الفعل والفاعل في محل الرفع على أنها خبر أن; قوله " أول صلاة " كلام إضافي منصوب على أنه مفعول صلى; قوله " صلاها " جملة في محل الجر على أنها صفة صلاة; قوله " صلاة العصر " كلام إضافي منصوب على أنه بدل من قوله " أول صلاة "، وأعربه ابن مالك بالرفع; قوله " وصلى معه " أي مع النبي صلى الله عليه وسلم، و " قوم " مرفوع لأنه فاعل صلى، وقد قلنا غير مرة إن لفظة " قوم " موضوعة للرجال دون النساء ولا واحد له من لفظه وربما دخلت النساء فيه على سبيل التبع.

                                                                                                                                                                                  قوله " وهم راكعون " جملة اسمية منصوبة المحل على الحال; قوله " فقال " أي الرجل المذكور; قوله " أشهد بالله " جملة وقعت معترضة بين قال وبين مقول القول وهو قوله " لقد صليت " اللام للتأكيد و " قد " للتحقيق; قوله " قبل مكة " حال أي متوجها إليها; قوله " فداروا " الفاء فيه تسمى الفاء الفصيحة أي سمعوا كلامه فداروا كما في قوله تعالى: فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت أي فضرب فانفجرت، والفاء الفصيحة هي التي تدل على محذوف هو سبب لما بعدها; قوله " كما هم " قال الكرماني: " ما " موصولة و " هم " مبتدأ وخبره محذوف، ومثل هذه الكاف تسمى بكاف المقارنة أي دورانهم مقارن لحالهم وتبعه على هذا بعضهم مقلدا من غير تحرير، قلت: الكاف المفردة إما جارة أو غير جارة، فالجارة حرف واسم، والحرف له خمسة معان: التشبيه نحو زيد كالأسد، والتعليل أثبت ذلك قوم ونفاه الآخرون نحو: كما أرسلنا فيكم أي لأجل إرسالي فيكم، والاستعلاء، ذكره الأخفش والكوفيون نحو كخير جوابا لقول من قال له: كيف أصبحت، أي على خير، والمبادرة فيما إذا اتصلت بما نحو سلم كما تدخل، وصل كما يدخل الوقت، ذكره ابن الخباز وأبو سعيد السيرافي وهو غريب جدا، والتوكيد وهي الزائدة نحو: ليس كمثله شيء التقدير ليس مثله شيء، وأما اسم الجارة فهي مرادفة لمثل ولا تقع كذلك عند سيبويه والمحققين إلا في الضرورة نحو قوله: (

                                                                                                                                                                                  يضحكن عن كالبرد المنهم

                                                                                                                                                                                  ).

                                                                                                                                                                                  وأما الكاف غير الجارة فنوعان مضمر منصوب أو مجرور نحو: ما ودعك ربك فإذا عرفت هذا علمت أنه لم يقل أحد في أقسام الكاف كاف المقارنة، والتحقيق في إعراب هذا الكلام أن نقول: إن الكاف في " كما هم " يحتمل وجهين: الأول أن تكون للاستعلاء كما في قولك كن كما أنت أي على ما أنت عليه، والتقدير ههنا أيضا فداروا على ما هم عليه، ثم في إعرابه أوجه: الأول: أن تكون " ما " موصولة و " هم " مبتدأ وخبره محذوف وهو " عليه ". الثاني: أن تكون " ما " زائدة ملغاة والكاف جارة و " هم " ضمير مرفوع أنيب عن المجرور كما في قولك ما أنا كأنت، والمعنى فداروا في الحال مماثلين لأنفسهم في الماضي. الثالث: أن تكون " ما " كافة و " هم " مبتدأ حذف خبره و " هو عليه " أو كائنون. الرابع: أن تكون " ما " كافة أيضا و " هم " فاعل، والأصل كما كانوا ثم حذف كان فانفصل الضمير.

                                                                                                                                                                                  الوجه الثاني: أن تكون الكاف كاف المبادرة كما ذكرنا الآن، والمعنى فداروا متبادرين في حالهم التي هم فيها، والوجه الأول هو الأحسن، فافهم; قوله " قبل البيت " حال أي مواجهين إليه; قوله " قد أعجبهم " الضمير المرفوع المستتر في أعجب يرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو فاعل أعجب و " هم " هو الضمير المنصوب وقع مفعولا; قوله " إذ كان " أي النبي صلى الله عليه وسلم، قال الكرماني: وإذ كان بدل الاشتمال وإذ ههنا للزمان [ ص: 244 ] المطلق أي أعجبهم زمان كان يصلي فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو بيت المقدس لأنه كان قبلتهم فإعجابهم لموافقة قبلة رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلتهم. قلت: إذ ههنا ظرف بمعنى حين، والمعنى أعجب اليهود حين كان يصلي عليه السلام قبل بيت المقدس و " إذ " إنما تقع بدلا عن المفعول كما في قوله تعالى: واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت وههنا المفعول هو الضمير المنصوب في قوله " أعجبهم "، ولا يصح أن يكون بدلا منه لفساد المعنى والضمير المستتر في أعجب ضمير الفاعل; قوله " قبل بيت المقدس " حال أي متوجها إليه، فإن قلت ما الإضافة التي في بيت المقدس؟ قلت: إضافة الموصوف إلى صفته كصلاة الأولى ومسجد الجامع، والمشهور فيه الإضافة وجاء أيضا على الصفة لبيت المقدس، وقال أبو علي تقديره بيت مكان الطهارة; قوله " وأهل الكتاب " بالرفع عطف على قوله " اليهود "، فهو من قبيل عطف العام على الخاص; لأن أهل الكتاب يشمل اليهود والنصارى وغيرهما ممن يعتقد بكتاب منزل، وقال الكرماني: أو المراد به أي بأهل الكتاب النصارى فقط عطف خاص على خاص، وقال بعضهم: فيه نظر لأن النصارى لا يصلون لبيت المقدس، فكيف يعجبهم؟ قلت: سبحان الله إن هذا عجب شديد كيف لم يتأمل هذا كلام الكرماني بتمامه حتى نظر فيه، فإنه لما قال المراد به النصارى فقط قال: وجعلوا تابعة لأنه لم تكن قبلتهم بل إعجابهم كان بالتبعية لليهود على أن نفس عبارة الحديث يشهد بإعجاب النصارى أيضا لأن قوله " وأهل الكتاب " إذا كان عطفا على اليهود يكونون داخلين فيما وصف به اليهود، فالنصارى من جملة أهل الكتاب فهم أيضا داخلون فيه، والأظهر أن يكون وأهل الكتاب بالنصب على أن الواو فيه بمعنى مع أي كان يصلي قبل بيت المقدس مع أهل الكتاب، وهذا وجه صحيح ولكن يحتاج إلى تصحيح الرواية بالنصب، وفي هذا الوجه أيضا يدخل فيهم النصارى لأنهم من أهل الكتاب; قوله " فلما ولى " أي أقبل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وجهه نحو القبلة أنكروا ذلك أي أنكر أهل الكتاب توجهه إليها، فعند ذلك نزل: سيقول السفهاء من الناس الآية، وقد صرح البخاري بذلك في روايته من طريق إسرائيل.

                                                                                                                                                                                  (بيان المعاني); قوله " كان أول ما قدم المدينة " كان قدومه عليه السلام إلى المدينة يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأول حين اشتداد الضحاء وكادت الشمس تعتدل، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من مكة يوم الاثنين ودخل المدينة يوم الاثنين، فالظاهر أن بين خروجه من مكة ودخوله المدينة خمسة عشر يوما لأنه أقام بغار ثور ثلاثة أيام ثم سلك طريق الساحل وهو أبعد من طريق الجادة; قوله " نزل على أجداده أو قال أخواله " الشك من أبي إسحاق، والمراد بالأجداد هم من جهة الأمومة، وإطلاق الجد والخال هنا مجاز لأن هاشما جد أب رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج من الأنصار، وقال موسى بن عقبة وابن إسحاق والواقدي وغيرهم أول ما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم على كلثوم بن الهدم بن امرئ القيس بن الحارث بن زيد بن مالك بن عوف بن عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس الأنصاري، وكان يجلس للناس في بيت سعد بن خيثمة فأقام النبي صلى الله عليه وسلم بقباء في بني عمرو بن عوف الاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس وأسس مسجدهم، وقال ابن سعد: يقال أقام فيهم أربع عشرة ليلة، وجاء مبينا في البخاري في كتاب الصلاة من رواية أنس رضي الله عنه قال: فنزل بأعلى المدينة في حي يقال لهم بنو عمرو بن عوف، فقام فيهم أربع عشرة ليلة ثم خرج يوم الجمعة، فأدركته الجمعة في بني سالم بن عوف في المسجد الذي في بطن الوادي، وكانت أول جمعة صلاها بالمدينة، فقال ابن إسحاق: فأتاه عتبان بن مالك في رجال من قومه فقالوا: يا رسول الله أقم عندنا في العدد والعدد والمنعة، فقال: خلوا سبيلها فإنها مأمورة - لناقته - فخلوا سبيلها حتى إذا وازنت دار بني بياضة فتلقاه قوم فقالوا له مثل ذلك، فقال لهم: خلوا سبيلها فإنها مأمورة، فخلوا سبيلها حتى مر ببني ساعدة فقالوا له مثل ذلك، فقال لهم مثل ما تقدم ثم دار ببني الحرث بن الخزرج، فكذلك، ثم دار بني عدي بن النجار وهم أخواله، فإن أم عبد المطلب سلمى بنت عمرو بن زيد بن لبيد بن خداش بن عامر بن غنم بن عدي بن النجار بن ثعلبة بن عمرو بن الخزرج، وكان هاشم بن عبد المطلب قدم المدينة فتزوج سلمى، وكانت شريفة لا تنكح الرجال حتى يشترطوا لها أن أمرها بيدها إذا كرهت رجلا فارقته، فولدت لهاشم عبد المطلب، فقالوا: يا رسول الله هلم إلى أخوالك إلى العدد والعدد والمنعة، فقال: خلوا سبيلها فإنها مأمورة، فخلوا سبيلها فانطلقت حتى إذا أتت دار بني [ ص: 245 ] مالك بن النجار بركت على باب المسجد وهو يومئذ مربد، فلما بركت ورسول الله عليه السلام عليها لم ينزل وثبت، فسارت غير بعيد ورسول الله عليه السلام واضع لها زمامها لا يثنيها به، ثم التفتت خلفها فرجعت إلى منزلها أول مرة فبركت، ثم تحلحلت ورزمت ووضعت جرانها، فنزل عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، واحتمل أبو أيوب خالد بن زيد رضي الله عنه رحله فوضعه في بيته فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يزل عنده حتى بنى مسجده ومساكنه، ثم انتقل إلى مساكنه من بيت أبي أيوب، ويقال إن النبي صلى الله عليه وسلم أقام عند أبي أيوب سبعة أشهر وبعث وهو في بيت أبي أيوب زيدا وأبا رافع من مواليه فقدما بفاطمة وأم كلثوم ابنتيه وسودة زوجته رضي الله عنهن، قلت: فعلى هذا إنما نزل النبي صلى الله عليه وسلم على كلثوم بن الهدم وهو أوسي من بني عمرو بن عوف، وفي الثاني على أبي أيوب خالد بن زيد، وليسا ولا واحد منهما من أخواله ولا أجداده، وإنما أخواله وأجداده في بني عدي بن النجار، وقد مر بهم ونزل على بني مالك أخي عدي، فيجوز أن يكون ذكر ذلك تجوزا لعادة العرب في النسبة إلى الأخ أو لقرب ما بين داريهما، وقال النووي: قوله أجداده أو أخواله شك من الراوي وهم أخواله وأجداده مجازا لأن هاشما تزوج من الأنصار.

                                                                                                                                                                                  قوله " ثم تحلحلت "، يقال تحلحل الشيء عن مكانه أي زال، وحلحلت الناقة إذا قلت بها حل وهو بالتسكين وهو زجر لها وهو بالحاء المهملة; قوله " ورزمت " بتقديم الراء على الزاي المعجمة، يقال رزمت الناقة ترزم وترزم رزوما ورزاما بالضم قامت من الإعياء والهزل ولم تتحرك فهي رازم; قوله " جرانها " بكسر الجيم وجران البعير مقدم عنقه من مذبحه إلى منخره والجمع جرن بضمتين.

                                                                                                                                                                                  قوله " ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا " كذا وقع الشك في رواية زهير ههنا، وفي الصلاة أيضا عن أبي نعيم عنه، وكذا في الترمذي عنه، وفي رواية إسرائيل عند الترمذي أيضا، ورواه أبو عوانة في صحيحه عن عمار بن رجاء وغيره عن أبي نعيم فقال: ستة عشر من غير شك، وكذا لمسلم من رواية أبي الأحوص، والنسائي من رواية أبي زكريا بن أبي زائدة وشريك ولأبي عوانة أيضا من رواية عمار بن رزيق بتقديم الراء المضمومة كلهم عن أبي إسحاق، وكذا لأحمد بسند صحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما وللبزار والطبراني من حديث عمرو بن عوف سبعة عشر، وكذا للطبراني عن ابن عباس رضي الله عنهما، ونص النووي على صحة ستة عشر لإخراج مسلم إياها بالجزم فيتعين اعتمادها، وقال الداودي: إنه الصحيح قبل بدر بشهرين وهو قول ابن عباس والحربي; لأن بدرا كانت في رمضان في السنة الثانية، ونص القاضي على صحة سبعة عشر وهو قول ابن إسحاق وابن المسيب ومالك بن أنس.

                                                                                                                                                                                  فإن قلت: كيف الجمع بين الروايتين؟ قلت: وجه الجمع أن من جزم بستة عشر أخذ من شهر القدوم وشهر التحويل شهرا وألغى الأيام الزائدة فيه، ومن جزم بسبعة عشر عدهما معا ومن شك تردد في ذلك، وذلك أن القدوم كان في شهر ربيع الأول بلا خلاف وكان التحويل في نصف رجب في السنة الثانية على الصحيح وبه جزم الجمهور. ورواه الحاكم بسند صحيح عن ابن عباس وجاءت فيه روايات أخرى، ففي سنن أبي داود: ثمانية عشر شهرا، وكذا في سنن ابن ماجه من طريق أبي بكر بن عياش عن أبي إسحاق وأبو بكر سيئ الحفظ، وعند ابن جرير من طريقه في رواية: سبعة عشر، وفي رواية: ستة عشر، وخرجه بعضهم على قول محمد بن حبيب أن التحويل كان في نصف شعبان وهو الذي ذكره النووي في (الروضة) وأقره مع كونه رجح في شرحه رواية: ستة عشر شهرا; لكونها مجزوما بها عند مسلم، ولا يستقيم أن يكون ذلك في شعبان، وقد جزم موسى بن عقبة بأن التحويل كان في جمادى الآخرة، وحكى المحب الطبري ثلاثة عشر شهرا، وفي رواية أخرى: سنتين، وأغرب منهما تسعة أشهر وعشرة أشهر، وهما شاذان، وقال أبو حاتم بن حبان: صلى المسلمون إلى بيت المقدس سبعة عشر شهرا وثلاثة أيام سواء; لأن قدومه عليه السلام من مكة كان يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأول وحولت يوم الثلاثاء نصف شعبان، وفي تفسير ابن الخطيب عن أنس أنها حولت بعد الهجرة بتسعة أشهر وهو غريب، وعلى هذا القول يكون التحويل في ذي القعدة إن عد شهر الهجرة وهو ربيع الأول أو ذي الحجة إن لم يعد وهو أغرب، وفي ابن ماجه: إنها صرفت إلى الكعبة بعد دخوله المدينة بشهرين، وقال إبراهيم بن إسحاق: حولت في رجب، وقيل: في جمادى، فحصلت في تعيين الشهر أقوال، والله تعالى أعلم.

                                                                                                                                                                                  قوله " صلاة العصر " كذا هو ههنا صلاة العصر، وجاء أيضا من رواية البراء أخرجها البخاري في الصلاة وفيه: فصلى مع النبي صلى الله تعالى عليه [ ص: 246 ] وسلم رجل ثم خرج بعد ما صلى فمر على قوم من الأنصار في صلاة العصر يصلون نحو بيت المقدس، فقال لهم، فانحرفوا، فقيد الأولى بالعصر في الحديث الأول وأطلق الثانية، وقيد في الحديث الثاني الثانية بالعصر وأطلق الأولى، وجاء في البخاري في كتاب خبر الواحد تقييده الصلاتين بالعصر، فقال من رواية البراء أيضا: فوجه نحو الكعبة وصلى معه رجل العصر، ثم خرج فمر على قوم من الأنصار فقال لهم: هو يشهد أنه صلى مع النبي صلى الله تعالى عليه وسلم العصر وأنه قد وجه إلى الكعبة، قال: فانحرفوا وهم ركوع في صلاة العصر، وكذا جاء في الترمذي أيضا أن الصلاتين كانتا العصر، ولم يذكر مسلم ولا النسائي في حديث البراء هذا تعيين صلاة العصر ولا غيرهما، وجاء في البخاري والنسائي ومسلم أيضا في كتاب الصلاة من حديث مالك عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر قال: ( بينا الناس بقباء في صلاة الصبح إذ جاءهم آت)، وفيه: (فكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة )، وكذلك أيضا جاء في مسلم من رواية ثابت عن أنس كرواية ابن عمر أنها الصبح، فمر رجل من بني سلمة وهم ركوع في صلاة الفجر وطريق الجمع بين رواية العصر والصبح أن التي صلاها مع النبي صلى الله عليه وسلم العصر مر على قوم من الأنصار في تلك الصلاة وهي العصر، فهذا من رواية البراء، وأما رواية ابن عمر وأنس رضي الله عنهما أنها الصبح، فهي صلاة أهل قباء ثاني يوم، وعلى هذا يقع الجمع بين الأحاديث، فالذي مر بهم ليسوا أهل قباء بل أهل مسجد بالمدينة ومر عليهم في صلاة العصر، وأما أهل قباء فأتاهم في صلاة الصبح كما جاء مصرحا به في الروايات، وقال الشيخ قطب الدين: ومال بعض المتأخرين ممن أدركناهم إلى ترجيح رواية الصبح، قال: لأنها جاءت في رواية ابن عمر وأنس وأهملت في بعض الروايات حديث البراء وعينت بالعصر في بعض الطرق.

                                                                                                                                                                                  قال: فتقدمت رواية الصبح لأنها من رواية صحابيين، قلت: الأول هو الصواب، وقد قال النووي : لأنه أمكن حمل الحديثين على الصحة، فهو أولى من توهين رواية العدول المخرجة في الصحيح، وممن بينه كما روى أبو داود مرسلا عن بكير بن الأشج أنه كان بالمدينة تسعة مساجد مع مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمع أهلها أذان بلال رضي الله عنه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيصلون في مساجدهم، وأقربها مسجد بني عمرو بن مندول من بني النجار، ومسجد بني ساعدة، ومسجد بني عبيد، ومسجد بني سلمة، ومسجد بني زريق، ومسجد عفان، ومسجد سلم، ومسجد جهينة، وشك في تعيين التاسع .

                                                                                                                                                                                  قوله " فخرج رجل " وهو عباد بن نهيك بفتح النون وكسر الهاء بن أساف الخطمي صلى إلى القبلتين مع النبي عليه الصلاة والسلام ركعتين إلى بيت المقدس وركعتين إلى الكعبة يوم صرفت، قاله ابن عبد البر، وقال ابن بشكوال هو عباد بن بشر الأشهلي، ذكره الفاكهي في أخبار مكة عن خويلد بنت أسلم، وكانت من المبايعات، وفيه قول ثالث أنه عباد بن وهب رضي الله عنه; قوله " فمر على أهل مسجد " هؤلاء ليسوا أهل قباء بل أهل مسجد بالمدينة وهو مسجد بني سلمة ويعرف بمسجد القبلتين، ومر عليهم المار في صلاة العصر، وأما أهل قباء فأتاهم الآتي في صلاة الصبح كما قررناه آنفا، وقال الكرماني: لفظ الكتاب يحتمل أن يكون المراد من " مسجد " هو مسجد قباء ومن لفظ " هم راكعون " أن يكونوا في صلاة الصبح اللهم إلا أن يقال الفاء التعقيبية لا تساعده، قلت: بالاحتمال لا يثبت الحكم، والتحقيق فيه ما ذكرناه الآن; قوله " وهم راكعون " يحتمل أن يراد به حقيقة الركوع وأن يراد به الصلاة من باب إطلاق الجزء وإرادة الكل.

                                                                                                                                                                                  (بيان استنباط الأحكام) وهو على وجوه: الأول: فيه دليل على صحة نسخ الأحكام وهو مجمع عليه إلا طائفة لا يعبأ بهم، قلت: النسخ جائز في جميع أحكام الشرع عقلا، وواقع عند المسلمين أجمع شرعا خلافا لليهود لعنهم الله، فعند بعضهم باطل نقلا وهو ما جاء في التوراة تمسكوا بالسبت ما دامت السماوات والأرض فادعوا نقله تواترا ويدعون النقل من موسى عليه السلام أنه قال: لا نسخ لشريعته، وعند بعضهم باطل عقلا، والدليل على جوازه ووقوعه المعقول والمنقول، أما النقل فلا شك أن نكاح الأخوات كان مشروعا في شريعة آدم عليه السلام وبه حصل التناسل، وهذا لا ينكره أحد، وقد ورد في التوراة أنه أمر آدم عليه السلام بتزويج بناته من بنيه ثم نسخ، وكذا استرقاق الحر كان مباحا في عهد يوسف عليه السلام حتى نقل عنه أنه استرق جميع أهل مصر عام القحط بأن اشترى [ ص: 247 ] أنفسهم بالطعام ثم نسخ، وكذلك العمل في السبت كان مباحا قبل شريعة موسى عليه السلام ثم نسخ بعدها بشريعته، ودعواهم النص في التوراة على ما زعموا باطلة لأنه ثبت قطعا عندنا بإخبار الله تعالى أنهم حرفوا التوراة فلم يبق نقلهم حجة، ولهذا قلنا لم يجز الإيمان بالتوراة التي في أيديهم حتى بالغ بعض الشافعية وجوزوا الاستنجاء بذلك، بل إنما يجب الإيمان بالتوراة التي أنزلت على موسى مع أن شرط التواتر لم يوجد في نقل التوراة إذ لم يبق من اليهود عدد التواتر في زمن بختنصر; لأن أهل التواريخ اتفقوا على أنه لما استولى بختنصر على بني إسرائيل قتل رجالهم وسبى ذراريهم وأحرق أسفار التوراة حتى لم يبق فيهم من يحفظ التوراة، وزعموا أن الله ألههم عزيرا عليه السلام حتى قرأه من صدره ولم يكن أحد قرأه حفظا لا قبله ولا بعده، ولهذا قالوا بأنه ابن الله وعبدوه ثم دفع عزير عند موته إلى تلميذ له ليقرأه على بني إسرائيل فأخذوا عن ذلك الواحد، وبه لا يثبت التواتر، وزعم بعضهم أنه زاد فيها شيئا وحذف شيئا، فكيف يوثق بما هذا سبيله؟ فثبت أن ما ادعوا من تأييد شريعة موسى عليه السلام افتراء عليه، ويقال: إن ما نقلوا عن موسى عليه السلام من قوله " تمسكوا بالسبت " إلخ، مختلق مفترى، ويقال: إن هذا مما اختلقه ابن الراوندي عليه مما يستحق.

                                                                                                                                                                                  الثاني فيه الدليل على نسخ السنة بالقرآن وهو جائز عند الجمهور من الأشاعرة والمعتزلة، وللشافعي فيه قولان قال في إحدى قوليه: لا يجوز كما لا يجوز عنده نسخ القرآن بالسنة قولا واحدا، وقال عياض: أجازه الأكثر عقلا وسمعا، ومنعه بعضهم عقلا، وأجازه بعضهم عقلا ومنعه سمعا، قال الإمام فخر الدين الرازي: قطع الشافعي وأكثر أصحابنا وأهل الظاهر وأحمد في إحدى روايتيه بامتناع نسخ الكتاب بالسنة المتواترة، وأجازه الجمهور ومالك وأبو حنيفة رضي الله عنهم، واستدل المجوزون على المسألة الأولى بأن التوجه نحو بيت المقدس لم يكن ثابتا بالكتاب، وقد نسخ بقوله تعالى: وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره وأجيب من جهة الشافعي بإنما هي نسخ قرآن بقرآن، وأن الأمر كان أولا بتخبير المصلي أن يولي وجهه حيث شاء بقوله تعالى: فأينما تولوا فثم وجه الله ثم نسخ باستقبال القبلة، وأجاب بعضهم بأن قوله تعالى: أقيموا الصلاة مجمل فسر بأمور منها التوجه إلى بيت المقدس فيكون كالمأمور به لفظا في الكتاب، فيكون التوجه إلى بيت المقدس بالقرآن بهذه الطريقة وباحتمال أن المنسوخ كان قرآنا نسخ لفظه، وقال بعضهم: النسخ كان بالسنة ونزل القرآن على وفقها، ورد الأول والثاني بأنا لو جوزنا ذلك لأفضى إلى أن لا يعلم ناسخ من منسوخ بعينه أصلا فإنهما يطردان في كل ناسخ ومنسوخ والثالث مجرد دعوى فلا تقبل، قالوا: قال الله تعالى: لتبين للناس ما نـزل إليهم وصفه بكونه مبينا، فلو جاز نسخ السنة بالقرآن لم يكن النبي مبينا واللازم باطل فالملزوم مثله، أما الملازمة فلأنه إذا أثبت حكما ثم نسخه الله تعالى بقوله لم يتحقق التبيين منه لأن المنسوخ مرفوع لا مبين; لأن النسخ رفع لا بيان، وأما بطلان اللازم فلقوله: لتبين للناس ما نـزل إليهم ; حيث وصفه بكونه مبينا، قلنا: لا نسلم الملازمة لأن المراد بالتبيين البيان ولا نسلم أن النسخ ليس ببيان، فإنه بيان لانتهاء أمر الحكم الأول ولئن سلمنا أن النسخ ليس ببيان، وأن المراد منه بيان العام والمجمل والمنسوخ وغيرها لكن نسلم أن الآية تدل على امتناع كون القرآن ناسخا للسنة، وقالوا: لو جاز ذلك لزم تنفير الناس عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وعن طاعته لأنه يوهم أن الله تعالى لم يرض بما سنه الرسول عليه السلام، واللازم باطل لأنه مناقض للبعثة فالملزوم كذلك، قلنا: الملازمة ممنوعة لأنه إذا علم أنه مبلغ فلا تنفير ولا تنفر لأن الكل من عند الله تعالى.

                                                                                                                                                                                  الثالث: فيه جواز النسخ بخبر الواحد، قال القاضي: وإليه مال القاضي أبو بكر وغيره من المحققين ووجهه أن العمل بخبر الواحد مقطوع به كما أن العمل بالقرآن والسنة المتواترة مقطوع به، وأن الدليل الموجب لثبوته أولا غير الدليل الموجب لنفيه وثبوت غيره، قلت: اختاره الإمام الغزالي والباجي من المالكية وهو قول أهل الظاهر.

                                                                                                                                                                                  الرابع: قال المازري وغيره: اختلفوا في النسخ إذا ورد متى يتحقق حكمه على المكلف؟ ويحتج بهذا الحديث لأحد القولين وهو أنه لا يثبت حكمه حتى يبلغ المكلف لأنه ذكر أنهم تحولوا إلى القبلة وهم في الصلاة ولم يعيدوا ما مضى، فهذا يدل على أن الحكم إنما يثبت بعد البلاغ، وقال غيره: فائدة الخلاف في هذه المسألة في أن ما فعل من العبادات بعد النسخ وقبل البلاغ هل يعاد أم لا؟ ولا خلاف أنه لا يلزم حكمه قبل تبليغ جبريل عليه السلام، وقال الطحاوي: وفيه دليل على أن من لم يعلم بفرض الله ولم تبلغه الدعوة ولا أمكنه استعلام ذلك من غيره، فالفرض غير [ ص: 248 ] لازم والحجة غير قائمة عليه.

                                                                                                                                                                                  وقال القاضي: قد اختلف العلماء فيمن أسلم في دار الحرب أو أطراف بلاد الإسلام حيث لا يجد من يستعلم الشرائع ولا علم أن الله تعالى فرض شيئا من الشرائع ثم علم بعد ذلك هل يلزمه قضاء ما مر عليه من صيام وصلاة لم يعملها، فذهب مالك والشافعي في آخرين إلى إلزامه وأنه قادر على الاستعلام والبحث والخروج إلى ذلك، وذهب أبو حنيفة أن ذلك يلزمه إن أمكنه أن يستعلم فلم يستعلم وفرط، وإن كان لا يحضره من يستعلمه فلا شيء عليه قال: وكيف يكون ذلك فرض على من لم يفرضه.

                                                                                                                                                                                  الخامس: قال الإمام المازري: بنوا على مسألة الفسخ مسألة الوكيل إذا تصرف بعد العزل ولم يعلم، فعلى القول بأن حكم النسخ لازم حين الورود لا تمضي أفعاله وعلى الثاني هي ماضية، قال القاضي: ولم يختلف المذهب عندنا فيمن أعتق ولم يعلم بعتقه أن حكمه حكم الأحرار فيما بينه وبين الناس، وأما فيما بينه وبين الله تعالى فجائز ولم يختلفوا في المعتقة أنها لا تعيد ما صلت بغير ستر، وإنما اختلفوا فيمن هو فيها بناء على هذه المسألة وفعل الأنصاري في الصلاة كالأمة تعلم بالعتق في أثناء صلاتها. قلت: ومذهب الشافعي فيمن أعتقت ولم تعلم حتى فرغت من الصلاة وكانت قادرة على الستر، هل تجب الإعادة عليها؟ فيه قولان للشافعي كمن صلى بالنجاسة ناسيا عنده وإن أعتقت في أثنائها وعلمت بالعتق، فإن عجزت مضت في صلاتها وإن كانت قادرة على الستر وسترت قريبا صح، وإن مضت مدة في التكشف قطعت واستأنفت على الأصح من المذهب.

                                                                                                                                                                                  السادس: فيه دليل على قبول خبر الواحد مع غيره من الأحاديث، وعادة الصحابة رضي الله عنهم قبول ذلك وهو مجمع عليه من السلف معلوم بالتواتر من عادة النبي صلى الله عليه وسلم في توجيهه ولاته ورسله آحادا إلى الآفاق ليعلموا الناس دينهم ويبلغوهم سنة رسولهم.

                                                                                                                                                                                  السابع: فيه دليل على جواز الاجتهاد في القبلة ومراعاة السمت ليلهم إلى جهة الكعبة لأول وهلة في الصلاة قبل قطعهم على موضع عينها.

                                                                                                                                                                                  الثامن: فيه جواز الصلاة الواحدة إلى جهتين وهو الصحيح عند أصحاب الشافعي، فمن صلى إلى جهة باجتهاد ثم تغير اجتهاده في أثنائها فيستدير إلى الجهة الأخرى حتى لو تغير اجتهاده أربع مرات في صلاة واحدة فتصح صلاتهم على الأصح في مذهب الشافعي.

                                                                                                                                                                                  التاسع: فيه جواز الاجتهاد بحضرة النبي عليه السلام، وفيه خلاف لأنه كان يمكنهم أن يقطعوا الصلاة وأن يبنوا، فرجحوا البناء وهو محل الاجتهاد.

                                                                                                                                                                                  العاشر: فيه وجوب الصلاة إلى القبلة والإجماع على أنها الكعبة شرفها الله تعالى.

                                                                                                                                                                                  الحادي عشر: يحتج به على أن من صلى بالاجتهاد إلى غير القبلة ثم تبين له الخطأ لا يلزم الإعادة لأنه فعل ما عليه في ظنه مع مخالفة الحكم ونفس الأمر، كما أن أهل قباء فعلوا ما وجب عليهم عند ظنهم بقباء الأمر فلم يؤمروا بالإعادة.

                                                                                                                                                                                  الثاني عشر: فيه استحباب إكرام القادم أقاربه بالنزول عليهم دون غيرهم.

                                                                                                                                                                                  الثالث عشر: إن محبة الإنسان الانتقال من طاعة إلى أكمل منها ليس قادحا في الرضا بل هو محبوب.

                                                                                                                                                                                  الرابع عشر: فيه تمني تغيير نفس الأحكام إذا ظهرت المصلحة.

                                                                                                                                                                                  الخامس عشر: فيه الدلالة على شرف النبي عليه الصلاة والسلام وكرامته على ربه حيث يعطي له ما يحبه من غير سؤال.

                                                                                                                                                                                  السادس عشر: فيه بيان ما كان من الصحابة في الحرص على دينهم والشفقة على إخوانهم.




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية