الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  891 [ ص: 237 ] 56 - حدثنا إبراهيم بن المنذر قال : حدثنا الوليد بن مسلم قال : حدثنا أبو عمرو قال : حدثني إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس بن مالك قال : أصابت الناس سنة على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - فبينا النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب في يوم جمعة قام أعرابي ، فقال : يا رسول الله هلك المال ، وجاع العيال ، فادع الله لنا فرفع يديه ، وما نرى في السماء قزعة ، فوالذي نفسي بيده وما وضعهما حتى ثار السحاب أمثال الجبال ، ثم لم ينزل عن منبره حتى رأيت المطر يتحادر على لحيته - صلى الله عليه وسلم - فمطرنا يومنا ذلك ، ومن الغد ، وبعد الغد ، والذي يليه حتى الجمعة الأخرى ، وقام ذلك الأعرابي أو قال غيره ، فقال : يا رسول الله تهدم البناء ، وغرق المال ، فادع الله لنا فرفع يديه ، فقال : اللهم حوالينا ولا علينا ، فما يشير بيده إلى ناحية من السحاب إلا انفرجت ، وصارت المدينة مثل الجوبة ، وسال الوادي قناة شهرا ، ولم يجئ أحد من ناحية إلا حدث بالجود .

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقته للترجمة في قوله : " فرفع يديه " لأنه إنما رفعهما لكونه استسقى فببركته وبركة دعائه أنزل الله المطر حتى سال الوادي قناة شهرا .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر رجاله ) ، وهم خمسة ، والأوزاعي اسمه عبد الرحمن بن عمرو ، ونسبته إلى الأوزاع ، وهي من قبائل شتى .

                                                                                                                                                                                  وقال ابن الأثير : نسبته إلى الأوزاع بطن من ذي الكلاع من اليمن ، وقيل : نسبته إلى الأوزاع قرية بدمشق .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر لطائف إسناده ) : فيه التحديث بصيغة الجمع في ثلاثة مواضع ، وبصيغة الإفراد في موضع ، وفيه العنعنة في موضع ، وفيه القول في ثلاثة مواضع ، وفيه أن شيخه من أفراده ، وفيه أحد الرواة مذكور بكنيته ونسبته ، وفيه أن شيخه مدني ، واثنان بعده دمشقيان ، والذي بعدهما مدني أيضا .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر تعدد موضعه ، ومن أخرجه غيره ) : أخرجه البخاري أيضا في الاستسقاء عن الحسن بن بشر ، وفي الاستئذان عن محمد بن مقاتل ، وأخرجه مسلم في الصلاة عن داود بن رشيد ، وأخرجه النسائي فيه عن محمود بن خالد كلاهما عن الوليد به .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر معناه ) ، قوله : “ سنة " بفتح السين ، أي : شدة وجهد من الجدوبة ، وهو من قوله تعالى : ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين وأصل السنة سنهة بوزن جبهة فحذفت لامها ، ونقلت حركتها إلى النون فبقيت سنة ; لأنها من سنهت النخل ، وتسنهت إذا أتى عليها السنون ، وقيل : إن أصلها سنوة بالواو فحذفت ، كما حذفت الهاء لقولهم : تسنيت عنده ، إذا أقمت عنده سنة ، فلهذا يقال على الوجهين استأجرته مسانهة ومساناة .

                                                                                                                                                                                  وأما السنة التي هي أول النوم فبكسر السين ، وأصله وسن ; لأنه من الوسن بفتحتين . يقال : وسن يوسن كعلم يعلم سنة فحذفت الواو ، وعوضت منها الهاء ، كما في عدة ، قوله : “ على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - " أي : على زمنه ، قوله : “ فبينا " قد مر الكلام فيه في الباب الذي قبله ، قوله : “ قام أعرابي " الأعرابي نسبة إلى الأعراب ; لأنه لا واحد له ، وليس هو جمعا لعرب ، وإنما الأعراب سكان البادية خاصة ، والعرب جيل من الناس ، والنسبة إليه عربي بين العروبة ، وهم أهل الأمصار .

                                                                                                                                                                                  وقال ابن الأثير : الأعراب ساكنو البادية من العرب الذين لا يقيمون في الأمصار ، ولا يدخلونها إلا لحاجة ، والعرب اسم لهذا الجيل المعروف من الناس ، ولا واحد له من لفظه ، وسواء أقام بالبادية أو المدن ، والنسبة إليها أعرابي ، وعربي ، قوله : “ هلك المال " المراد بالمال هنا وما بعده : الحيوان ، كذا فسره في حديث الموطأ ، ومعنى هلك المال يعني الحيوانات هلكت إذ لم تجد ما ترعى ، قوله : “ والعيال " قال الجوهري : عيال الرجل من يعوله ، وواحد العيال عيل ، والجمع عيايل مثل جيد وجياد ، وجيايد ، وأعال الرجل ، أي : كثر عياله فهو معيل ، وامرأة معيلة قال الأخفش ، أي : صار ذا عيال ، وذكر الجوهري هذه المادة في عيل في الياء آخر الحروف ، وذكره ابن الأثير في عول في الواو ، ثم قال : يقال عال الرجل عياله يعولهم ، إذا قام بما يحتاجون إليه من قوت وكسوة وغيرهما .

                                                                                                                                                                                  وقال الكسائي : يقال عال الرجل يعول إذا كثر عياله ، واللغة الجيدة أعال يعيل ، قوله : “ قزعة " بالقاف والزاي والعين المهملة المفتوحات ، وهي القطعة من السحاب ، وفي المحكم : القزع قطع من السحاب [ ص: 238 ] رقاق كأنها ظل إذا مرت من تحت السحاب الكثيرة ، قال أبو عبيدة : وأكثر ما يكون ذلك في الخريف .

                                                                                                                                                                                  وقال يعقوب عن الباهلي : يقال ما على السماء قزعة ، أي : شيء من غيم ، وفي تهذيب الأزهري : كل شيء متفرق فهو قزع ، قوله : “ حتى ثار السحاب " بالثاء المثلثة ، أي : هاج ، يقال ثار الشيء يثور إذا ارتفع وانتشر ، قوله : “ كأمثال الجبال " أي : لكثرتها وإطباقها وجه السماء ، قوله : “ يتحادر " أي : ينزل ويقطر ، وهو يتفاعل من الحدور ، وهو ضد الصعود ، ويقال : حدر في قراءته إذا أسرع ، وكذلك في أذانه ، وهو يتعدى ولا يتعدى ، وأصل باب التفاعل للمشاركة بين قوم ، وهاهنا ليس كذلك ; لأن تفاعل قد تجيء بمعنى فعل مثل توانيت ، أي : ونيت ، وهذا كذلك ، ومعناه يحدر ، قوله : “ فمطرنا يومنا ذلك " بضم الميم ، وكسر الطاء معناه : حصل لنا المطر ، يقال : مطرت السماء تمطر ومطرتهم تمطرهم مطرا ، وأمطرتهم أصابتهم بالمطر ، وأمطرهم الله بالعذاب خاصة ذكره ابن سيده .

                                                                                                                                                                                  وقال الفراء : قطرت السماء ، وأقطرت مثل مطرت السماء وأمطرت ، وفي الجامع : مطرت السماء تمطر مطرا فالمطر بالسكون المصدر ، والمصدر بالحركة الاسم ، وفيه لغة أخرى مطرت تمطر مطرا ، وكذا أمطرت السماء تمطر ، وفي الصحاح مطرت السماء ، وأمطرها الله ، وناس يقولون : مطرت السماء وأمطرت بمعنى ، قوله : “ يومنا " منصوب على الظرفية يعني في يومنا ذلك ، قوله : “ ومن الغد " كلمة من إما بمعنى في ، أي : في الغد ، وإما تبعيضية ، قوله : “ حتى الجمعة الأخرى " مثل أكلت السمكة حتى رأسها في جواز الحركات الثلاث في مدخولها ، أما النصب فعلى أن حتى عاطفة على المنصوب قبله .

                                                                                                                                                                                  وأما الرفع فعلى أن مدخولها مبتدأ ، وخبره محذوف .

                                                                                                                                                                                  وأما الجر فعلى أن حتى جارة .

                                                                                                                                                                                  قوله : “ حوالينا " بفتح اللام ، وفي مسلم " حولنا " ، وكلاهما صحيح ، يقال : قعدوا حوله وحواله وحواليه ، أي : مطيفين به من جوانبه ، وهو ظرف متعلق بمحذوف تقديره : اللهم أنزل أو أمطر حوالينا ، ولا تنزل علينا .

                                                                                                                                                                                  فإن قلت : إذا مطرت حول المدينة فالطريق ممتنعة ، فإذا لم يزل شكواهم .

                                                                                                                                                                                  قلت : أراد بحوالينا الآكام والضراب وشبههما ، كما في الحديث فتبقى الطرق على هذا مسلوكة كما سألوا ، قوله : “ ولا علينا " أي : ولا تمطر علينا ، أراد به الأبنية ، قوله : “ إلا انفرجت " أي : إلا انكشفت .

                                                                                                                                                                                  وقال ابن القاسم : معناه تدورت ، كما يدور جيب القميص .

                                                                                                                                                                                  وقال ابن وهب : معناه انقطعت عن المدينة ، كما ينقطع الثوب .

                                                                                                                                                                                  وقال ابن شعبان : خرجت عن المدينة ، كما يخرج الجيب عن الثوب .

                                                                                                                                                                                  قوله : “ مثل الجوبة بفتح الجيم وسكون الواو " وفتح الباء الموحدة ، قال الداودي : أي : صارت مستديرة كالحوض المستدير ، وأحاطت بها المياه ، ومنه قوله تعالى : وجفان كالجواب

                                                                                                                                                                                  وقال ابن التين : هذا عندي وهم ; لأن اشتقاق الجابية من جبا العين بكسر الجيم مقصور ، وهو ما جمع فيها من الماء ، فيكون اسم الفعلة منه جبوة ، وإنما هو من باب جاب يجوب إذا قطع من قوله تعالى : جابوا الصخر بالواد فالعين منه واو ، فتكون الفعلة منه جوبة ، كما في الحديث .

                                                                                                                                                                                  وقال الجوهري : الجوبة الفرجة من السحاب والجبال .

                                                                                                                                                                                  وقال ابن فارس : الجوبة كالغائط من الأرض .

                                                                                                                                                                                  وقال الخطابي : هي الترس ، وفي حديث آخر " فبقيت المدينة كالترس " .

                                                                                                                                                                                  وقال : والجوبة أيضا الوهدة المنقطعة عما علا عن الأرض ، وجاء في حديث آخر " مثل الإكليل " ، أي : دار بها السحاب ، قوله : “ الوادي قناة " بفتح القاف وتخفيف النون ، وهو علم لبقعة غير منصرف مرفوع ; لأنه بدل عن الوادي ، والوادي مرفوع ; لأنه فاعل سال ، والقناة اسم واد من أودية المدينة ، قال الكرماني : وفي بعض الروايات قناة بالنصب والتنوين فهو بمعنى البئر المحفور ، أي : سال الوادي مثل القناة ، وفي بعض الروايات قناة بالجر بإضافة الوادي إليها .

                                                                                                                                                                                  قوله : “ بالجودة " بفتح الجيم وسكون الواو ، وفي آخره دال مهملة ، وهو المطر الغزير الواسع ، يقال : جادهم المطر يجودهم جودا .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر ما يستفاد منه ) فيه معجزة ظاهرة للنبي - صلى الله عليه وسلم - في إجابة دعائه متصلا به في الدعاء فإنه لم يسأل رفع المطر من أصله ; بل سأل دفع ضرره ، وكشفه عن البيوت والمرافق والطرق بحيث لا يتضرر به ساكن ، ولا ابن سبيل ، وسأل بقاءه في مواضع الحاجة ، بحيث يبقى نفعه وخصبه في بطون الأودية ونحوها ، وفيه استحباب طلب انقطاع المطر عن المنازل إذا كثر وتضرروا به ، وفيه رفع اليدين في الخطبة ، واختلف العلماء في رفع اليدين عند الدعاء فكرهه مالك في رواية ، وأجازه غيره في كل الدعاء ، وبعض العلماء جوزوه في الاستسقاء فقط .

                                                                                                                                                                                  وقال جماعة من العلماء : السنة في دعاء رفع البلاء أن يرفع يديه ، ويجعل ظهرهما إلى السماء ، وفي دعاء سؤال شيء وتحصيله يجعل بطنهما إلى السماء ، وعن مالك بن يسار أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " إذا سألتم الله فاسألوه ببطون أكفكم ، ولا تسألوه بظهورها ، وقال - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه سلمان الفارسي [ ص: 239 ] من عند الترمذي محسنا " إن الله حيي كريم يستحيي أن يرفع الرجل إليه يديه أن يردهما صفرا " قال الترمذي : رواه بعضهم ، فلم يرفعه ، وعن أبي يوسف إن شاء رفع يديه في الدعاء ، وإن شاء أشار بإصبعيه ، وفي المحيط بإصبعه السبابة ، وفي التجريد من يده اليمنى .

                                                                                                                                                                                  وقال ابن بطال : رفع اليدين في الخطبة في معنى الضراعة إلى الجليل ، والتذلل له .

                                                                                                                                                                                  وقال الزهري : رفع الأيدي يوم الجمعة محدث .

                                                                                                                                                                                  وقال ابن سيرين : أول من رفع يديه في الجمعة عبيد الله بن عبد الله بن معمر .

                                                                                                                                                                                  وفيه الاستسقاء بالدعاء بدون صلاة ، وهو مذهب أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه ، وبه احتج على ذلك ، وفيه قيام الواحد بأمر العامة ، وفيه إتمام الخطبة في المطر ، وفيه قال ابن شعبان في قوله : " إلا انفرجت " خرجت عن المدينة ، كما يخرج الجيب عن الثوب .

                                                                                                                                                                                  وقال ابن التين : فيه دليل على أن من أودع وديعة فجعلها في جيب قميصه أنه يضمن . قال : وقيل : لا يضمن . قال : والأول أحوط لهذا الحديث .




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية