الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  192 58 - حدثنا عبد الله بن منير ، سمع عبد الله بن بكر قال : حدثنا حميد ، عن أنس قال : حضرت الصلاة ، فقام من كان قريب الدار إلى أهله وبقي قوم ، فأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بمخضب من حجارة فيه ماء ، فصغر المخضب أن يبسط فيه كفه ، فتوضأ القوم كلهم ، قلنا : كم كنتم؟ قال : ثمانين وزيادة .

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقة الحديث للترجمة ظاهرة في قوله : بمخضب من حجارة . . إلى آخره .

                                                                                                                                                                                  بيان رجاله :

                                                                                                                                                                                  وهم أربعة : الأول : عبد الله بن منير بضم الميم ، وكسر النون ، وسكون الياء آخر الحروف ، وفي آخره راء ، ووقع في رواية الأصيلي : ابن المنير ، بالألف واللام .

                                                                                                                                                                                  قلت : يجوز كلاهما كما عرف في موضعه ، وقد يلتبس هذا بابن المنير الذي له كلام في تراجم البخاري ، وفي غيرها ، وهو بضم الميم ، وفتح النون ، وتشديد الياء آخر الحروف ، وهو متأخر عن ذلك بزهاء أربعمائة سنة ، وهو أبو العباس أحمد بن أبي المعالي محمد ، كان قاضي إسكندرية ، وخطيبها ، وعبد الله بن منير الحافظ الزاهد السهمي المروزي ، مات سنة إحدى وأربعين ومائتين .

                                                                                                                                                                                  الثاني : عبد الله بن بكر أبو وهب البصري نزل بغداد ، وتوفي بها في خلافة المأمون سنة ثمان ومائتين .

                                                                                                                                                                                  الثالث : حميد بالتصغير ابن أبي حميد الطويل ، مات وهو قائم يصلي ، وقد تقدم في باب خوف المؤمن أن يحبط عمله .

                                                                                                                                                                                  الرابع : أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه .

                                                                                                                                                                                  بيان لطائف إسناده : منها أن فيه التحديث بصيغة الجمع ، والسماع ، والعنعنة .

                                                                                                                                                                                  ومنها : أن رواته ما بين مروزي ، وبصري .

                                                                                                                                                                                  بيان تعدد موضعه ، ومن أخرجه غيره :

                                                                                                                                                                                  أخرجه البخاري أيضا في علامات النبوة ، عن يزيد بن هارون .

                                                                                                                                                                                  وأخرجه مسلم ، ولفظه : كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بالزوراء ، والزوراء بالمدينة عند السوق والمسجد ، دعا بقدح فيه ماء ، فوضع كفه فيه ، فجعل ينبع من بين أصابعه ، فتوضأ جميع أصحابه ، قال : قلت : كم كانوا يا أبا حمزة ؟ قال : كانوا زهاء الثلاثمائة . وأخرجه الإسماعيلي وغيره .

                                                                                                                                                                                  بيان المعاني والإعراب :

                                                                                                                                                                                  قوله ( حضرت الصلاة ) هي صلاة العصر .

                                                                                                                                                                                  قوله ( من كان ) في محل الرفع ; لأنه فاعل قام .

                                                                                                                                                                                  قوله ( إلى أهله ) يتعلق بقوله ( فقام ) ، وذلك القيام كان لقصد تحصيل الماء ، والتوضؤ به .

                                                                                                                                                                                  قوله ( وبقي قوم ) أي عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ما غابوا عن مجلسه ، ولم يكونوا على الوضوء أيضا ، وإنما توضئوا من المخضب الذي أتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                                                                                                  قوله ( فأتي ) بضم الهمزة على صيغة المجهول .

                                                                                                                                                                                  قوله ( من حجارة ) كلمة "من" للبيان .

                                                                                                                                                                                  قوله ( فصغر المخضب ) أي لم يسع بسط [ ص: 89 ] الكف فيه لصغره ، وقد علم من ذلك أن المخضب يكون من حجارة وغيرها ، ويكون صغيرا وكبيرا .

                                                                                                                                                                                  قوله ( أن يبسط ) أي لأن يبسط ، وكلمة ( أن ) مصدرية ، أي لبسط الكف فيه .

                                                                                                                                                                                  قوله ( فتوضأ القوم ) أي القوم الذين بقوا عند النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك المخضب الصغير .

                                                                                                                                                                                  قوله ( قلنا ) وفي بعض النسخ ( فقلنا ) ، وفي بعضها : قلت - وهو من كلام حميد الطويل الراوي - عن أنس رضي الله تعالى عنه .

                                                                                                                                                                                  قوله ( كم كنتم ) مميز "كم" محذوف ، تقديره : كم نفسا كنتم ، وكذلك مميز ثمانين منصوب ; لأنه خبر للكون المقدر ، تقديره : كنا ثمانين نفسا وزيادة على الثمانين .

                                                                                                                                                                                  بيان استنباط الأحكام :

                                                                                                                                                                                  الأول : فيه دلالة على معجزة كبيرة للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم .

                                                                                                                                                                                  الثاني : فيه التهيؤ للوضوء عند حضور الصلاة .

                                                                                                                                                                                  الثالث : فيه أن الأواني كلها سواء كانت من الخشب أو من جواهر الأرض - طاهرة ، فلا كراهة في استعمالها .

                                                                                                                                                                                  وذكر أبو عبيد في ( كتاب الطهور ) ، عن ابن سيرين : كانت الخلفاء يتوضئون في الطشت . وعن الحسن : رأيت عثمان يصب عليه من إبريق . يعني نحاسا .

                                                                                                                                                                                  قال أبو عبيد : وعلى هذا أمر الناس في الرخصة والتوسعة في الوضوء في آنية النحاس ، وأشباهه من الجواهر ، إلا ما روي عن ابن عمر من الكراهة .

                                                                                                                                                                                  قلت : ذكر ابن أبي شيبة ، عن يحيى بن سليم ، عن ابن جريج ، قال : قال معاوية : كرهت أن أتوضأ في النحاس .

                                                                                                                                                                                  وفي كتاب ( الأشراف ) : رخص كثير من أهل العلم في ذلك . وبه قال الثوري ، وابن المبارك ، والشافعي ، وأبو ثور ، وما علمت أني رأيت أحدا كره الوضوء في آنية الصفر ، والنحاس ، والرصاص ، وشبهه . والأشياء على الإباحة ، وليس يحرم ما هو موقوف على ابن عمر .

                                                                                                                                                                                  وقال ابن بطال : وقد وجدت عن ابن عمر أنه توضأ فيه ، وهذه الرواية أشبه للصواب . وكان الشافعي ، وإسحاق ، وأبو ثور يكرهون الوضوء في آنية الذهب ، والفضة ، وبه نقول ، ولو توضأ فيه متوضئ أجزأه ، وقد أساء .

                                                                                                                                                                                  وعن أبي حنيفة رضي الله عنه : كان يكره الأكل والشرب في آنية الفضة ، وكان لا يرى بأسا بالمفضض ، وكان لا يرى بالوضوء منه بأسا .

                                                                                                                                                                                  قلت : أبو حنيفة كان يكره الأكل في آنية الذهب أيضا ، والمراد من الكراهة كراهة التحريم .

                                                                                                                                                                                  وفي ( سنن ) أبي داود بسند ضعيف ، عن عائشة رضي الله تعالى عنها : كنت أغتسل أنا ورسول الله عليه الصلاة والسلام في تور من شبه .

                                                                                                                                                                                  وفي ( مسند ) أحمد بسند صحيح ، عن زينب بنت جحش : أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يتوضأ من مخضب من صفر . الصفر بضم الصاد هو النحاس الجيد . قال أبو عبيدة : كسر الصاد فيه لغة ، ولم يجزه غيره ، ويقال له الشبه أيضا بفتحتين ; لأنه يشبه الذهب .




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية