الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  68 10 - حدثنا محمد بن يوسف قال : أخبرنا سفيان ، عن الأعمش ، عن أبي وائل ، عن ابن مسعود قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخولنا بالموعظة في الأيام كراهة السآمة علينا .

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقة الحديث لإحدى الترجمتين - وهي قوله " بالموعظة " - ظاهرة ، والباب مترجم بترجمتين ; إحداهما قوله " بالموعظة " ، والأخرى قوله " كي لا ينفروا " ، فأورد فيه حديثين كل منهما يطابق واحدة منهما .

                                                                                                                                                                                  بيان رجاله : وهم خمسة ; الأول : محمد بن يوسف ، قال الشيخ قطب الدين في شرحه : هو محمد بن يوسف بن واقد الفريابي أبو عبد الله ، الضبي مولاهم ، سكن قيسارية من ساحل الشام ، أدرك الأعمش وروى عنه وعن السفيانين وغيرهم ، وروى عنه أحمد بن حنبل ومحمد الذهلي ومحمد بن مسلم ابن وارة وغيرهم ، وروى عنه البخاري في مواضع كثيرة ، وروى في كتاب الصداق عن إسحاق - غير منسوب - عنه ، وروى بقية الجماعة عن رجل عنه ، قال أحمد : كان رجلا صالحا . وقال النسائي وأبو حاتم : ثقة . وقال البخاري : كان من أفضل أهل زمانه . مات في ربيع الأول سنة اثنتي عشرة ومائتين ، وقال الكرماني : هو محمد بن يوسف أبو أحمد البيكندي - وهذا وهم ; لأن البخاري حيث يطلق محمد بن يوسف لا يريد به إلا الفريابي وإن كان يروي أيضا عن البيكندي ; فافهم !

                                                                                                                                                                                  الثاني : سفيان الثوري .

                                                                                                                                                                                  فإن قلت : محمد بن يوسف الفريابي يروي عن سفيان بن عيينة أيضا كما ذكرنا ، فما المرجح ها هنا لسفيان الثوري ؟ قلت : الفريابي وإن كان يروي عن السفيانين ولكنه حيث يطلق لا يريد به إلا الثوري .

                                                                                                                                                                                  الثالث : سليمان بن مهران الأعمش .

                                                                                                                                                                                  الرابع : أبو وائل ، شقيق بن سلمة الكوفي .

                                                                                                                                                                                  الخامس : عبد الله بن مسعود رضي الله عنه .

                                                                                                                                                                                  بيان الأنساب : الفريابي بكسر الفاء وسكون الراء بعدها الياء آخر الحروف وبعد الألف باء موحدة ، نسبة إلى فرياب اسم مدينة من نواحي بلخ ، قال الصغاني : فرياب مثل جربال ، ويقال فيرياب مثل كيمياء ، ويقال فارياب مثل قاصعاء ، وأما فاراب فهي ناحية وراء نهر سيحون في تخوم بلاد الترك ، وفراب مثل سحاب قرية في سفح جبل على ثمانية فراسخ من سمرقند ، وفراب مثل كفار قرية من قرى أصبهان .

                                                                                                                                                                                  الضبي بفتح الضاد المعجمة وتشديد الباء الموحدة ، نسبة إلى ضبة بن أد بن طابخة بن إلياس بن مضر ، وفي قريش أيضا ضبة بن الحارث بن فهر - ذكره ابن حبيب ، وفي هذيل أيضا ضبة بن عمرو بن الحارث بن تميم بن سعد بن هذيل .

                                                                                                                                                                                  البيكندي بكسر الباء الموحدة وسكون الياء آخر الحروف الساكنة وفتح الكاف وسكون النون بعدها الدال المهملة ، نسبة إلى بيكند قرية من قرى بخارى .

                                                                                                                                                                                  بيان لطائف إسناده : منها أن فيه التحديث والعنعنة ، ومنها أن رواته كوفيون ما خلا الفريابي ، ومنها أن فيه رواية تابعي عن تابعي .

                                                                                                                                                                                  فإن قلت : الأعمش مدلس ، وقد عنعن هنا ، وقد روى مسلم من طريق علي بن مسهر عن الأعمش عن شقيق عن عبد الله فذكر الحديث ، قال علي بن مسهر : قال الأعمش : وحدثني عمرو بن مرة ، عن شقيق ، عن عبد الله - مثله ، فقد يوهم هذا أن الأعمش دلسه أولا عن شقيق ثم سمى الواسطة بينهما ! قلت : صرح أحمد في رواية هذا الحديث بسماع الأعمش عن شقيق فقال : سمعت شقيقا وهو أبو وائل - وكذا صرح الأعمش بالتحديث عند البخاري في الدعوات من رواية حفص بن غياث عنه قال : حدثني شقيق - وزاد في أوله أنهم كانوا ينتظرون عبد الله بن مسعود ليخرج إليهم فيذكرهم ، وأنه لما خرج قال : أما إني أخبر بمكانكم ، ولكنه يمنعني من الخروج إليكم - فذكر الحديث .

                                                                                                                                                                                  [ ص: 45 ] بيان تعدد موضعه ومن أخرجه غيره : أخرجه البخاري أيضا في الباب الذي يليه عن عثمان بن أبي شيبة عن جرير عن منصور عن أبي وائل عن ابن مسعود به ، وأخرجه أيضا في الدعوات عن عمر بن حفص عن أبيه عن الأعمش . وأخرجه مسلم في التوبة عن أبي بكر بن أبي شيبة عن وكيع ، وأبو معاوية ومحمد بن نمير عن أبي معاوية ، وعن الأشج عن ابن إدريس ، وعن منجاب عن علي بن مسهر ، وعن إسحاق بن إبراهيم وابن خشرم عن عيسى بن يونس عن ابن أبي عمر عن سفيان - كلهم عن الأعمش ، زاد الأعمش في رواية ابن مسهر : وحدثني عمرو بن مرة ، عن شقيق ، عن عبد الله - مثله .

                                                                                                                                                                                  وأخرجه الترمذي في الاستئذان عن محمد بن غيلان عن أبي أحمد الزبيري عن سفيان الثوري به ، وعن محمد بن بشار عن يحيى بن سعيد عن سليمان الأعمش به ، وفي نسخة عن محمد بن بشار عن يحيى عن سفيان عن الأعمش به ، وقال : حسن صحيح .

                                                                                                                                                                                  بيان اللغات : قوله " يتخولنا " بالخاء المعجمة وباللام ، من التخول وهو التعهد ، من خال المال وخال على الشيء خولا إذا تعهد ، ويقال خال المال يخوله خولا إذا ساسه وأحسن القيام عليه ، والخائل المتعاهد للشيء المصلح له ، وخول الله الشيء أي ملكه إياه ، وخول الرجل حشمه الواحد خائل . وقال أبو عمرو الشيباني : الصواب يتحولهم بالحاء المهملة ; أي يطلب أحوالهم التي ينشطون فيها للموعظة فيعظهم ولا يكثر عليهم فيملوا . وكان الأصمعي يرويه " يتخوننا " بالنون والخاء المعجمة ; أي يتعهدنا - حكاه عنهما صاحب نهاية الغريب ، وفي مجمع الغرائب قال الأصمعي : أظنه يتخونهم بالنون ، وهو بمعنى التعهد . وقيل : إن أبا عمرو بن العلاء سمع الأعمش يحدث هذا الحديث فقال " يتخولنا " باللام ، فرده عليه بالنون فلم يرجع لأجل الرواية ، وكلا اللفظين جائز ، والصواب بالخاء المعجمة وباللام . وقال ابن الأعرابي : معناه يتخذنا خولا ، ويقال يناجينا بها ، وقيل يصلحنا . وقال أبو عبيدة : يذللنا بها ، يقال خول الله لك أي ذلله لك وسخره ، وقيل يحبسهم عليها كما يحبس الخول .

                                                                                                                                                                                  قوله " كراهية السآمة " ، من كرهت الشيء أكرهه كراهة وكراهية ، والسآمة مثل الملالة بناء ومعنى . وقال أبو زيد : سئمت من الشيء أسأم سأما وسآمة وسآما - إذا مللته ، ورجل سؤوم .

                                                                                                                                                                                  بيان الإعراب : قوله " النبي " مرفوع لأنه اسم " كان " ، وقوله " يتخولنا " جملة من الفعل والفاعل والمفعول في محل النصب على أنها خبر " كان " .

                                                                                                                                                                                  فإن قلت : كان لثبوت خبرها ماضيا ، ويتخولنا إما حال وإما استقبال ، فما وجه الجمع بينهما ؟ قلت : كان يراد به الاستمرار ، وكذا الفعل المضارع ، فاجتماعهما يفيد شمول الأزمنة . وقال الأصوليون : قولهم كان حاتم يكرم الضيف يفيد تكرار الفعل في الأزمان ، والباء في " بالموعظة " تتعلق بيتخولنا .

                                                                                                                                                                                  قوله " في الأيام " صفة لموعظة ; أي بالموعظة الكائنة في الأيام .

                                                                                                                                                                                  قوله " كراهية السآمة " كلام إضافي منصوب على أنه مفعول له ; أي لأجل كراهية السآمة ، وصلة السآمة محذوفة لأنه يقال سأمت من الشيء ، والتقدير : كراهية السآمة من الموعظة . وقوله " علينا " إما يتعلق بالسآمة على تضمين السآمة معنى المشقة ; أي كراهة المشقة علينا ، إذ المقصود بيان رفق النبي عليه السلام بالأمة وشفقته عليهم ليأخذوا منه بنشاط وحرص لا عن ضجر وملل ، وإما يجعل صفة ، والتقدير : كراهية السآمة الطارئة علينا . وإما يجعل حالا ، والتقدير : كراهية السآمة حال كونها طارئة علينا . وإما يتعلق بالمحذوف ، والتقدير : كراهية السآمة شفقة علينا . فافهم !

                                                                                                                                                                                  بيان المعاني : المعنى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعظ الصحابة في أوقات معلومة ، ولم يكن يستغرق الأوقات خوفا عليهم من الملل والضجر ، كما كان نهاهم بقوله " لا يصلي أحد ضاما وركيه " ، وكما قال " ابدأوا بالعشاء لئلا تشغلوا عن الإقبال على الله تعالى بغيره " وعن الصلاة وعن النية ، وقد وصفه الله تعالى بالرفق بأمته فقال : عزيز عليه ما عنتم الآية .

                                                                                                                                                                                  فإن قلت : أيجوز أن يكون المراد من السآمة سآمة رسول الله عليه الصلاة والسلام من القول ؟ قلت : لا يجوز ، ويدل عليه السياق وقرينة الحال .




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية