الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  853 18 - حدثنا بشر بن محمد المروزي ، قال : أخبرنا عبد الله ، قال : أخبرنا يونس ، عن الزهري ، قال : أخبرنا سالم بن عبد الله ، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " كلكم راع . وزاد الليث : قال يونس : كتب رزيق بن حكيم إلى ابن شهاب وأنا معه يومئذ بوادي القرى : هل ترى أن أجمع ورزيق عامل على أرض يعملها وفيها جماعة من السودان وغيرهم ، ورزيق يومئذ على أيلة ، فكتب ابن شهاب وأنا أسمع يأمره أن يجمع ، يخبره أن سالما حدثه أن عبد الله بن عمر يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته ، الإمام راع ومسئول عن رعيته ، والرجل راع في أهله وهو مسئول عن رعيته ، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها ، والخادم راع في مال سيده ومسئول عن رعيته ، قال : وحسبت أن قد قال : والرجل راع في مال أبيه ومسئول عن رعيته ، وكلكم راع ومسئول عن رعيته .

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقته للترجمة من حيث إن زريق بن حكيم لما كان عاملا على طائفة كان عليه أن يراعي حقوقهم ، ومن جملتها إقامة الجمعة ، فيجب عليه إقامتها وإن كانت في قرية ، هكذا قرره الكرماني ، قلت : إنما تتجه المطابقة للجزء الثاني للترجمة لأن القرية إذا كان فيها نائب من جهة الإمام يقيم الحدود ، يكون حكمها حكم الأمصار والمدن ، كما ذكرناه عن قريب عن محمد بن الحسن ، وإن كان مراد الكرماني أن هذا الحديث يدل على جواز إقامة الجمعة في القرى ، فلا يتم به استدلاله ، والظاهر أن مراد البخاري هذا ، وليس كذلك ، لأنه ليس في هذا الحديث ولا في الحديث الذي قبله مطابقة إلا للجزء الثاني من الترجمة على الوجه الذي قررناه ، وإنما مطابقتها للجزء الأول وليس فيه خلاف ، وكان مقصود البخاري أن يشير إلى الخلاف فلم يتم ، فافهم .

                                                                                                                                                                                  ذكر رجاله ، وهم سبعة ; الأول : بشر ، بكسر الباء الموحدة وسكون الشين المعجمة ، ابن محمد أبو محمد السجستاني المروزي ، مات سنة أربع وعشرين ومائتين . الثاني : عبد الله بن المبارك . الثالث : ابن يونس بن يزيد الأيلي . الرابع : محمد بن مسلم بن شهاب الزهري . الخامس : سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب . السادس : أبوه عبد الله بن عمر . السابع : رزيق ، بضم الراء وفتح الزاي ، ابن حكيم ، بضم الحاء وفتح الكاف الفزاري ، مولى بني فزارة ، الأيلي ، والي أيلة لعمر بن عبد العزيز ، وقيل : زريق بتقديم الزاي على الراء ، والمشهور الأول . وقال ابن الحذاء : وكان حاكما بالمدينة . وقال ابن ماكولا : كان عبدا صالحا . وقال النسائي : ثقة . وقال علي بن المديني : حدثنا سفيان مرة رزيق بن حكيم أو حكيم ، وكثيرا ما كان يقول ابن حكيم بالفتح والصواب الضم .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر لطائف إسناده )

                                                                                                                                                                                  فيه التحديث بصيغة الجمع في موضع واحد . وفيه الإخبار كذلك في موضعين بصيغة الإفراد في موضع . وفيه العنعنة في موضعين . وفيه القول في خمسة مواضع . وفيه السماع . وفيه الكتابة . وفيه أن شيخ البخاري من أفراده .

                                                                                                                                                                                  [ ص: 190 ] وفيه أن الاثنين الأولين من الرواة مروزيان والثالث أيلي وكان مرجئا ، وكذا السابع والرابع والخامس مدنيان . وفيه قوله " وزاد الليث " إشارة إلى أن رواية الليث متفقة مع ابن المبارك إلا في القصة فإنها مختصة برواية الليث ، ورواية الليث معلقة ، وقد وصلها الذهلي عن أبي صالح كاتب الليث عنه .

                                                                                                                                                                                  ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره

                                                                                                                                                                                  أخرجه البخاري أيضا في الوصايا عن بشر بن محمد أيضا ، وأخرجه مسلم في المغازي عن حرملة عن ابن وهب ، وأخرج مسلم والترمذي أيضا حديث " كلكم راع " بغير هذه القصة ، عن نافع عن ابن عمر ، ورواه البخاري أيضا في النكاح ، وقد رواه عن ابن عمر غير نافع أيضا ورواه أيضا شعبة عن الزهري .

                                                                                                                                                                                  ذكر معناه ، قوله : “ كلكم راع " أصل راع راعي ، فأعل إعلال قاض من رعى رعاية ، وهو حفظ الشيء وحسن التعهد له ، والراعي هو الحافظ المؤتمن الملتزم صلاح ما قام عليه ، وما هو تحت نظره ، فكل من كان تحت نظره شيء فهو مطلوب بالعدل فيه والقيام بمصالحه في دينه ودنياه ومتعلقاته ، فإن وفى ما عليه من الرعاية حصل له الحظ الأوفر والجزاء الأكبر ، وإن كان غير ذلك طالبه كل أحد من رعيته بحقه . قوله : " وزاد الليث " إلى قوله : " يخبره " تعليق ، أي : زاد الليث بن سعد في روايته على رواية عبد الله بن المبارك ، وقد وصله الذهلي كما ذكرنا . قوله : " وأنا معه " جملة اسمية وقعت حالا ، قوله : “ بوادي القرى " هو من أعمال المدينة ، وقال ابن السمعاني : وادي القرى مدينة بالحجاز مما يلي الشام ، وفتحها النبي صلى الله عليه وسلم في جمادى الآخرة سنة سبع من الهجرة لما انصرف من خيبر بعد أن امتنع أهلها وقاتلوا ، وذكر بعضهم أنه صلى الله عليه وسلم قاتل فيها ولما فتحها عنوة قسم أموالها وترك الأرض والنخل في أيدي اليهود وعاملهم على نحو ما عامل عليه أهل خيبر ، وأقام عليها أربع ليالي . قوله : " أن أجمع " أي : أصلي بمن معي الجمعة . قوله : " على أرض يعملها " أي : يزرع فيها ، قوله : “ من السودان " ... ...

                                                                                                                                                                                  قوله : “ على أيلة " بفتح الهمزة وسكون الياء آخر الحروف ، وفتح اللام ، قال أبو عبيد : هي مدينة على شاطئ البحر في منتصف ما بين مصر ومكة وتبوك ، ورد صاحب أيلة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعطاه الجزية وقال البكري : سميت بأيلة بنت مدين بن إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، وقد روي أن أيلة هي القرية التي كانت حاضرة البحر . وقال اليعقوبي : أيلة مدينة جليلة على ساحل البحر الملح ، وبها يجتمع حاج الشام ومصر والمغرب ، وبها التجارة الكثيرة ، ومن القلزم إلى أيلة ست مراحل في برية صحراء يتزود الناس من القلزم إلى أيلة لهذه المراحل ، قلت : هي الآن خراب ينزل بها الحاج المصري والمغربي والغزي ، وبعض آثار المدينة ظاهر . قوله : " فكتب ابن شهاب وأنا أسمع قول يونس المذكور فيه " أي : كتب محمد بن مسلم بن الشهاب الزهري والحال أنا أسمع ، والمكتوب هو الحديث والمسموع المأمور به ، قاله الكرماني ، والظاهر أن الذي كتب هو ابن شهاب ، لأن الأصل في الإسناد الحقيقة ، ويجوز أن يكون كاتبه كتبه بإملائه عليه فسمعه يونس منه ، ففي الوجه الأول فيه تقدير وهو : كتب ابن شهاب وقرأه وأنا أسمعه . قوله : " يأمره " جملة حالية ، أي : يأمر ابن شهاب رزيق بن حكيم في كتابه إليه أن يجمع ، أي : بأن يجمع ، أي : بأن يصلي بالناس الجمعة ، ثم استدل ابن شهاب على أمره إياه بالتجميع بحديث سالم عن أبيه عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال : " كلكم راع " إلى آخره ، وجه الاستدلال به أن رزيقا كان أميرا على الطائفة المذكورة ، فكل من كان أميرا كان عليه أن يراعي حقوق رعيته ومن جملة حقوقهم إقامة الجمعة .

                                                                                                                                                                                  قوله : “ يخبره " أي : يخبر ابن شهاب رزيقا في كتابه الذي كتب إليه أن سالما حدثه إلى آخره . ( فإن قلت ) : ما محل يخبره من الإعراب ؟ ( قلت ) : هي جملة وقعت حالا من الضمير المرفوع الذي في " يأمره " من الأحوال المتداخلة ، كما أن قوله : " أسمع " . وقوله : " يأمره " من الأحوال المترادفة . قوله : " يقول سمعت " محل " يقول " من الإعراب الرفع ، لأنه خبر إن ومحل " يقول " الثاني الحال ، أي : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم حال كونه يقول : " كلكم راع " وهذه جملة اسمية ، وإفراد الخبر بالنظر إلى لفظة " كل " ، وقد اشترك الإمام والرجل والمرأة والخادم في هذه التسمية ، ولكن المعاني مختلفة ، فرعاية الإمام إقامة الحدود والأحكام فيهم على سنن الشرع ، ورعاية الرجل أهله سياسته لأمرهم وتوفية حقهم في النفقة والكسوة والعشرة ، ورعاية [ ص: 191 ] المرأة حسن التدبير في بيت زوجها والنصح له والأمانة في ماله وفي نفسها ، ورعاية الخادم لسيده حفظ ما في يده من ماله والقيام بما يستحق من خدمته ، والرجل الذي ليس بإمام ولا له أهل ولا خادم يراعي أصحابه وأصدقاءه بحسن المعاشرة على منهج الصواب . فإن قيل : إذا كان كل من هؤلاء راعيا فمن المرعي ؟ أجيب : هو أعضاء نفسه وجوارحه وقواه وحواسه ، أو الراعي يكون مرعيا باعتبار أمر آخر ; ككون الشخص مرعيا للإمام راعيا لأهله ، أو الخطاب خاص بأصحاب التصرفات ومن تحت نظره ما عليه إصلاح حاله .

                                                                                                                                                                                  قوله : “ قال وحسبت " فاعل " قال " يونس ابن يزيد المذكور فيه ، كذا قاله الكرماني جزما ، والظاهر أن فاعله سالم بن عبد الله الراوي ، وكلمة " أن " مخففة من المثقلة ، والتقدير : وحسبت أنه ، أي : أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قد قال : " والرجل راع في مال أبيه " إلى آخره ، ثم في هذا الموضع من النكتة أنه عمم أولا ثم خصص ثانيا ، وقسم الخصوصية إلى أقسام من جهة الرجل ومن جهة المرأة ومن جهة الخادم ومن جهة النسب ، ثم عمم ثانيا وهو قوله : " وكلكم راع " إلى آخره ، تأكيدا وردا للعجز إلى الصدر ، بيانا لعموم الحكم أولا وآخرا .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر ما يستفاد منه )

                                                                                                                                                                                  وهو على وجوه ; الأول : قال صاحب التوضيح : إيراد البخاري هذا الحديث لأجل أن أيلة إما مدينة أو قرية ، وقد ترجم لهما . قلت : المشهور عند الجمهور أنها مدينة كما ذكرناه ، ولا وجه للتردد فيها ، وقد ذكر البخاري الباب بترجمتين بقوله : في القرى والمدن ، وذكر فيه حديثين ; الأول منهما مطابق للترجمة الأولى على زعمه ، والثاني مطابق للترجمة الثانية ، وكلام صاحب التوضيح لا طائل تحته .

                                                                                                                                                                                  الثاني : قال بعضهم : في هذه القصة - يعني القصة المذكورة في الحديث - إيماء إلى أن الجمعة تنعقد بغير إذن من السلطان إذا كان في القوم من يقوم بمصالحهم . قلت : الذي يقوم بمصالح القوم هو المولى عليهم من جهة السلطان ، ومن كان مولى من جهة السلطان كان مأذونا بإقامة الجمعة ، لأنها من أكبر مصالحهم ، والعجب من هذا القائل أنه يستدل على عدم إذن السلطان لإقامة الجمعة بالإيماء ويترك ما دل على ذلك حديث جابر أخرجه ابن ماجه ، وفيه : " من تركها في حياتي أو بعدي وله إمام عادل أو جائر ، استخفافا بها وجحودا لها ; فلا جمع الله شمله ، ولا بارك له في أمره ، ألا ولا صلاة له ، ولا زكاة له ، ولا حج له ، ولا صوم له ، ولا بر له " الحديث ورواه البزار أيضا ورواه الطبراني في الأوسط عن ابن عمر مثله . ( فإن قلت ) : في سند ابن ماجه عبد الله بن محمد العدوي ، وفي سند البزار علي بن زيد بن جدعان ، وكلاهما متكلم فيه . ( قلت ) : إذا روي الحديث من طرق ووجوه مختلفة تحصل له قوة ، فلا يمنع من الاحتجاج به ، ولا سيما اعتضد بحديث ابن عمر ، والقائل المذكور أشار بقوله إلى قول الشافعي ، فإن عنده إذن السلطان ليس بشرط لصحة الجمعة ، ولكن السنة أن لا تقام إلا بإذن السلطان ، وبه قال مالك وأحمد في رواية ، وعن أحمد أنه شرط كمذهبنا ، واحتجوا بما روي أن عثمان رضي الله تعالى عنه لما كان محصورا بالمدينة صلى علي رضي الله عنه الجمعة بالناس ، ولم يرو أنه صلى بأمر عثمان ، وكان الأمر بيده ، قلنا : هذا الاحتجاج ساقط لأنه يحتمل أن عليا فعل ذلك بأمره أو كان لم يتوصل إلى إذن عثمان ، ونحن أيضا نقول : إذا لم يتوصل إلى إذن الإمام فللناس أن يجتمعوا ويقدموا من يصلي بهم ، فمن أين علم أن عليا فعل ذلك بلا إذن عثمان وهو بحيث يتوصل إلى إذنه . وقال ابن المنذر : مضت السنة بأن الذي يقيم الجمعة السلطان ، أو من قام بها بأمره ، فإذا لم يكن ذلك صلوا الظهر ، وقال الحسن البصري : أربع إلى السلطان .. فذكر منها الجمعة ، وقال حبيب بن أبي ثابت : لا تكون الجمعة إلا بأمير وخطبة . وهو قول الأوزاعي ومحمد بن مسلمة ويحيى بن عمر المالكي ، وعن مالك : إذا تقدم رجل بغير إذن الإمام لم يجزهم . وذكر صاحب البيان قولا قديما للشافعي : أنها لا تصح إلا خلف السلطان أو من أذن له ، وعن أبي يوسف أن لصاحب الشرطة أن يصلي بهم دون القاضي وقيل : يصلي القاضي .

                                                                                                                                                                                  الثالث : قال بعضهم : في الحديث إقامة الجمعة في القرى ، خلافا لمن شرط لها المدن . قلت : لا دليل على ذلك أصلا لأنه إن كان يدعي بذلك بنفس الحديث المتصل فلا يقوم به حجة ولا يتم وإن كان يدعي بكتاب ابن شهاب يأمر فيه لرزيق بن حكيم بأن يجمع فلا تتم به حجته أيضا لأنه من أين علم أنه أمر بذلك سواء كان في قرية أو مدينة ، فإن قال : رزيق كان عاملا على أرض يعملها وكان فيها جماعة من السودان وغيرهم وليس هذا إلا قرية ، فلا يتم به استدلاله أيضا ، لأن الموضع المذكور صار حكمه حكم المدينة بوجود المتولي عليهم من جهة الإمام ، وقد قلنا فيما مضى إن [ ص: 192 ] الإمام إذا بعث إلى قرية نائبا لإقامة الأحكام تصير مصرا على أن إمامه لا يرى قول الصحابي حجة ، فكيف بقول التابعي .

                                                                                                                                                                                  الرابع : قال الخطابي : فيه دليل على أن الرجلين إذا حكما رجلا بينهما نفذ حكمه إذا أصاب .

                                                                                                                                                                                  الخامس : قال الحافظ المنذري : عن بعضهم أنه استدل به على سقوط القطع عن المرأة إذا سرقت من مال زوجها ، وعن العبد إذا سرق من مال سيده ، إلا فيما حجبهما عنه ولم يكن لهما فيه تصرف ، والله أعلم .




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية