الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  149 16 - حدثنا أبو الوليد هشام بن عبد الملك قال : حدثنا شعبة عن أبي معاذ ، واسمه عطاء بن أبي ميمونة قال : سمعت أنس بن مالك يقول : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا خرج لحاجته أجيء أنا وغلام معنا إداوة من ماء ، يعني : يستنجي به .

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقة الحديث للترجمة في قوله : « يعني يستنجي به " لأن البخاري قصد بهذه الترجمة الرد على من كره الاستنجاء بالماء وعلى من نفى وقوعه من النبي عليه الصلاة والسلام ، وهؤلاء قد ذهبوا في ذلك إلى ما روى ابن أبي شيبة بأسانيد صحيحة عن حذيفة بن اليمان أنه سئل عن الاستنجاء بالماء فقال : إذن لا يزال في يدي نتن ، وعن نافع عن ابن عمر كان لا يستنجي بالماء ، وعن ابن الزبير قال : ما كنا نفعله ، ونقل عن ابن التين عن مالك أنه أنكر أن يكون النبي عليه الصلاة والسلام استنجى بالماء ، وعن ابن حبيب من المالكية أنه منع الاستنجاء بالماء ; لأنه مطعوم .

                                                                                                                                                                                  فإن قلت : ليس في الحديث ما يطابق الترجمة ; لأن الأصيلي زعم فيما ذكره المهلب أن الاستنجاء بالماء ليس بالبين في هذا الحديث ; لأن قوله : « فيستنجي به " ليس من قول أنس بن مالك ، إنما هو من قول أبي الوليد ، وقد رواه سليمان بن حرب عن شعبة ، لم يذكر "فيستنجي به" ، فيحتمل أن يكون الماء لطهوره أو الوضوء به ، وقال السفاقسي مثله زاد وقال أبو عبد الملك هو قول ابن معاذ الرازي عن أنس قال : وذلك أنه لم يصح أن النبي - عليه الصلاة والسلام - استنجى بالماء .

                                                                                                                                                                                  قلت : ذكر البخاري فيما يأتي من طريق ابن بشار عن غندر ، عن شعبة بلفظ : يستنجي بالماء ، ثم ذكر من تابعه على لفظة "فيستنجي" بخلاف لفظ أبي الوليد ، وفي رواية الإسماعيلي من طريق عمرو بن مرزوق عن شعبة فأنطلق أنا وغلام من الأنصار معنا إداوة فيها ماء يستنجي منها النبي - عليه الصلاة والسلام - ، وفي رواية البخاري أيضا من طريق [ ص: 288 ] روح بن القاسم عن عطاء بن ميمونة "إذا تبرز لحاجته أتيته بماء فيغتسل به" ، وفي رواية مسلم من طريق خالد الحذاء عن عطاء عن أنس "فخرج علينا وقد استنجى بالماء" ، وكذا عند أبي عوانة في صحيحه "فيخرج عليها وقد استنجى بالماء" ، وتبين بهذه الروايات أن حكاية الاستنجاء من قول أنس راوي الحديث ، وقال بعضهم : ووقع هنا في نكت البدر الزركشي تصحيف ; فإنه نسب التعقيب المذكور إلى الإسماعيلي ، وإنما هو للأصيلي ، وأقره فكأنه ارتضاه وليس بمرضي ، وكذا نسبه الكرماني إلى ابن بطال وأقره عليه ، وابن بطال إنما أخذه عن الأصيلي .

                                                                                                                                                                                  قلت : مثل هذا لا يسمى تصحيفا ; لأن التصحيف الخطأ في الصحيفة بأن يذكر موضع الحاء المهملة مثلا الخاء المعجمة ، وموضع العين المهملة الغين المعجمة ، ونحو ذلك ، وأصل التعقيب المذكور ليس للأصيلي أيضا ، وإنما هو للمهلب ، كما ذكرناه ، وابن بطال وغيره نقلوه هكذا ، ولم يذكروا المقول منه ، فبهذا لا يتوجه عليهم التشنيع .

                                                                                                                                                                                  ثم اعلم أن الأحاديث قد تظاهرت بالإخبار عن استنجاء النبي عليه الصلاة والسلام بالماء وبالأمر به ، فمنها ما رواه البخاري من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما "أن النبي - عليه الصلاة والسلام - دخل الخلاء فوضعت له وضوءا" الحديث ، وقد مر بيانه ، ومنها ما رواه مسلم في صحيحه لما عد الفطرة عشرة ، عد منها انتقاص الماء ، وفسر بالاستنجاء ، ومنها ما رواه ابن خزيمة في صحيحه من حديث إبراهيم بن جرير عن أبيه "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل الغيضة فقضى حاجته فأتاه جرير بإداوة من ماء فاستنجى منها ومسح يده بالتراب" .

                                                                                                                                                                                  ومنها ما رواه ابن حبان في صحيحه عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج من غائط قط إلا مس ماء" ، ومنها ما رواه الترمذي من حديث أبي عوانة ، عن قتادة ، عن معاذة ، عن عائشة أنها قالت : مرن أزواجكن أن يغسلوا أثر الغائط والبول ; فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يفعله ، وقال : حسن صحيح .

                                                                                                                                                                                  فإن قلت : سأل حرب أبا عبد الله عنه قال لا يصح في الاستنجاء بالماء حديث ، قال : فحديث عائشة قال : لا يصح ; لأن غير قتادة لا يرفعه . قلت : فيه نظر ; لأن قتادة إمام حافظ إذا انفرد برفع حديث قبل منه إجماعا ، ورفعه غير قتادة أيضا ، وهو ابن شوذب عن يزيد وإبراهيم بن طهمان وأبو زيد عن أيوب ، كذا في العلل لأبي إسحاق الحربي .

                                                                                                                                                                                  فإن قلت : قال الحربي والحديث عندي موقوف لكثرة من أجمع على ذلك . قلت : قد رفعه من ذكرناهم وهم حجة ، ولا سيما فيهم قتادة وبه الكفاية ، وأما قول أحمد بن حنبل : لم يصح في الاستنجاء بالماء حديث مردود بما ذكرنا من الأحاديث ، وبما رواه ابن حبان أيضا في صحيحه من حديث أبي هريرة أن النبي عليه الصلاة والسلام قضى حاجته ، ثم استنجى من تور ، رواه عن إسحاق بن إبراهيم وإسماعيل بن مبشر قالا : حدثنا عبيد بن آدم بن أبي إياس ، حدثنا أبي ثنا شريك عن إبراهيم بن جرير عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير عنه .

                                                                                                                                                                                  فإن قلت : قال أبو الحسن بن القطان في كتابه الوهم والإيهام : إنه لا يصح لعلتين إحداهما : شريك ; فإنه سيء الحفظ مشهور التدليس ، وهو في سوء الحفظ مثل ابن أبي ليلى وقيس بن الربيع ، وكلهم اعتراهم سوء الحفظ لما ولوا القضاء ، الثانية : إبراهيم لا يعرف حاله ، وهو كوفي يروي عن أبيه مرسلا ، ومنهم من يقول حدثني أبي .

                                                                                                                                                                                  قلت : تدليس شريك المخوف زال بحديث آدم عنه المصرح فيه بحدثنا عن إبراهيم ، كما مر ، وتسويته بين شريك وقيس وابن أبي ليلى في سوء الحفظ غير جيد ; لأنه ممن قال فيه يحيى : ثقة ، وهو أحب إلي من أبي الأحوص ، وجرير ليس يقاس هؤلاء به ، وقال أحمد : فيه نحو ذلك وزاد ، وهو في أبي إسحاق أثبت من زهير وإسرائيل ، وقال وكيع : لم نر أحدا من الكوفيين مثله ، وقال ابن سعد : ثقة مأمون كثير الحديث ، وثقه وعظمه غير هؤلاء ، فكيف يقاس بمن قيل فيه كثير الخطأ رديء الحفظ كثير المناكير في حديثه ، فاستحق الترك ، تركه أحمد ويحيى وزائدة ، يعني ابن أبي ليلى ، وقال ابن طاهر : أجمعوا على ضعفه ، وقال أحمد في قيس : ترك الناس حديثه ، وأساء الثناء عليهما غير واحد ، وقوله في إبراهيم : لا يعرف حاله ، مردود برواية جماعة عنهم ، منهم أبان بن عبد الله وحميد بن مالك وزياد بن أبي سفيان وقيس بن أسلم وداود بن عبد الجبار وغيرهم ، وقال أبو حاتم الرازي : يكتب حديثه ، وذكره ابن حبان في كتاب الثقات ، وقال ابن عدي : أحاديثه مستقيمة تكتب ، وقوله : « ومنهم من يقول حدثني أبي " وأغضى على ذلك هو لا يستقيم ، وأنى له السماع من أبيه مع قول الآجري والحربي وابن سعد ولد بعد موت أبيه .

                                                                                                                                                                                  ومنها ما رواه ابن ماجه عن عائشة من طريق ضعيفة أن النبي - عليه الصلاة والسلام - كان يغسل مقعدته ثلاثا ، وفي لفظ " استنجوا [ ص: 289 ] بالماء البارد فإنه مصحة للبواسير " ، ومنها ما رواه ابن حبيب في شرح الموطأ .

                                                                                                                                                                                  حدثنا أسيد بن موسى وغيره عن السري بن يحيى ، عن أبان بن أبي عياش أن النبي - عليه الصلاة والسلام - قال " استنجوا بالماء ; فإنه أطهر وأطيب " وأبان هذا متروك .

                                                                                                                                                                                  ( بيان رجاله ) وهم أربعة .

                                                                                                                                                                                  الأول : أبو الوليد هشام ، بكسر الهاء ابن عبد الملك الطيالسي البصري مر في كتاب علامة الإيمان حب الأنصار .

                                                                                                                                                                                  الثاني : شعبة بن الحجاج ، وقد مر .

                                                                                                                                                                                  الثالث : أبو معاذ ، بضم الميم وبالذال المعجمة ، واسمه عطاء بن ميمونة البصري التابعي مولى أنس ، وقيل : مولى عمران بن حصين ، مات بعد الثلاثين ومائة ، وكان يرى القدر .

                                                                                                                                                                                  الرابع : أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه .

                                                                                                                                                                                  ( بيان لطائف إسناده ) .

                                                                                                                                                                                  منها أن فيه التحديث والعنعنة والسماع ، ومنها أن رواته كلهم بصريون ، ومنها أنهم كلهم من فرسان الصحيحين ، والأربعة إلا عطاء فإن الترمذي لم يخرج له ، ومنها أنه من رباعيات البخاري .

                                                                                                                                                                                  ( بيان تعدد موضعه ، ومن أخرجه غيره ) .

                                                                                                                                                                                  أخرجه البخاري أيضا في الطهارة عن سليمان بن حرب وعن بندار عن غندر ، وفي الصلاة أيضا عن محمد بن حاتم بن بزيغ عن أسود بن عامر شاذان ، ثلاثتهم عن شعبة ، وفي الطهارة أيضا عن يعقوب الدورقي عن إسماعيل بن علية عن روح بن القاسم كلاهما عنه به ، وأخرجه مسلم في الطهارة عن أبي بكر بن أبي شيبة عن وكيع وغندر ، وعن أبي موسى محمد بن المثنى عن غندر كلاهما عن شعبة به ، وعن زهير بن حرب وأبي كريب كلاهما عن إسماعيل بن علية به ، وعن يحيى بن يحيى عن خالد بن عبد الله الواسطي عن خالد هو الحذاء عنه به .

                                                                                                                                                                                  وأخرجه أبو داود في الطهارة عن وهب بن بقية عن خالد الواسطي به ، وأخرجه النسائي فيه عن إسحاق بن إبراهيم عن النضر بن شميل عن شعبة به .

                                                                                                                                                                                  ( بيان اللغات )

                                                                                                                                                                                  قوله : « وغلام " هو الذي طر شاربه ، وقيل : هو من حين يولد إلى أن يشب ، وزعم الزمخشري أن الغلام هو الصغير إلى حد الالتحاء ، فإن أجري عليه بعد ما صار ملتحيا اسم الغلام فهو مجاز ، ويروى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه في بعض أراجيزه : أنا الغلام الهاشمي المكي ، وقالت ليلى الأخيلية في الحجاج :

                                                                                                                                                                                  غلام إذ هز القناة تباهيا

                                                                                                                                                                                  . قال : وقال بعضهم : يستحق هذا الاسم إذا ترعرع وبلغ حد الاحتلام بشهوة النكاح كأنه يشتهي النكاح ذلك الوقت ، ويسمى الغلام قبل ذلك تفاؤلا ، وبعد ذلك مجازا ، وفي المخصص : هو غلام من لدن فطامه إلى سبع سنين ، وعن أبي عبيد : هو المترعرع المتحرك والجمع أغلمة وغلمة وغلمان ، والأنثى غلامة ، وفي الصحاح استغنوا بغلمة عن أغلمة ، وتصغير الغلمة أغيلمة على غير مكبرة ، كأنهم صغروا أغلمة وإن لم يقولوه .

                                                                                                                                                                                  وقال الخليل : الغلومة والغلامية ، والغلام هو الذي طر شاربه ، وفي الموعب لابن التياني : لا يقال للأنثى غلامة إلا في كلام قد ذهب في ألسنة الناس ، وفي الجمهرة غلام رعرع ورعراع ، ولا يكون ذلك إلا مع حسن الشباب .

                                                                                                                                                                                  قوله : « إداوة " بكسر الهمزة ، وهي إناء صغير من جلد تتخذ للماء كالسطيحة ونحوها ، والجمع أداوى ، قال الجوهري : الإداوة المطهرة والجمع أداوى .

                                                                                                                                                                                  ( بيان الإعراب ) .

                                                                                                                                                                                  قوله : « كان رسول الله - عليه الصلاة والسلام - " ارتفاع رسول الله بكان ، وخبره جملة قد حذف منها العائد ، وهو قوله : « أجيء أنا " تقديره : أجيئه أنا وغلام معي ، ويدل عليه الرواية الآتية "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا خرج لحاجته تبعته أنا وغلام منا" وكلمة إذا للظرف المحض ، ويحتمل أن يكون فيها معنى الشرط وجوابه .

                                                                                                                                                                                  قوله : « أجيء " والجملة تكون في محل نصب على أنها خبر كان ، وقوله : « أنا " ضمير مرفوع أبرز ليصح عطف غلام على ما قبله لئلا يلزم عطف اسم على فعل ، ويجوز وغلاما بالنصب على أن تكون الواو بمعنى مع ، قوله : « إداوة " مرفوع بالابتداء وخبره قوله : « معنا " مقدما ، والجملة في محل النصب على الحال بدون الواو ، كما في قوله تعالى اهبطوا بعضكم لبعض عدو وكلمة من في قوله : « من ماء " للبيان .

                                                                                                                                                                                  ( بيان المعاني ) .

                                                                                                                                                                                  قوله : « كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " هذه اللفظة مشعرة باستمرار ذلك واعتياده له ، قوله : « لحاجته " أراد بها ها هنا الغائط أو البول ، قوله ( أجيء أنا وغلام ) ، وصرح الإسماعيلي في روايته ( وغلام منا ) ، أي : من الأنصار ، وكذا في الرواية الآتية للبخاري ، وفي رواية مسلم ( وغلام نحوي ) ، أي : مثلي أراد مقارب لي في السن ، قوله : « معنا " أي : في صحبتنا إداوة قال صاحب المحكم : مع اسم معناه الصحبة متحركة وساكنة غير أن المتحركة العين تكون اسما وحرفا ، والساكنة [ ص: 290 ] العين تكون حرفا لا غير ، وهاهنا يجوز تسكين العين ، وكذا في معكم ، وعند اجتماعه بالألف واللام تفتح العين وتكسر ، فيقال مع القوم فتحا وكسرا ، وقال الجوهري : مع للمصاحبة ، وقد تسكن وتنون فيقال جاءوا معا ، قوله : « يعني يستنجي به " من كلام أنس رضي الله تعالى عنه ، وفاعل يستنجي رسول الله - صلى الله عليه وسلم ، والرواية الثالثة للبخاري الآتية عن قريب تدل على هذا ، وبهذا يرد على عبد الملك البوني في قوله : « هذا مدرج من قول عطاء الراوي عن أنس " فيكون مرسلا فلا حجة فيه ، حكاه عنه ابن التين وإليه ذهب الكرماني أيضا ، وكذا يرد على بعضهم في قوله : « قائل " يعني هو هشام ، أراد به هشام بن عبد الملك الطيالسي شيخ البخاري ، وقد مر تحقيق الكلام فيه عن قريب .

                                                                                                                                                                                  ( بيان استنباط الأحكام ) .

                                                                                                                                                                                  الأول : فيه خدمة الصالحين وأهل الفضل والتبرك بذلك ، وتفقد حاجاتهم خصوصا المتعلقة بالطهارة .

                                                                                                                                                                                  الثاني : فيه استخدام الرجل الصالح الفاضل بعض أتباعه الأحرار خصوصا إذا أرصدوا لذلك ، والاستعانة في مثل هذا ، فيحصل لهم الشرف بذلك ، وقد صرح الروياني من الشافعية بأنه يجوز أن يعير ولده الصغير ليخدم من يتعلم منه ، وخالف صاحب العدة فقال : ليس للأب أن يعير ولده الصغير لمن يخدمه ; لأن ذلك هبة لمنافعه ، فأشبه إعارة ماله ، وأوله النووي في الروضة فقال : هذا محمول على خدمة تقابل بأجرة ، أما ما كان لا يقابل بها ، فالظاهر والذي تقتضيه أفعال السلف أن لا منع منه ، وقال غيره من المتأخرين ينبغي تقييد المنع بما إذا انتفت المصلحة ، أما إذا وجدت كما لو قال لولده الصغير : اخدم هذا الرجل في كذا لتتمرن على التواضع ومكارم الأخلاق ، فلا منع منه ، وهو حسن .

                                                                                                                                                                                  الثالث : فيه التباعد لقضاء الحاجة عن الناس ، وقد اشتهر ذلك من فعله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم .

                                                                                                                                                                                  الرابع : فيه جواز الاستعانة في أسباب الوضوء .

                                                                                                                                                                                  الخامس : فيه اتخاذ آنية الوضوء كالإداوة ونحوها وحمل الماء معه إلى الكنيف .

                                                                                                                                                                                  السادس : فيه جواز الاستنجاء بالماء ، ولذلك ترجم البخاري عليه ، وفيه رد على من منع ذلك كما بيناه ، وأجابوا عن قول سعيد بن المسيب ، وقد سئل عن الاستنجاء بالماء أنه وضوء النساء بأنه لعل ذلك في مقابلة غلو من أنكر الاستنجاء بالأحجار ، وبالغ في إنكاره بهذه الصيغة ليمنعه من الغلو ، وحمله ابن قانع على أنه في حق النساء ، وأما الرجال فيجتمعون بينه وبين الأحجار ، حكاه الباجي عنه ، قال القاضي : والعلة عند سعيد في كونه وضوء النساء معناه أن الاستنجاء في حقهن بالحجارة متعذر ، وقال الخطابي : وزعم بعض المتأخرين أن الماء مطعوم ، فلهذا كره الاستنجاء به سعيد وموافقوه ، وهذا قول باطل منابذ للأحاديث الصحيحة .

                                                                                                                                                                                  وشذ ابن حبيب فقال : لا يجوز الاستنجاء بالأحجار مع وجود الماء ، وحكاه القاضي أبو الطيب عن الزيدية والشيعة وغيرهما ، والسنة قاضية عليهم استعمل الشارع الأحجار وأبو هريرة معه ومعه إداوة من ماء ، ومذهب جمهور السلف والخلف والذي أجمع عليه أهل الفتوى من أهل الأمصار أن الأفضل أن يجمع بين الماء والحجر فيقدم الحجر أولا ، ثم يستعمل الماء فتخف النجاسة وتقل مباشرتها بيده ، ويكون أبلغ في النظافة ; فإن أراد الاقتصار على أحدهما فالماء أفضل لكونه يزيل عين النجاسة وأثرها ، والحجر يزيل العين دون الأثر ، لكنه معفو عنه في حق نفسه ، وتصح الصلاة معه كسائر النجاسات المعفو عنها ، واحتج الطحاوي رحمه الله على الاستنجاء بالماء بقوله تعالى فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين قال الشعبي رحمه الله : لما نزلت هذه الآية قال النبي - صلى الله عليه وسلم - يا أهل قبا ، ما هذا الثناء الذي أثنى الله عليكم ؟ قالوا : ما منا أحد إلا وهو يستنجي بالماء .




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية