الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  79 21 - حدثنا محمد بن العلاء قال : حدثنا حماد بن أسامة ، عن بريد بن عبد الله ، عن أبي بردة ، عن أبي موسى ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا فكان منها نقية قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير ، وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا ، وأصابت منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ ، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم ، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به .

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقة الحديث للترجمة ظاهرة لأن الباب معقود على قوله في الحديث " فعلم وعلم " وفضل من باشر العلم والتعليم ظاهر منه لأنه في معرض المدح على سبيل التمثيل على ما نبينه عن قريب إن شاء الله تعالى .

                                                                                                                                                                                  بيان رجاله : وهم خمسة ، الأول : محمد بن العلاء بالمهملة وبالمد ابن كريب الهمداني بسكون الميم والدال المهملة ، المكنى بأبي كريب بضم الكاف مصغر كرب بالموحدة ، وشهرته بالكنية أكثر ، روى عنه الجماعة وآخرون ، وهو صدوق لا بأس به وهو مكثر ، قال أبو العباس بن سعيد : ظهر له بالكوفة ثلاثمائة ألف حديث ، مات سنة ثمان وأربعين ومائتين .

                                                                                                                                                                                  الثاني : أبو أسامة حماد بن أسامة بن زيد الهاشمي القرشي الكوفي مولى الحسن بن علي أو غيره ، وشهرته بكنيته أكثر ، روى عن بريد وغيره ، وأكثر عن هشام بن عروة له عنه ستمائة حديث ، وعنه الشافعي وأحمد وغيرهما ، وكان ثقة ثبتا صدوقا حافظا حجة إخباريا ، روي عنه أنه قال : كتبت بأصبعي هاتين مائة ألف حديث ، مات سنة إحدى ومائتين وهو ابن ثمانين سنة فيما قيل ، وليس في الصحيحين من هو بهذه الكنية سواه ، وفي النسائي : أبو أسامة الرقي النخعي زيد بن علي بن دينار صدوق ، وليس في الكتب الستة من اشتهر بهذه الكنية سواهما ، روى له الجماعة .

                                                                                                                                                                                  الثالث : بريد بضم الباء الموحدة وفتح الراء وسكون الياء آخر الحروف وبالدال المهملة ابن عبد الله بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري ، المكنى بأبي بردة الكوفي ، وقد تقدم .

                                                                                                                                                                                  الرابع : أبو بردة بضم الباء الموحدة وسكون الراء عامر بن أبي موسى الأشعري وقد تقدم .

                                                                                                                                                                                  الخامس : أبو موسى عبد الله بن قيس الأشعري ، وقد تقدم .

                                                                                                                                                                                  بيان لطائف إسناده : منها أن فيه التحديث والعنعنة ، ومنها أن بريدا يروي عن جده وجده عن أبيه ، وهذه لطيفة .

                                                                                                                                                                                  [ ص: 77 ] ومنها أن رواته كلهم كوفيون ، ومنها أن فيه عن أبي بردة عن أبي موسى ، ولم يقل عن أبي بردة عن أبيه ، قال بعضهم : إنما قال ذلك تفننا ، قلت : التفنن هو التنوع في أنواع الكلام وأساليبه ، من الفن واحد الفنون وهي الأنواع ، ولا يكون ذلك إلا باختلاف العبارات وليس ها هنا إلا عبارة واحدة فكيف يكون من هذا القبيل .

                                                                                                                                                                                  بيان من أخرجه غيره : أخرجه البخاري ها هنا فقط ، وأخرجه مسلم في فضائل النبي صلى الله عليه وسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة وعبد الله بن براد وأبي كريب والنسائي في العلم عن القاسم بن زكريا الكوفي ، ثلاثتهم عن أبي أسامة عنه به .

                                                                                                                                                                                  بيان اللغات : قوله " مثل " بفتح الميم والثاء المثلثة ، المراد به ها هنا الصفة العجيبة لا القول السائر ، قوله “ من الهدى " قال الجوهري : الهدى الرشاد والدلالة ، يذكر ويؤنث ، يقال : هداه الله للدين هدى وهديته الطريق والبيت هداية أي عرفته ، هذه لغة أهل الحجاز وغيرهم تقول هديته إلى الطريق وإلى الدار ، حكاها الأخفش ، وهدى واهتدى بمعنى ، وفي الاصطلاح : الهدى هو الدلالة الموصلة إلى البغية ، قوله “ والعلم " هو صفة توجب تمييزا لا يحتمل متعلقه النقيض ، والمراد به ها هنا الأدلة الشرعية ، قوله “ الغيث " هو المطر ، وغيثت الأرض فهي مغيثة ومغيوثة ، يقال : غاث الغيث الأرض إذا أصابها ، وغاث الله البلاد يغيثها غيثا ، قوله “ نقية " بفتح النون وكسر القاف وتشديد الياء آخر الحروف من النقاء ، هكذا هو عند البخاري في جميع الروايات ، ووقع عند الخطابي والحميدي وفي حاشية أصل أبي ذر ثغبة بفتح الثاء المثلثة وكسر الغين المعجمة بعدها باء موحدة خفيفة مفتوحة ، قال الخطابي : هي مستنقع الماء في الجبال والصخور ، وقال الصغاني : الثغب بالتحريك الغدير يكون في ظل جبل لا تصيبه الشمس فيبرد ماؤه ، والجمع ثغبان مثل شبث وشبثان وقد يسكن فيقال ثغب ويجمع على ثغبان مثل ظهر وظهران ويجمع على ثغاب أيضا ، وقال صاحب المطالع : هذه الرواية غلط من الناقلين وتصحيف وإحالة للمعنى لأنه إنما جعلت هذه الطائفة الأولى مثلا لما تنبت والثغبة لا تنبت ، ويروى بقعة ، ويروى " طيبة " كما في رواية مسلم ، قوله “ قبلت الماء " من القبول وهي بفتح القاف وكسر الباء الموحدة ، قال الشيخ قطب الدين : وهذا الموضع لا خلاف فيه ، قلت : أشار به إلى أن الخلاف في قوله قال إسحاق " وكان منها طائفة قبلت الماء " يعني هل يقال فيه بالباء الموحدة أو بالياء آخر الحروف على ما يجيء عن قريب إن شاء الله تعالى ، وقال بعضهم : كذا هو في معظم الروايات ، ووقع عند الأصيلي : قيلت بتشديد الياء آخر الحروف ، قلت : ذكر هذا ها هنا غير مناسب لأن هذا الموضع لا خلاف فيه كما قاله الشيخ قطب الدين ، وإنما يذكر هذا عند قول إسحاق ، قوله “ الكلأ " بفتح الكاف واللام وفي آخره همزة بلا مد ، قال الصغاني : الكلأ العشب ، وقد كلئت الأرض فهي كليئة ، ثم قال في باب العشب : العشب الكلأ الرطب ولا يقال له حشيش حتى يهيج ، وأعشبت الأرض إذا أنبتت العشب ، وقال في باب الحشيش : الحشيش الكلأ اليابس ولا يقال له رطب حشيش ، قلت : علم من كلامه أن الكلأ يطلق على الرطب من النبات واليابس منه ، وكذا صرح به ابن فارس والجوهري والقاضي عياض : الكلأ يطلق على الرطب واليابس من النبات ، وفهم من قول الصغاني أيضا أن الحشيش لا يطلق على الرطب ، كذا صرح به الجوهري وهو منقول عن الأصمعي ذكره البطليوسي في أدب الكتاب ، ونقل عن أبي حاتم إطلاقه عليه ، وقال الكرماني : الكلأ بالهمزة هو النبات يابسا ورطبا ، وأما العشب والخلأ مقصورا فمختصان بالرطب ، والحشيش مختص باليابس ، قلت : قال الجوهري : الخلأ مقصور الحشيش اليابس ، الواحدة خلأة ، والصواب مع الكرماني ، فالجوهري سهى فيه لأن الخلأ الرطب ، فإذا يبس فهو حشيش ، قوله “ أجادب " بالجيم وبالدال المهملة ، جمع جدب على غير قياس كما قالوا في حسن جمعه محاسن ، والقياس أنه جمع محسن أو جمع جديب ، وهو من الجدب الذي هو القحط ، والأرض الجدبة التي لم تمطر ، والمراد ها هنا الأرض التي لا تشرب لصلابتها فلا تنبت شيئا ، وفي العباب : أرض جدبة وجدوب أيضا وأرضون جدوب ومكان جدب وجديب بين الجدوبة وعام جدب وأجدب القوم أصابهم الجدب وأجدبت أرض كذا أي وجدتها جدبة ، وقال ابن السكيت : جادبت الإبل العام إذا كان العام محلا فصارت لا تأكل إلا الدرين الأسود ودرين الثمام ، وهكذا هو عامة الروايات في البخاري ورواية مسلم أيضا هكذا ، وضبطه المازري بالذال المعجمة وكذا ذكره الخطابي ، وقال : هي صلاب الأرض التي تمسك الماء ، وقال القاضي : هذا وهم ، قلت : إن صح ما قاله الخطابي يكون من الجذب وهو انقطاع الريق ، قاله أبو عمرو ، ويقال للناقة إذا قل لبنها قد جذبت فهي جاذب والجمع جواذب [ ص: 78 ] وجذاب أيضا مثل نائم ونيام ، ورواها الإسماعيلي عن أبي يعلى عن أبي كريب ، أحارب بحاء وراء مهملتين ، قال الإسماعيلي : لم يضبطه أبو يعلى ، وقال الخطابي : ليست هذه الرواية بشيء ، قلت : إن صح هذا يكون من الحرباء وهي النشز من الأرض ، ومثل هذه لا تمسك الماء لأنه ينحدر عنها ، وقال الخطابي : قال بعضهم : أجارد بجيم وراء ثم دال مهملة جمع جرداء وهي البارزة التي لا تنبت شيئا ، قال : وهو صحيح المعنى إن ساعدته الرواية ، وقال الأصمعي : الأجارد من الأرض التي لا تنبت الكلأ معناه أنها جرداء بارزة لا يسترها النبات ، وفي رواية أبي ذر : إخاذات بكسر الهمزة وبالخاء والذال المعجمتين وفي آخره تاء مثناة من فوق جمع إخاذة وهي الأرض التي تمسك الماء ، ويقال : هي الغدران التي تمسك الماء ، وقال أبو الحسين عبد الغافر الفارسي : هو الصواب ، وقال الشيخ مغلطاي : قال بعضهم إنما هي أخذات ، سقط منها الألف والأخذات مساكات الماء ، واحدتها أخذة ، قلت : على ما قاله البعض ينبغي أن تفتح الهمزة في الأخذات وفي الأخذة أيضا الذي هو مفردها ، وليس كذلك بل هي بكسر الهمزة في الجمع والمفرد ، وفي العباب الأخذ جمع إخاذ وهو كالغدير مثال كتاب وكتب ، وقال أبو عبيدة : الأخاذة والأخاذ بالهاء وبغير الهاء صنع للماء ليجتمع فيه ; وسمي إخاذا لأنه يأخذ ماء السماء ، ويقال له المساكة لأنه تمسكه ، ونهيا ونهيا وتنهية لأنه ينهاه ويحبسه ويمنعه من الجري ويسمى حاجزا لأنه يحجزه ، وحائرا لأنه يحار الماء فيه فلا يدري كيف يجري ، وقال صاحب المطالع : هذه كلها منقولة مروية ، قلت : وليس في الصحيحين إلا روايتان ، وقال القاضي عياض في شرح مسلم : لم يرو هذا الحرف في مسلم وغيره إلا بالدال المهملة ، من الجدب الذي ضد الخصب ، وعليه شرح الشارحون .

                                                                                                                                                                                  قوله " وسقوا " قال أهل اللغة : سقى وأسقى بمعنى ، لغتان ، وقيل سقاه ناوله ليشرب وأسقاه جعل له سقيا ، قوله “ طائفة " أي قطعة أخرى من الأرض ، قوله “ قيعان " بكسر القاف جمع القاع وهي الأرض المتسعة ، وقيل الملساء وقيل التي لا نبات فيها ، وهذا هو المراد في الحديث ، قلت : أصل قيعان قوعان قلبت الواو ياء لسكونها وانكسار ما قبلها ، والقاع يجمع أيضا على أقوع وأقواع ، والقيعة بكسر القاف بمعنى القاع ، قوله “ من فقه " قال النووي : روي هنا بالوجهين بالضم والكسر والضم أشهر ، قلت : الفقه الفهم ، يقال فقه بكسر القاف كفرح يفرح ، وأما الفقه الشرعي فقالوا : يقال منه فقه بضم القاف ، وقال ابن دريد بكسرها ، والمراد به ها هنا هو الثاني ، فتضم القاف على المشهور ، وعلى قول ابن دريد تكسر ، وقد مر الكلام فيه مستوفى .

                                                                                                                                                                                  بيان الإعراب : قوله " مثل ما " كلام إضافي مبتدأ وخبره قوله “ كمثل الغيث " وما موصولة و " بعثني الله " جملة صلتها والعائد قوله “ به " قوله “ من الهدى " كلمة من بيانية ، قوله “ والعلم " بالجر عطف عليه ، قوله “ أصاب أرضا " جملة من الفعل والفاعل والمفعول في محل النصب على الحال بتقدير قد ، قوله “ فكان " الفاء للعطف " ونقية " بالرفع اسم كان " ومنها " مقدما خبره ، قوله “ قبلت الماء " جملة من الفعل والفاعل والمفعول في محل الرفع على أنها صفة لنقية ، قوله “ فأنبتت " عطف على قبلت ، و " الكلأ " منصوب به ، و " العشب " عطف عليه ، و " الكثير " بالنصب صفة العشب ، قوله “ وكانت " عطف على قوله " فكان " و " أجادب " بالرفع اسم كان ، وخبره قوله “ منها " مقدما ، قوله “ أمسكت الماء " جملة من الفعل والفاعل والمفعول في محل الرفع على أنها صفة أجادب ، قوله “ فنفع الله " جملة معطوفة على التي قبلها والفاء التعقيبية يكون التعقيب فيها بحسب الشيء الذي يدخل فيه ، قوله “ فشربوا وسقوا وزرعوا " جمل عطف بعضها على بعض ، قوله “ وأصاب " عطف على قوله " أصاب أرضا " والضمير فيه يرجع إلى الغيث كما في أصاب الأول و " طائفة " منصوب به لأنه مفعول ، و " أخرى " صفة طائفة ، قوله “ منها " حال متقدم من طائفة ، وقد علم أن الحال إذا كان عن نكرة تتقدم على صاحبها ، وفي رواية الأصيلي وكريمة " أصابت " والتقدير أصابت طائفة أخرى ، ووقع كذلك صريحا عند النسائي ، قوله “ إنما هي قيعان " أي ما هي إلا قيعان لأن إنما من أدوات الحصر وهي مبتدأ وقيعان خبره ، قوله “ لا تمسك ماء " في محل الرفع لأنه صفة قيعان ، قوله “ ولا يثبت كلأ " عطف عليه وهو أيضا صفته ، قوله “ فكذلك " الفاء فيه تفصيلية وذلك إشارة إلى ما ذكر من الأقسام الثلاثة وهو في محل الرفع على الابتداء ، وقوله " مثل من فقه " كلام إضافي خبره ، قوله “ ونفعه " جملة من الفعل والمفعول عطف على " من فقه " وقوله " ما بعثني الله " في محل الرفع على أنه فاعل لقوله " ونفعه " وما موصولة و" بعثني الله به " جملة صلتها ، قوله “ فعلم " عطف على قوله " فقه " و " علم " عطف على علم ، قوله “ ومثل من " كلام إضافي عطف على قوله " مثل [ ص: 79 ] من فقه " و " من " موصولة " ولم يرفع بذلك رأسا " صلتها ، قوله “ ولم يقبل " عطف على " من لم يرفع " و " هدى الله " كلام إضافي مفعول لم يقبل ، وقوله " الذي أرسلت به " .في محل النصب لأنه صفة " هدى " و " أرسلت " مجهول ، والضمير في به يرجع إلى " الذي " فافهم .

                                                                                                                                                                                  بيان المعاني : فيه عطف المدلول على الدليل لأن الهدى هو الدلالة والعلم هو المدلول وجهة الجمع بينهما هو النظر إلى أن الهدى بالنسبة إلى الغير أي التكميل والعلم بالنسبة إلى الشخص أي الكمال ، ويقال الهدى الطريقة والعلم هو العمل ، وفيه عطف الخاص على العام لأن العشب أعم من الكلأ كما ذكرناه ، والتخصيص بالذكر لفائدة الاهتمام به لشرفه ونحوه ، وفيه حذف المفاعيل من قوله " فشربوا وسقوا وزرعوا " لكونها معلومة ولأنها فضلة في الكلام والتقدير : فشربوا من الماء وسقوا دوابهم وزرعوا ما يصلح للزرع ، وفيه ضرب الأمثال ، وقال الخطابي : هذا مثل ضرب لمن قبل الهدى وعلم ثم علم غيره فنفعه الله ونفع به ، ومن لم يقبل الهدى فلم ينفع بالعلم ولم ينتفع به ، قلت : فعلى هذا لم يجعل الناس على ثلاثة أنواع بل على نوعين ، وقال الطيبي : القسمة الثنائية هي المتصورة ، وذلك أن " أصاب منها طائفة " معطوف على أصاب أرضا ، و " كانت " الثانية معطوفة على كان لا على أصاب ، وقسمت الأرض الأولى إلى النقية وإلى الأجادب والثانية على عكسها ، وفي كان ضم وتر إلى وتر ، وفي أصاب ضم شفع إلى شفع وهو نحو قوله تعالى : إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات من جهة أنه عطف الإناث على الذكور أولا ثم عطف الزوجين على الزوجين ، وكذا ها هنا عطف كانت على كانت ثم عطف أصاب على أصاب ، فالحاصل أنه قد ذكر في الحديث الطرفان العالي في الاهتداء والعالي في الضلال فعبر عمن قبل هدى الله والعلم بقوله " فقه " وعمن أبى قبولها بقوله " لم يرفع بذلك رأسا " لأن ما بعدها وهو " نفعه " إلى آخره في الأول " ولم يقبل هدى الله " إلى آخره في الثاني ، عطف تفسيري لفقه ، ولقوله " لم يرفع " وذلك لأن الفقيه هو الذي علم وعمل ثم علم غيره وترك الوسط وهو قسمان أحدهما الذي انتفع بالعلم في نفسه فحسب ، والثاني الذي لم ينتفع هو بنفسه ولكن نفع الغير ، وقال المظهري في شرح المصابيح : اعلم أنه ذكر في تقسيم الأرض ثلاثة أقسام وفي تقسيم الناس باعتبار قبول العلم قسمين ، أحدهما : من فقه ونفع الغير ، والثاني : من لم يرفع به رأسا ، وإنما ذكره كذلك لأن القسم الأول والثاني من أقسام الأرض كقسم واحد من حيث إنه ينتفع به ، والثاني هو ما لا ينتفع به ، وكذلك الناس قسمان : من يقبل ومن لا يقبل ، وهذا يوجب جعل الناس في الحديث على قسمين : من ينتفع به ومن لا ينتفع ، وأما في الحقيقة فالناس على ثلاثة أقسام : فمنهم من يقبل من العلم بقدر ما يعمل به ولم يبلغ درجة الإفادة ، ومنهم من يقبل ويبلغ ، ومنهم من لا يقبل ، وقال الكرماني : ويحتمل لفظ الحديث تثليث القسمة في الناس أيضا بأن يقدر قبل لفظة نفعه كلمة من بقرينة عطفه على من فقه كما في قول حسان رضي الله عنه :

                                                                                                                                                                                  أمن يهجو رسول الله منكم ويمدحه وينصره سواء

                                                                                                                                                                                  إذ تقديره ومن يمدحه ، وحينئذ يكون الفقيه بمعنى العالم بالفقه مثلا في مقابلة الأجادب ، والنافع في مقابلة النقية على اللف والنشر غير المرتب ومن لم يرفع في مقابلة القيعان " فإن قلت " لم حذف لفظة من ؟ قلت : إشعارا بأنهما في حكم شيء واحد ، أي في كونه ذا انتفاع في الجملة كما جعل للنقية والأجادب حكما واحدا ولهذا لم يعطف بلفظ أصاب في الأجادب ، انتهى .

                                                                                                                                                                                  وقال النووي : معنى هذا التمثيل أن الأرض ثلاثة أنواع فكذلك الناس ، فالنوع الأول من الأرض ينتفع بالمطر فتحيا بعد أن كانت ميتة وتنبت الكلأ فينتفع به الناس والدواب ، والنوع الأول من الناس يبلغه الهدى والعلم فيحفظه ويحيا قلبه ويعمل به ويعلمه غيره فينتفع وينفع ، والنوع الثاني من الأرض ما لا يقبل الانتفاع في نفسها لكن فيها فائدة وهي إمساك الماء لغيرها فينتفع به الناس والدواب وكذا النوع الثاني من الناس لهم قلوب حافظة لكن ليست لهم أذهان ثاقبة ولا رسوخ لهم في العلم يستنبطون به المعاني والأحكام وليس لهم اجتهاد في العمل به فهم يحفظونه حتى يجيء أهل العلم للنفع والانتفاع فيأخذه منهم فينتفع به فهؤلاء نفعوا بما بلغهم ، والثالث من الأرض هو السباخ التي لا تنبت فهي لا تنتفع بالماء ولا تمسكه لينتفع به غيرها ، وكذلك الثالث من الناس ليست لهم قلوب حافظة ولا أفهام واعية فإذا سمعوا العلم لا ينتفعون به ولا يحفظونه لنفع غيرهم ، الأول المنتفع النافع ، والثاني النافع غير المنتفع ، والثالث غير النافع وغير المنتفع ، فالأول إشارة إلى العلماء ، والثاني إلى النقلة ، والثالث إلى من لا علم له ولا نقل ، قلت : الصواب مع الطيبي لأن تقسيم الأرض وإن كان ثلاثة [ ص: 80 ] بحسب الظاهر ولكنه في الحقيقة قسمان لأن النوعين محمودان ، والثالث مذموم ، وتقسيم الناس نوعان أحدهما ممدوح أشار إليه بقوله " مثل من فقه في دين الله تعالى " إلخ ، والآخر مذموم ، أشار إليه بقوله " ومثل من لم يرفع بذلك رأسا " وما ذكره الكرماني تعسف ، وهذا التقدير الذي ذكره غير سائغ في الاختيار ، وباب الشعر واسع ، وأيضا يلزمه أن يكون تقسيم الناس أربعة : الأول قوله “ مثل من فقه في دين الله تعالى " والثاني قوله “ ونفعه ما بعثني الله به " على قوله ، والثالث قوله “ ومثل من لم يرفع بذلك رأسا " والرابع " ولم يقبل هدى الله " قوله “ فنفع الله بها " أي بأجادب ، وفي رواية الأصيلي به وتذكيره الضمير باعتبار الماء ، قوله “ وزرعوا " من الزرع ، كذا رواية البخاري ، ولمسلم والنسائي وغيرهما " ورعوا " من الرعي ، قال النووي : كلاهما صحيح ، ورجح القاضي عياض رواية مسلم ، وقال : هو راجع إلى الأولى لأن الثانية لم يحصل منها نبات ، قلت : ويمكن أن يرجع إلى الثانية أيضا بمعنى أن الماء الذي استقر بها سقيت منه أرض أخرى فأنبتت ، وقال الشيخ قطب الدين : ويحتمل أن يريد بقوله " ورعوا " الناس الذين أخذوا العلم عن الذين حملوه على الناس وهم غير الأصناف الثلاثة على رأي جماعة ، وروي " ووعوا " وهو تصحيف ، قوله “ من لم يرفع بذلك رأسا " يعني تكبر ، يقال ذلك ويراد به أنه لم يلتفت إليه من غاية تكبره .

                                                                                                                                                                                  بيان البيان : فيه تشبيه ما جاء به النبي عليه الصلاة والسلام من الدين بالغيث العام الذي يأتي الناس في حال حاجتهم إليه وتشبيه السامعين له بالأرض المختلفة ، فالأول تشبيه المعقول بالمحسوس ، والثاني تشبيه المحسوس بالمحسوس ، وعلى قول من يقول بتثليث القسمة يكون ثلاث تشبيهات على ما لا يخفى ، ويحتمل أن يكون تشبيها واحدا من باب التمثيل أي تشبيه صفة العلم الواصل إلى أنواع الناس من جهة اعتبار النفع وعدمه بصفة المطر المصيب إلى أنواع الأرض من تلك الجهة ، وقوله " فذلك مثل من فقه " تشبيه آخر ذكر كالنتيجة للأول ولبيان المقصود منه ، والتشبيه هو الدلالة على مشاركة أمر لأمر في وصف من أوصاف أحدهما في نفسه كالشجاعة في الأسد والنور في الشمس ولا بد فيه من المشبه والمشبه به وأداة التشبيه ووجه الشبه ، أما المشبه والمشبه به فظاهران وكذا أداة التشبيه وهي الكاف ، وأما وجه الشبه فهو الجهة الجامعة بين العلم والغيث ، فإن الغيث يحيي البلد الميت والعلم يحيي القلب الميت ، فإن قلت : لم اختير الغيث من بين سائر أسماء المطر ؟ قلت : ليؤذن باضطرار الخلق إليه حينئذ ، قال تعالى : وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا وقد كان الناس قبل المبعث قد امتحنوا بموت القلوب وتصوب العلم حتى أصابهم الله برحمة من عنده ، وفيه التفصيل بعد الإجمال ، فقوله " أصاب أرضا " مجمل ، وقوله " فكان منها نقية " إلى آخره تفصيل ; فلذلك ذكره بالفاء ، فإن قلت : لم كرر لفظة " مثل " في قوله " من لم يرفع " أجيب بأنه نوع آخر مقابل لما تقدم فلذلك كرره .




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية